المهرجان العالمي للحدائق
في نسخته الثانية والعشرين بمدينة شومون سور لوار الواقعة على مسافة 200 كيلومتر جنوب باريس، قدم المهرجان العالمي للحدائق تصاميم مدهشة لحدائق تجريبية فريدة موقّعة بأسماء مصمّمين وفنانين موهوبين جاؤوا من بلدان عديدة للمشاركة في هذه التظاهرة الفنية الفريدة والمميزة.
المهرجان العالمي للحدائق، منذ بدايته في عام 1992، شد أنظار العالم وأهتمام الكثيرين، ليس من المصممين والعاملين في مجال الديزاين وتنسيق الحدائق والمناظر الطبيعية فحسب، بل أثار أهتمام مناصري البيئة وعشاق الطبيعة وهواة الفنون، بالإضافة بالطبع إلى جمهور عريض يجد في هذه التظاهرة الفنية أفقاً جديداً يمكن الركون إليه لمنح الحياة اليومية ملاذاً يوفر المتعة والراحة.
والأعمال التي يقدمها هذا المهرجان، هي إقتراحات بديعة يمكن استنساخها في الكثير من البلدان، مما يساهم في تطوير عمل البستنة وتصميم الحدائق وإلحاقه بالأعمال الفنية.
أكثر من 300 مشروع قدّم إلى اللجنة المنظمة للمهرجان والتي يترأسها الصحافي والوجه التلفزيوني برنار بيفو، ليصار إلى اختيار 30 تصميما منها للتنفيذ، وجرى ذلك هذه السنة تحت عنوان «حدائق الأحاسيس».
حدائق حسّية
... حدائق حسية بامتياز، فريدة في مناخاتها الطريفة والغريبة المشبعة بالرموز والرسائل البيئية والحسية والتي تنشر في النفوس الفرح والتفاؤل.
عمل كل مصمم بأسلوبه على صنع المفاجأة باعتماد أساليب جديدة في التصميم وتطوير مظاهر الحديقة، بإمكانات وتقنيات حديثة.
ولم تغب عن تظاهرة هذا العام التأثيرات الفنية والاستعانة بتقنياتها المبتكرة والحديثة، فكان التلاعب بالألوان والروائح وصدى الأصوات والنغمات الموسيقية سمة بارزة في الأعمال المقدمة، بطرق شاعرية حالمة أو غريبة، جسورة وصادمة.
كما عكست أعمال المهرجان، فكرة الحدائق التي تختصر معظم النشاطات التي يقوم بها الناس في حياتهم اليومية، والتي تتلاءم مع حركتهم وميولهم وحاجاتهم النفسية.
فكانت هناك حدائق للتنزه والمشي، وأخرى للاستماع، وحدائق للتذوق، وأخرى للرؤيه واللمس، ينساب فيها النسيم منعشاً وممتعاً على إيقاع الرياح، ويتعاقب عليها الظل والضوء، البرد والحر، والمظاهر المختلفة للنباتات السلسة الناعمة والمواد الخشنة بتناغم مع بقية العناصر والأجسام التي تفيض بها الطبيعة من سائلة أو صلبة، مسطحة ، متماوجة أو منحدرة...
إيقاعات تتناغم مع الأحاسيس والمشاعر وتقدم لوحة مفاتيح مدهشة في تنوعها، يلعب فيها التأثير الخارجي بما يتسنى له من مؤثرات، تحرّك في لحظة واحدة المركز الحسي فيفيض حيوية ونشاطاً. عالم تنتجه الحواس، فتستدعي لكل تصميم من التصاميم المعروضة أشكاله وألوانه، إضافة الى الأصوات والملمس والروائح، وتساعد الفرد على الانغماس في بحر لانهائي من العواطف والمشاعر.
«العصرونية»
من التصاميم اللافتة بين تلك الحدائق المشحونة بالرسائل البيئية والرموز حديقة «العصرونية» التي تشير الى موضوع الغذاء الصحي من خلال صياغتها وتنسيقها على شكل أربع تلال متقاطعة مزروعة بالخضر والثمار والبقول، وقد تم تشكيلها فوق 370 ألف بالة من القش، وهي تقنية معتمدة في الولايات المتحدة وتحظى بشعبية كبيرة، وذلك باعتبار القش ركيزة أساسية للزراعة، لأن تحلله السريع يوفّر السماد للأرض بكلفة مادية منخفضة.
ويتخلل مجموعة الحدائق تصميم يكرم حاسة الشم التي يتم تناسي أهميتها أحياناً والتي يعبر عنها فضاء من الطبيعة المزروعة بسبع خوذات معدنية غُرست فيها النباتات والأزهار، وأُعدّت لبث الروائح والعطور المختلفة والتي تنبعث من ثقوب مضيئة داخل كل خوذة، وهي تتيح لمن يقف تحتها استكشاف نغمات غير مألوفة من روائح الأزهار والنباتات البرية والأعشاب التي تولّد عند استنشاقها أحاسيس مختلفة تراوح بين الانزعاج والافتتان.
«حديقة السراب»
«حديقة السراب» تلفت الأنظار بمظهرها الجميل الذي يختصره شكل هندسي يبدو عائماً وسط أمواج من الأزهار الملونة، تتمدد فيها طريق لتلف المشهد في لحظة ضباب كثيف يُغيّب الكثير من التفاصيل ويغير معها معالم المشهد... تثير هذه الحديقة لوهلة شعوراً بالغرابة والعزلة والرغبة في اللجوء إلى ذلك الشكل الهندسي للشعور بالأمان.
حديقة تعبر عن حالة تشبه فقدان التوازن، تجسدها أجواء تختل فيها كل التصورات وتختلط المشاعر، مما يحدّ من وضوح الرؤية والسمع والشم والقدرة على اللمس والتذوق. مسار وحيد في هذه الحديقة مصاغ من الزجاج، يدفع إلى العبور نحو موجة من النباتات المزهرة التي ترتفع وتتنامى من داخل أشكال هندسية معدنية. فتتغير مع مرور الوقت أحجامها وألوانها .
ويتماوج هذا الطريق صعوداً وهبوطاً وصولاً إلى باب هو عبارة عن صورة ظلية، مثيرة للقلق تستدعي العبور من خلاله واستكشاف ما خلفه من عالم خفي. فنكتشف عالماً نباتياً برياً تحتل أرضه بعض جذوع الأشجار المبعثرة التي تنبعث من بينها رائحة طيبة.
ويلفت الأنظار في جانب من الحديقة جسم ضخم لآلة موسيقية، هي عبارة عن بيانو قديم بمفاتيح للعزف مذهلة، يحتل جانباً منه كرسيان كبيران فوق فراش من النباتات البرية الناعمة.
تأخذنا هذه الحديقة إلى عالم من الأشكال والألوان والعطر والنغم التي تصيب النفس بإحساس ممتع من الدوار.
أكواخ
بعض الرسامين كان قادراً على رؤية صفات أكواخ القش، التي قد نعيرها انتباهاً في اللحظات الهاربة التي تتخذ أجمل مظاهرها في الضوء الخفيف.
هذه الأكواخ التي أثارت اهتمام الفنان الانطباعي الكبير كلود مونيه، ففتحت العيون على جمال هذه المادة الطبيعية الرائعة التي لا يكفي النظر اليها لالتقاط كل ما يكمن فيها من قوة، فهي تثير الغرابة بقدرتها على التشكيل واكتساب الأحجام الجديدة مع تراكم خيوط القش الدقيقة فوقها.
وبناء كوخ من القش يحتاج إلى أرضية ثابتة وتقنية خاصة للاندماج فوقها بقوة واستقرار، ليأخذ أشكالاً مختلفة تبعاً لثقافة كل بيئة، فهو يبدو مخروطيّ الشكل مرتفعاً في بولندا، كما يبدو محاطاً بمناظر طبيعية مكثفة في الأكواخ الرومانية، وممتداً بشكل أفقي في البيئة السلوفاكية... فمن خلال تلك الرؤى المختلفة، كانت حديقة الأكواخ تعبيراً قوياً لتجسيد كل ذلك بطابع من البساطة التي تجعلنا ننظر إلى أكوام القش باسلوب آخر...
لا يمكن حصر كل ما تم ابتكاره من حدائق مستقبلية تنوعت سيناريوهاتها وأساليبها في سطور، لكن يمكن وصف بعض ما خلّفته مظاهرها من أحاسيس بالفرح والتفاؤل كلما دخلنا عوالم الأفكار والتصورات التي أُنجزت لحدائق أخرجها المبدعون من عالم الخيال، لتصبح واقعاً جميلاً يبهج النظر.
... مناظر خضراء مطرزة بالألوان، تبزغ منها نباتات بالغة التنوع والجمال، لا تشارك بفعالية في لعبة الإبداع والابتكار والتجديدفحسب، وإنما تتبنى دور البطولة في تفاعلها البديع مع كل العناصر والمواد، وتعزز البعد الفني، وترفد الديزاين بدينامية خاصة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024