زواج... فـ'عنف'... فـ'اغتصاب'
تكثر المشاهد ويعظم محتواها لتصبح أقرب الى فيلم رعب منها الى فيلم أكشن، اذا أردت تخيّلها بالتزامن مع رواية إحدى بطلات «هذا الفيلم» الذي يصلح أن يطلق عليه اسم مسلسل لكثرة تعدد حلقاته وأحداثه على رغم تشابهها. كل حادثة تصلح أن تكون رواية بحد ذاتها، وان كانت أوجه الشبه بينها كثيرة الا أنها تنضح بخصوصيات يصعب تصديقها.
أخفين وجوههن وموّهن أصواتهن من أجل رواية ما عانينه، بخصوصية لا «تفضحهن» في المجتمع. التخفي وراء سماعة هاتف، من أجل عدم الاحراج أو عدم الكشف عن هوياتهن، غير موّفق خاصة بالنسبة إلى من دأب على متابعة نضالهن في سبيل إقرار مشروع حماية المرأة من العنف الأسري.
يكاد لا يعرف المستمع أو القارئ أو المشاهد أيّاً من مآسيهن اكبر، أهي تلك الرواية التي روينها عن ليلة لا تنسى من لياليهن السوداء، او هي تلك الصور التي صوّرت طرق التعذيب الذي مورس على أجسادهن التي نَحُلت، أو هي الرواية الأخيرة عن اغتصابهن مراراً وتكراراً تحت مسمى الحق الشرعي للزوج على زوجته؟ المتابع لقضايهن يلحظ أن بَوْحهن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمرحلة التي وصلن إليها في الضغط من أجل إقرار القانون في لبنان.
«كان يريد ان يأكل مني ساعة يشاء، وعلى هذه المائدة أن تكون حاضرة دائماً بانتظاره»، يأتي صوت سيدة رفضت الكشف عن وجهها على رغم التطمينات، الا ان رفضها هذا لا ينبع من كون محدّثها غريباً أو صحافياً، بل من أن لروايتها وقع الضرب على جسدها والمعذب لنفسيتها، هي التي جَهُدت من أجل الخلاص من عذابها المتكرر.
الحرج الذي تشعر به «كاملة» (اسم مستعار)، نابع من أن جسدها استُبيح بـ«وحشية» كما تصفها لأعوام طويلة. والواقع أن اختيار القصة الأكثر وقعاً لاستخدامها يبدو صعباً في ظلّ تكرر المأساة على ألسنة أربع سيدات، عانين الأمرّين، لتمحو رواياتهن الأخيرة وقع الصور التي استخدمنها لإبراز أساليب التعذيب التي مورست عليهن.
وباتت صورة «المرحاض» الذي صُوِّر من أجل التعبير عن يوم وضع زوج «لمى» (اسم مستعار) رأسها فيه مجرد تفصيل مع اكتمال الفصل الثاني من القصة، وهو أنه سحلها من بعدها على الفراش ليربطها «كالفرّوج» ويغتصبها، مكرراً على مسمعها ومرأى أطفالها قوله «هل ترين اني أغتصبك»... هي التفاصيل اذا ما اجتمعت في فيلم سينمائي لما رأى فيها المشاهد أقل من مغالاة من الكاتب ومبالغة من المخرج.
«لمى» و«كاملة» لا تخبران قصتهما إلاّ بشكل منفصل، إذ انه يصعب على المرأة التي عانت ما عانته الاعتراف بما تعرّضت له. فعلى رغم أن النساء المعنفات يروين في ما يُعرف بالـ Group Therapy أو «العلاج الجماعي» ما تعرضن من عنف جسدي ولفظي ومعنوي، فإنهن لا يتطرّقن الى الشق الجنسي منه.
اغتصاب البنات بعد الزوجة
اضطرارهن للبوح بما تعرضن له يحكمه سببان، الأول يُعتبر إيجابياً وهو أنهن على طريق الشفاء من عذاباتهن، وأنهن على خطى إلقاء الحمل الثقيل عن كواهلهن، وإن كنّ أبقينه حتى وقت قريب سرّي الطابع بين كل واحدة منهن ومرشدتها النفسية أو الاجتماعية، أمّا السبب الثاني فهو أنهن وجدن أنفسهن فجأة في مواجهة مع «دارسي» مشروع قانون حمايتهن من العنف. وضرورة المواجهة كُرِّست، مع التوجه العام من اللجنة الفرعية التي شكلها مجلس النواب اللبناني لإلغاء البند المتعلّق بـ«اغتصاب الزوجة». وبحجة تعارضه مع الشريعة الإسلامية، تتجه اللجنة المؤلفة من ثمانية نواب إلى عدم إقرار البَند 4 من المادة الثالثة في مشروع القانون، والذي ينص على أن «من أكره زوجته بالعنف والتهديد على الجماع عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين»، والبند 5 من المادة نفسها وينصّ على أن «من أكره زوجته على الجماع وهي لا تستطيع المقاومة بسبب نقص جسدي أو نفسي أو بسبب ما استعمله نحوها من ضروب الخداع، عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات».
الاعتراض الضمني ومن ثم المباشر على هذين البندين، دفع بمنظمة «كفى عنف واستغلال» إلى تكريس حملتها السنوية التي تُعرف بحملة الـ «16 يوم» لمجابهة التعديلات التي جرى إقرارها في اللجنة النيابية المكلّفة درس مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري، معلنة صراحة عدم القبول بقانون مشوّه وفارغ المضمون.
وموقف «كفى» جاء مدعوماً من شهادات حيّة لنساء أُريد لهن أن يختبرن مهانة بسبب عدم وجود قانون يجرّم الاغتصاب من جانب الزوج، كما حصل مع «ليلى» (اسم مستعار)، التي تكلّمت عن زوجها الذي كان يتعاطى الحشيش ويأتي كل ليلة من أجل «النيل» منها، ولا يترك لها المجال للدفاع عن نفسها.
فكان يمارس عليها أنواعاً مختلفة من الأدوار مؤكدة أنه كان يحضر أفلاماً إباحية ويأتي من أجل تطبيقها عليها، «كان يأتي يسحب الغطاء عني ويبدأ بمجامعتي، وأنا أعمل من السادسة صباحاً إلى السادسة مساء وأعود من أجل الوقوف على ما يلزم المنزل، إلاّ أنه لم يكن يرحمني، يبدأ بوصفي بالخدامة، قائلاً أينك من النساء؟ سأغتصبك لأنك لا تشبهين النساء حتى». ومع كل الاهانات والعنف الممارس على جسدها بقي الأمر سهلاً عليها أمام واقع أنه كان يغتصب بناتهما على مرأى منها محملاً إياها المسؤولية لأنها «تهمله وتهمل نفسها. ووصلت بها الامور إلى الخضوع والقبول قبل أن ينتقل الى اغتصاب بناته».
عقد زواج أم تمليك؟
وتقول «ماجدة» (اسم مستعار): «اسمه زوجي بالعرف الشرعي وانا امرأته بالعرف الاجتماعي. يثور إن لم يعجبه شيء ومن دون مقدمات يمسكني من يدي ليمارس علي رجولة غير موجودة أصلاً، لأن رجوليته بنظره أن يكون من فوق وانا من تحت». وتضيف: «يجب أن استسلم له ليأخذ من روحي وتفكيري وجسدي، لأنه دفع ثمني في عقد الزواج».
وصف يتكرر بين السيدات اللواتي تعرضن للإغتصاب الزوجي إذا جاز التعبير، وكل الوقائع تتمحور حول إفراغ عدوانية بالزوجة لأن الرجل يعتقد أنه امتلكلها بمجرد الزواج. هذه الشهادات وغيرها من القصص غير المعلنة، لا تبدو من الأهمية في مكان وخاصة في حسابات اللجنة الفرعية لمجلس النواب، إذ أن توجه أعضائها يجنح صوب رفض هذين البندين، على قاعدة «فليأخذوا (المنادون بقانون لحماية المرأة من العنف الأسري) 90 في المئة منه ويتركوا هذه العشرة الأخيرة... لأنهم إذا أصروا للأسف قد يُنسف مشروع القانون بشكل كلي». «ابتزاز» غير مبرر، بحسب وصف المحامية ليلى عواضة التي رأت أنه لا بد من تجريم هذا الفعل، وخاصة أن «النساء سبقن المشترع، إذ أنّ محاضر تحقيق عديدة تحتوي على ذكر الجماع بالاكراه»، موضحة أنه حتى الآن لا يتم اعتماد مصطلح «اغتصاب الزوجة»، لأنه غير متعارف عليه.
«تذكر المرأة أن زوجها ضربها ومن ثم جامعها، فيأتي ذكر ما تعانيه في السياق». وتؤكد عواضة ضرورة أن «تعي المرأة حقوقها في هذا المجال وأن ذلك يتطلب قانوناً رادعاً من خلال تجريم هذا الفعل». قضية محقة تطرحها عواضة، مدعمة بشهادات، ومشروع قانون عمل على سنّه اختصاصيون، إلاّ أنها لا تلبث أن تتزعزع أمام التركيبة الاجتماعية الطائفية للبنان، إذ أن اختلاف الطوائف أعطى حججاً متبادلة للنواب الثمانية الموكل اليهم مناقشة مشروع القانون والذين يمثلون الأقطاب السياسيين (الذين يراعون بدورهم التمثيل الطائفي)، والذين يختبؤن وراء «تعارض المادة مع المحاكم الشرعية»، وهو «ما يرفضه الدستور».
حرب باردة
والمحاولات الحثيثة وخاصة الإعلامية منها من أجل الضغط على النواب، تراها بعض الأوساط على أنها «مجهود مجاني»، إذ أن القانون سيُقر من دون هذه المادة أو أنه لن يُقر نهائياً.
النواب أعضاء اللجنة الفرعية يحاولون عدم الدخول في سجال مع المنظمات النسائية في هذا الصدد، مؤكدين انهم اختاروا عدم «الرد»، وخاصة بعد الحملة الاعلانية التي حملت شعار: «أيها النواب الاغتصاب الزوجي كمان جريمة» و«القانون صورتكم، لا تشوّهوا مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري»، والتي اعتبروها «غير لائقة» في ما وصفها البعض الآخر بـ«المهينة» لأنها تُظهر صور نواب اللجنة الفرعية وكأنهم «جهلة».
ويقول النائب ميشال الحلو (أحد نواب اللجنة الفرعية): «إن القانون على وشك أن يُقرّ بصيغة ممتازة. عملنا كحقوقيين على صياغة قانون قابل للتطبيق مئة في مئة». الحلو الذي كرّر ما جاء على لسان نظرائه بأن «هناك تعارضا مع ما تنص عليه الشريعة الاسلامية»، اعتبر أنه من غير المجدي طرح القانون على التصويت داخل اللجنة، إذ أن إقرار بند كهذا من دون درسه سيودي حتماً بمشروع القانون كله». وأضاف: «عملنا على قانون نفتخر به، لأنه مدروس ويراعي خصائص المجتمع من دون يهدد العائلة»، رافضاً ما سمّاه «الاتهامات العشوائية التي تطلق ومنها أن الذكورة تمنعنا من إقرار هذا البند»، معدداً النساء اللواتي تجري مناقشة القانون معهن من خارج اللجنة.
وبين إصرار المنظمات النسائية، وعلى رأسها «كفى عنف واستغلال» على «عدم تفريغ القانون»، ونظرية النواب بأن «النساء رابحات بإقرار أكبر عدد من مواد القانون»، وأن «تأجيل بند من البنود إلى مرحلة لاحقة لا يعني نهاية العالم»، تجد المرأة اللبنانية مرة أخرى نفسها عالقة في دوامة قوامها السياسة والشريعة، وتقف حائرة أين تكمن مصلحتها: التمسك بالقانون كما هو، أم الخضوع للـ«تخويف» بأنها قد تخسر أي فرصة لحمايتها حتى من الأشكال الأخرى للعنف؟
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024