ظاهرة مؤلمة في اليمن
أشكال الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في اليمن أكبر من أن توصف ومن الجرم تجاهلها أو السكوت عليها. سبعة أطفال من خمس محافظات مختلفة يتحدثون عن مآسي اغتيال طفولتهم وحرمانهم من الشعور بالانتماء الآمن إلى المجتمع... «لها» تنفرد بنشر هذه الأصوات البريئة لأطفال أنهكتهم أحداث متعددة المصادر تصنف دوليا بأنها انتهاكات. وهؤلاء جمعتهم وبحثت عنهم مؤسسة «شوذب» للطفولة وطلبت منهم أن يرووا تفاصيل قصصهم المحزنة لكي يتم تدوينها.
(م.أ.ص 13 سنة) محافظة الحديده
«أبي في السعودية وأمي لا تستطيع أن ترعانا ولا أن توفر لنا الحماية أنا وأخواتي. أخرجتنا أمي من المدرسة لأنها لم تستطع توفير التزامات الدراسة. كنت كل يوم أقف أمام باب مدرستي وأرى أصدقائي القدامى وكتبهم في أيديهم وأتألم... ماذا أستطيع أن أفعل لأحصل على هذه النقود التي تذل الناس وترفعهم؟ وذات يوم خرجت الى الشارع للإستعطاء، وهناك تعرضت لمضايقات عديدة... كانت أمي تبحث عني دائماً وتعيدني الى البيت ولكني كنت أضيق من الجوع والعطش فأخرج مرة أخرى الى الشارع.
وذات يوم جاء عمي وقال إنه وافق على زواجي من رجل ثري من بلد آخر. لا أدري كيف تسارعت الأحداث ووجدت نفسي زوجة لرجل لا أعرفه. عاملني بقسوة، وذات صباح أفقت وقد رحل الرجل الى بلده ولم يترك لي شيئاً سوى دين إيجار ثلاثة أشهر لصاحب البيت الذي أبلغ عني الشرطة التي بدورها ألقت بي في السجن وسط ذهولي وعدم قدرتي على استيعاب ما يحدث... كانت الغرفة في السجن باردة وكنت أنام على الأرض دون فراش، وهناك مرضت وأخبروني أني حامل.. طفلة تحمل طفلاً! أنهكني المرض ومات الجنين وللأسف بقيت أنا. وبعد الإفراج عني عدت الى بيت والدتي. وقد تنصل عمي من مسؤوليته واتهمني بأني جعلت الرجل يفر مني. وضربني حتى أنهك جسدي الصغير السقيم».
(م.م 12 سنة) مدينة القاعدة
«كانت بداية مأساتي حين تشاجر أبي وأمي فطلقها وتركتنا وذهبت... لست أدري لماذا فعلت ذلك. كيف قسا قلبها حين لملمت ثيابها وخرجت دون أن تلقي نظرة أخيرة علينا. ربما كان الكيل قد طفح لأن والدي كثيراً ما يضربها.
لم يكن لدي ابي منزل فذهبنا لنسكن مع جدي. بعد فترة قصيرة تشاجر أبي مع والده فطردنا جدي من البيت. كان أبي سيئ الطباع ولا يستطيع أي إنسان أن يتحمله. خرجنا من بيت جدي لنستأجر غرفة أمضينا فيها فترة قصيرة ثم أبلغنا والدي أن النقود التي كانت في حوزته قد نفدت تماماً. هالنا ذلك ولم نتخيل ماهو الحل؟ أين السكن؟ أين السقف الذي ننام مطمئنين تحته؟ لجأ أبي إلى صديق له، فأعطانا غرفة ملحقة بمسجد، أقمنا فيها حوالي شهرين. بعدها طلب مني والدي أن أرافقه في رحلة الى عدن للبحث عن عمل.
وهناك وجد صديقاً له قال إنه سيدبر له وظيفة، فطلب مني أبي أن أعود الى قريتي لجلب بقية أخوتي الصغار لنسكن كلنا معاً. فرفض أخوتي أن يأتوا معي باستثناء أخي الذي يصغرني بقليل الذي وافق وعاد معي الى عدن. وصلنا فلم نجد أبي وأقمنا ليلة في بيت إبن عمي في حي الشيخ، وعلمت أن أبي استأجر سيارة وذهب الى القرية لجلب أخوتي المتبقين، وكذلك ما كنا نملكه من أدوات منزلية وبطانيات وأكواب قليلة. ثم عاد بهم الى عدن وأخذنا من بيت ابن عمي ثم ذهبنا جميعاً الى الرجل الذي قال انه سيجد وظيفة لأبي. صدمنا جميعاً حين أبلغ أبي أن العمل قد أخذه عامل آخر ، ثار أبي وغضب ونعت الرجل بالخيانة والغدر والخديعة، ثم عدنا في السيارة التي استأجرها وطلب أبي من السائق أن يوصلنا الى الساحل الذهبي جولدمور. عشنا هنالك ثلاثة أيام ننام على الشاطئ، ولاأزال أذكر منظر البحر في الظلام... كان يخيّل إليّ أن العفاريت والأشباح تخرج منه. كنت أخاف أن يأتي الموج ونحن نيام فيجرفنا الى قاع البحر العميق. كان أبي مريضاً، وحاول طلب عشاء من بعض البائعين للطعام في الساحل الذهبي غير انهم جميعاً رفضوا بحجة أنهم لا يعرفون من هو. تضورنا جوعاً...
عندما كنا في القرية كنت أنا وأخي نعمل في مزارع القات نقطفه ونبيعه، وبقيمته نشتري الغداء ويأتي العشاء. فنستلف المال الضروري لشراء العشاء. كان الناس يسلفون أبي لأنا كنا معروفين في القرية، أما هنا في عدن فلا أحد يقرضنا ومتنا جوعاً، كانت والدتي مطلقة تعيش مع أهلها في إب، وكان والدي يضربنا جميعاً وكان الضرب والفقر سبب تشتتنا وتشردنا. حتى والدتي طلقها أبي بعد ان ضربها ضرباً لا أظن أنها سوف تنساه.
في أحد الأيام ونحن في الساحل قام أبي بفك شيء من داخل سيارة وراح يجول ليعرضه للبيع. فأمسكت به الشرطة، ثم عاد بعد أن شكا لهم أخي الأكبر عن حالتنا فأخذونا من الساحل ووضعونا في دار إجتماعية في عدن، حيث يعتنون بنا، ولا أدري ماذا تخبئ لنا الأيام».
(أ.ح 10 سنوات) محافظة عدن
والدي يعمل حمالاً يحمل قوالب الطوب والحجار فوق ظهره. لي اثنا عشر أخاً واختاً. كنا نتضور جوعاً وكنت أنا مثل كل الصغار أشتهي البسكويت والشكولاته في أيدي الصغار حين يخرجون من أبواب البقالات الكبيرة .. لماذا نحن لا؟ لماذا لا نعرف المذاق الحلو للحياة؟
كنت بسنوات عمري العشر أجلس في الشارع لفترات طويلة أتسول وأتمدّد على الأرصفة كان لديّ خمسة أصدقاء يشاركونني الشعور بمرارة الحرمان. وفي إحدى الليالي اجتمعنا في عمارة كانت لا تزال في طور البناء ليس لها أبواب ولا نوافذ واتفقنا على أن نشكل عصابة للسرقة. وبدأنا نتجول في الشوارع، نحاصر الفريسة ونوسعها ضرباً ونسرق ما لديها. حتى النساء لم يسلمن منا فكنا نخطف حقائبهن ونهرب بينما البعض منا يلهي الفريسة بالضجة وإدعاء المساعدة.
كنّا أنا وأصدقائي كالإخوة إذا ما تحرش أحد بأي منا نتجمع حوله وندافع عنه وننزل الأذى به فيفرّ هارباً...
في أحد الأيام كنا نتسوّل أمام مدخل جامع وإذا برجل يهدّدنا بالقتل إن لم نعطه ما جمعناه فسوف يقتلنا! اجتمعنا عليه وأوسعناه ضرباً ولكماً ورمياً بالحجارة حتى فر.. لكنه عاد ومعه طقم شرطة وادعى أننا سرقناه وضربناه فرمونا في الحبس.
بعد فترة هربت من نافذة الحبس لصغر حجمي. خرجت وقد ازددت صلابة في الجريمة.. خرجت وقد جرحت في إنسانيتي من أحد السجناء الذي استغلّني طوال فترة إقامتي في الحبس لأن حجمه أكبر مني. وعدت أتسكع في الشوارع وأنا في حالة من الحزن لجمت لساني، فلم يعد لي رغبة في التحدث مع أحد. بل لم يعد لي رغبة في الحياة برمتها لأن قسوتها أتعبتني».
(م.أ.م 14 سنة) محافظة صنعاء
كنت أعمل في المزارع وأحصل على نقود تكفيني، لكن المشكلة أن أبي كان ينام طوال اليوم في المنزل ولا يبذل أي جهد للحصول على المال، كما كان أخي الاكبر مريضاً ومشلولاً. فكانت المسؤولية ملقاة على عاتقي وعليّ أن أنفق وأشتري وكانت النقود طبعاً لا تكفي. أحسست بأني أتحمل أكثر مما يستطيع أي فتى في الرابعة عشرة أن يتحمل.
كنت مثل كل ولد أشتاق إلى أمي التي طلقها أبي بعد أن تطورت حالته من حالة جنون خفيف الى جنون كامل. كان يضربها حتى يدميها فتفر بنا الى بيت أهلها. وأخيراً طلقها وتزوجت من غيره فنسيت أطفالها الأربعة، ورحلت الى بيت زوجها الجديد لا تدري عنا شيئاً. وقد تطورت حالة أبي حتى صار يخرج الى الشارع نصف عار ولا يقبل أن يكلمه أحد منا، أو أن يغطيه ببطانية تستره وتحميه من البرد. كان قلبي الصغير يتقطع ألماً عليه ولا أستطيع حياله شيئاً.
ذات يوم اشتد المرض بأخي وأحتاج الى علاج للتنفس فذهبت الى الجامع، وهناك وجدت ساعة تركها صاحبها جانباً لكي يتوضأ للصلاة، وحين كنت أسرق الساعة رآني الرجل، وأمسك بي وضربني بعنف فتجمع الناس يركلونني ويضربونني... ولم يسألني أحد لماذا مددت يديك الى الساعة؟ لم يسأل أحد عن ظروف الفقر والمرض اللذين حاصرا حياتي من كل صوب...
استطعت أن أفرّ من الناس في الجامع وعدت مسرعاً إلى بيتي حيث كان المرض لا يزال جاثماً على صدر أخي، وشبح الموت يقترب من باب حياتي. وصلت الى الدار وقد أصبت بحالة من التشنج في ذراعي لازمتني حتى الآن... ولا أدري هل من كان مثلي لا يحق له دخول مستشفى أو عيادة لأن للنقود وظيفة أكبر لتوفير لقمة العيش من أجل البقاء. وكثيراً ما سألت نفسي لماذا يبقى الفقراء أمثالي على قيد الحياة رغم ان الموت قد يكون الحل الوحيد للحد من عبث الظروف»؟
(ن.أ.ص 7 سنوات) محافظة حجه
«كانت المرة الأولى التي أرى أبي فيها سعيداً بتلك الطريقة، وكنت اسمعه يردد على مسامعي بأن باب الرزق سيفتح على يدي الصغيرتين. ولم أستطع أن أفهم كيف ليدي أن تفتح باب الرزق، وأنا لم أتجاوز السابعة وهو فشل في فتحه منذ عشرات السنين.
وذات يوم سمعت أبي يقول لأمي بأنه قرر تهريبي الى إحدى الدول المجاورة لكسب المال. وعندما بكت أمي واعترضت لأنني ما زالت صغيراً صاح أبي وضربها وهددها إذا تحدثت أمام أحد بأنه سيطلقها. رأيت أبي يدفع للمهرب مالاً ليأخذني الى المجهول .. أعتقد أن تلك النقود كانت كافية لنعيش فترة دون مخاطرة .
أخذني المهرب وبكيت كثيراً لمفارقة صدر أمي، لكن أبي لم يرحم دموعي، وأقفل باب قلبه دوني إلى الأبد. ذهبت مع المهرب ووجدت معي عشرة أطفال آخرين كنت أصغرهم وأشدهم خوفاً.
بقينا عند الحدود أكثر من يومين ورأيت المهرب يدس بعضاً من مال أبي في جيب أحد حراس الحدود لنبدأ رحلة أخرى أشد قسوة، فقد صادفتنا ثعابين أرعبتني. ولم يُعنّي على كل ذاك الخوف إلا حلمي بالعودة إلى حضن أمي يوماً ما.
وصلنا الى المكان المحدد وسألت عن المال الذي سأعود به الى أبي فضحك الرجل الغريب الذي كنا نقيم عنده ، وقال: المال لا يأتي بل أنت تذهب إليه. وأرسلني الى الشارع للشحاذة، وهناك تعرضت للإهانة ولقسوة الشارع ولخوف الوقوع في يد الشرطة، وهو ما حدث بعد أقل من شهرين. فقد قبضت الشرطة علي ورحلتني الى بلدي لا أملك حتى غياراً لثيابي.. وفي بلدي وضعت في مركز للمهربين الى ان يأتي ابي لأخذي .. فهل سيأتي أبي يوما ما؟»
(و.ح.ت)
«كنت أحس بأني أحمل فوق طاقتي وأرى ما لم أعد أستطيع تحمله أو استيعابه. كنت أحس بصغر حجمي بينما ما أشعر به قد لا يستطيع الكبار التعايش معه، لكن هكذا كتب الله لي... كنت أقيم في الطويلة وكان والدي يأمرني وأنا ابن سبع سنوات ان أخذ الميزان معي واتجول في الشارع وأدعو الناس ليقفوا فوق الميزان المعرفة أوزانهم ثم يرمون لي بالفتات. أحياناً كنت أتعب ويحترق جلدي من حرارة اشعة الشمس ، فأجلس في زاوية ظليلة اذا ما وجدتها لأرتاح واتفرج علي المارة أمامي يروحون ويجيئون، لا أحد يقف ليعرف وزنه فأتذكر أبي الذي سيدميني ضرباً إذا لم أرجع له بنقود، فأنهض وأنا جائع لأصيح وأدعو الناس لمعرفة أوزانهم.
كنت متعباً ومرهقاً وأتمنى أن يتركني أبي لكي أنام لوقت طويل. أما والدتي فكانت تقيم مع شقيقتي المتزوجة التي زوّجها والدي فقط لكي تجد من يطعمها.
في أحد الأيام جاء خالي ليزور والدتي في منزل زوج أختي فغضب زوج أختي واتهم أمي بأن هذا الرجل ليس أخاها، فتركت هي الإقامة مع شقيقتي وخرجت لانه اتهمها في شرفها. أنا أحب أمي وأشفق عليها وكنت أتمنى لو أني أستطيع أن أرتاح في حضنها وأنام على كتفها. غير أن والدي كان يخيف الجميع ، فإذا لم أرجع بنقود كان يقيدني بسلاسل ويضربني ضرباً مؤلماً جداً ويقيدني طوال الليل. ذات يوم قررت أن أفرّ من هذا الأب في الشارع فاحترفت الكذب ولم أرد أن أمد يدي لأشحذ فكت أبكي كذباً وأدّعي أني أضعت 200 ريال. فكان البعض يعطيني المال. كنت كذلك أبكي وأقول أن أبي وأمي ماتا في حادث سيارة.
كان الكذب والدموع ومسح العيون تجعل الآخرين يعطونني نقوداً. في الواقع لم أكن كذاباً تماماً فبالنسبة إليّ كان أبي وأمي فعلاً في حكم الميتين.
في تلك الفترة التقطني من الشارع شرطي ومكثت في منزله حيث أطعمني ورعاني لمدة ثلاث سنوات عاملني خلالها هو وأخته معاملة طيبة... بعدها اتهماني بسرقة 500 ريال فهربت منهما لأني كنت بريئاً.
سافرت الى المعلا ثم والى صنعاء وعدت ثانية الى عدن.. واستمرت حياتي بين الضياع والحاجة والفقر والألم والمراكز الاجتماعية».
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة