تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

اليوم الثاني في كايب تاون...

بدأ يومنا الثاني في كايب تاون عند الثامنة والنصف صباحًا، وصعدنا إلى إحدى عجائب الطبيعة السبع تايبل ماونتين Table Mountain.
وقد اخترنا هذا التوقيت الباكر كي نتفادى الإزدحام وإن كان يوم الإثنين. وصلنا إلى محطة التليفريك المؤلفة فقط من مقصورتين تنقلان الزوار إلى قمة الجبل، اللافت في هاتين المقصورتين أنهما تدوران أثناء الصعود فلا يفوت أحداً أي جزء من مشاهد المدينة أينما كان يقف.

اللافت أيضًا أنك لا تشعر بدوران المقصورة وإنما تفاجأ فقط بأنك صرت واقفًا أمام النافذة المفتوحة. بعد خمس دقائق من تلاعب الهواء بالمقصورة وصلنا إلى قمة الجبل. المشهد يعجز الخيال الإنساني عن وصفه، فكايب تاون تقع عند أقدام الجبل ورغم مساحتها الكبيرة بدت صغيرة كما لوحة «البازل» لا تفقه كيف جمعت بهذا الإتقان.

كنا نظن أننا أول الواصلين إلى سفح الجبل ولكن سبقتنا حشود الزوار من كل الجنسيات يحملون كاميراتهم ويحارون في التقاط الصور، الضباب يتسرب بينهم وفجأة يختفي كأنه ستارة شفافة تكشف عن مسرح طبيعي يتفنن في استعراض أُبهته وفخامته.
وفي القمة مقهى ومتجر لبيع تذكارات، والأسعار مقبولة.
عدنا إلى الأرض، وهذه المرّة قررنا اكتشاف السوق المجاور لفندق تاج الذي ننزل فيه.
يتميز السوق بطابع أفريقي أصيل، فهو مفتوح على الهواء تنتشر فيه البسطات التي تعرض الأشغال اليدوية والتذكارات وتتدلى منها العباءات المطبوعة بألوان أفريقية.

الكل ينادي على بضاعته والكل يدعوك إماmy sister أو my brother ليعطيك انطباعاً بأنه صادق معك والسعر الذي يعرضه هو أفضل ما يمكنه، وفي المقابل يمكن أن يخوض المشتري في لعبة الأخوة هذه ويطلب منه أن يخفض السعر طالما أنه أخوه في الإنسانية! هنا المساومة على السعر فن البيع والشراء، وأصحاب البسطات يفقهون اللعبة ويرفعون السعر حتى يحصلوا على السعر الحقيقي، فيما يظن المشتري أنه حصل على عرض ممتاز.

ولعبة المساومة هذه يقوم بها تجار السوق مع الآسيويين والشرق أوسطيين لأنهم أدركوا من خلال خبرتهم أن هؤلاء يهوون خفض السعر مهما كان زهيدًا.
بعد جولة التسوّق توجهنا إلى فندق تايبل باي وجلنا في أرجاء هذا الفندق الذي نزلت في جناح تايبل ماونتين منه ميشيل أوباما.
كيفما جال نظرك في هذا الفندق تجد تايبل ماوتن يطوّقه، فضلاً عن أنه يقع مباشرة على رصيف منطقة «في أند أي واتر فرونت».
تناولنا غداءنا في أحد مطاعمه ثم توجهنا سيرًا على الأقدام إلى المحطة البحرية حيث سننطلق من بوابة نلسون مانديلا نحو روبين آيلند، جزيرة الحرية التي مكث 27 عامًا بين قضبان سجنها نلسون مانديلا قائد جنوب أفريقا الحديثة.
الدخول إلى المعتقل فيه رهبة، أرتال من الزوار يبحرون إلى هذه الجزيرة لينتقلوا بين أسوار سجن أمعن أسياده في تصنيف البشر عنصريًا.
كان مرشدنا في هذا السجن أحد معتقليه السابقين، الذي روى قصصًا تقشعر لها الأبدان فهي ليست من مخيلة إنسان عادي بل من ذاكرة مناضل، لا يحمل في طيات ذاكرته أي بغض لتلك الحقبة.
كان المرشد يتحدث بالإنكليزية الإفريقية وبأسلوب جعلني أتقمص شخصيات المناضلين الذين اعتقلوا في هذا السجن... تضحك عندما يروي لك قصة مأسوية بأسلوب الكوميديا السوداء، وتشعر بالحزن عندما يروي تفاصيل التعامل العنصري حتى بين المعتقلين أنفسهم، فالآسيويون كانوا يحصلون على امتيازات أكثر من الأفارقة مثلاً، وكان في إمكان السجين الآسيوي أن يحوز سروالاً طويلاً فيما الأفريقي مجرد سروال قصير.
حتى لدى الاستحمام كان الآسيوي يحوز الماء الدافئ فيما الأفريقي الماء البارد، ولكن في النهاية كلهم معتقلون.
استوقفتنا الزنزانة التي احتُجز فيها مانديلا بحجمها ونافذتها المرتفعة الصغيرة التي تتسرب من بين قضبانها الشمس بحياء وفرشتها الرقيقة جدًا.
ارتسمت على وجوه الحاضرين الدهشة المختلطة بالحزن، ورغم اختلاف ألوان بشرتهم كانوا يتفاعلون مع روايات المرشد بمشاعر إنسانية مجردة... لفتني فخر سكان البلاد بتاريخ مناضليهم، واستغراب الزوار الغربيين عنصرية أجدادهم ولا إنسانيتهم، وإصغاء الأطفال إلى حديث المرشد السياحي بانتباه كبير.
بعد رحلة المعتقل الذي تحول متحفًا جلنا في أرجاء الجزيرة التي كان ينفى إليها المجرمون والمعتقلون السياسيون والمصابون بمرض النقرس والأمراض العقلية. تستغرب كيف أن هذه الجزيرة أصبحت معلمًا سياحيًا وتراثًا إنسانيًا.

كانت الحافلة تتوقف عند محطات عدة من بينها الحقل الذي كان المعتقلون يمضون يومهم في تكسير الصخر فيه والذي توجد فيه مغارة صغيرة كان مانديلا يلقن فيها تلامذته من المعتقلين معاني الحرية والتسامح وسماها جامعة الحياة.
ولا تزال مقولته الشهيرة Each one teaches one محفورة في ذاكرة الجنوب أفريقيين على اختلافهم أصولهم الإثنية.

مع مغيب الشمس انتهت رحلة روبين آيلند، وعدنا إلى الفندق لنتناول عشاءنا الأخير في المطعم الهندي الذي هو أحد المطاعم التي يضمها فندق تاج.

ودّعت كايب تاون بفنجان قهوة ارتشفته في أحد مقاهي الرصيف الموجودة قرب الفندق، وتأملت المشاهد الأخيرة لحركة إنسانية لا تكترث للون البشرة أو العرق أو الدين، فالكل عند الصباح منهمك في الذهاب إلى عمله، والوجوه تعكس روح التسامح والتصالح مع الذات والديموقراطية التي رسخها مانديلا عندما ترأس البلاد.

يومان في كايب تاون ربما لم يكونا كافيين لأغوص في أسرار المدينة وألغازها، وإنما لأتعرف إلى أحد وجوهها وأُسكن في ذاكرتي صوراً لعالم أفريقي تصالحت فيه النفوس قبل النصوص.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079