اليوم الأوّل في كايب تاون...
«دعوة من الإمارات للعطلات إلى جنوب أفريقيا»، هكذا كان عنوان الرسالة الإلكترونية التي أرسلتها لي ساندي. ل
م أتردد لحظة في قبول هذه الرحلة رغم أن المسافة طويلة بين لبنان المنبسط على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وجنوب أفريقيا البلاد الرحبة الواقعة في أقصى جنوب القارة السمراء حيث يلتقي عند رأسها المعروف برأس الرجاء الصالح، المحيطان الهندي والأطلسي.
حلّقت من بيروت إلى دبي حيث التقيت بقية زملاء الرحلة، لتحملنا طائرة إير باص A380 تابعة لشركة طيران الإمارات نحو جوهانسبرغ.
في الطائرة صعدنا إلى الطبقة الثانية حيث جناحا درجة رجال الأعمال والدرجة الأولى، الأمر الذي جعلني أسأل عن رد فعل ليوناردو دافنتشي الذي اخترع معادلة الأيروديناميك، ماذا سيقول عن هذا الترف المحلّق في أحضان الفضاء الأزرق؟! اللافت في الطبقة الثانية أنني لم أسمع هدير الطائرة الذي يلزمني أن أضع سدادتي الأذنين، وإنما سكون الفضاء الكوني كان طاغيًا.
حاولت أن أستغل هذا الهدوء وآخذ قسطًا من النوم فالرحلة تستمر حوالى ثماني ساعات، لكن المفارقة أني لم أستطع النوم رغم أن المقعد يتحوّل سريرًا وتشع من السقف أنوار خافتة تتماهى مع بريق النجوم الحقيقية.
فما كان مني وساندي وجوسلين إلا أن قررنا تناول الشاي في بوفيه الجناح وكأننا في بهو فندق، وحاولنا تجاهل المسافة الزمنية بثرثرتنا الفضائية.
أعلن قبطان الطائرة موعد الهبوط في مطار جوهانسبرغ، كانت الحماسة رفيقتنا في هذه اللحظات، فجميعنا نعرف الكثير عن جنوب أفريقيا رغم أننا لم نزرها يومًا.
عبرنا النفق المؤدي إلى وسط المطار. لننتقل إلى القسم الآخر من المطار ونركب طائرة صغيرة نحو متنزه كروغر.
بعدما حلقنا في سماء جوهانسبورغ فاجأنا الطقس الربيعي بعاصفة من المطر ونفق من الغيوم الرمادية حملانا على العودة إلى الأرض وركوب الحافلة نحو المتنزّه لسبع ساعات.
الطريق إلى متنزّه كروغر
حاول سائق الحافلة الأفريقي، واسمه نوفمبر، أن يخفف علينا وطأة المسافة الزمنية بروحه المرحة التي كانت تجعلنا نطلق العنان لضحكاتنا ومزاحنا، والسبع ساعات تحوّلت إلى ساعتين ونصف الساعة بتوقيت نوفمبر، في كل مرّة كنا نسأله عن الوقت المتبقي لوصولنا إلى متنزه كروغر.
أسدل الليل ستاره واخترقنا طرقًا سريعة فرشت بقوابس مضيئة لم ينته بساطها إلا عند وصولنا إلى بوابة المتنزّه، حيث كان في انتظارنا جو المرشد السياحي مرحبًا بنا.
ركبنا سيارة رباعية الدفع خاصة بمغامرات السفاري لنتوجه إلى فندق تينغا الموجود في قلب المتنزّه.
وعند مفترق الطريق إلى تينغا استقبلتنا ثلاثة أسود مستلقية وسط الطريق تغط في النوم ولم تأبه لأنوار السيارة بل اكتفت بالنظر إلينا، أما نحن فحاولنا التقاط الصور لنجوم المتنزه.
عند بوابة فندق تينغا كان في استقبالنا مدير اللودج في الفندق واسمه جولاي، أي يوليو. بدت روح الضيافة واضحة على محيّا جولاي الذي حاول أن يخفّف عنا وطأة السفر الطويل الذي خضناه، وأعطانا مفاتيح غرفنا التي كانت متناثرة في قلب الغابة، وقد رافقنا إليها حارس ليلي.
شعرنا جميعًا ببعض الإرتياب في ما يخص الأمان... هل الحيوانات تزور الفندق ليلاً؟ هل يمكن أن نجد مثلاً أسدًا يقف عند أبواب أجنحتنا؟ ولم نمنع أنفسنا من سؤال جولاي الذي أكد لنا أن هذا مستحيل ولكن دعانا للحيطة والحذر، فربما قفز إيل فوق السياج المحيط بالفندق، وفي الليل قد يبدو للنزيل وحشاً وبالتالي يصاب بالرعب، لذا من الأفضل أن يذهب النزيل إلى جناحه برفقة حارس ليلي.
وكلام جولاي صحيح لأن بهو الفندق كان مفتوحًا على الغابة ولا أبواب فاصلة بينهما.
دخلت جناحي الذي كان مصممًا على النمط الأفريقي المطّعم بالأسلوب العصري وكان في غاية الفخامة، لم أشعر بالرهبة بل غططت في نوم عميق أيقظني منه تغريد طير كان أشبه بلحن منسجم النوتات.
الجناح وتراسه في قلب الغابة، وكل ما حوله أوحى لي بيومين من السكون الطبيعي الذي لا يأبه لضجيج الحياة المعاصرة. تناولت قهوتي على الترّاس المطلّ على النهر، وكانت عناصر الطبيعة تتفنن في حملي على الإصغاء إلى سمفويتها الصباحية، خرير النهر وحفيف الأشجار وتغريد طيور وحركة خفيفة لغزلان يدفعها فضولها إلى إختلاس النظر للتعرف إلى زوار المكان.
تركت جناحي وعبرت الرواق الخشبي المفتوح على الغابة والمعلّق كما الجسر، نحو بهو الفندق حيث سأتناول وزملاء الرحلة فطورنا، وكانت تتبعني غزالتان.
بعد تناول الفطور بدأت مغامرة السفاري في متنزه كروغر وبدأنا نلاحق الأسود بدل أن تلاحقنا محاولين التقاط صور لها، ولكن في الطقس الربيعي الذي يرطبه المطر لا تخرج الحيوانات من جحورها، فعلقت ساندي ربما هذا اليوم هو يوم عطلتها الأسبوعية وتريد فقط الاستراحة والاسترخاء بعيدًا عن فلاشات الكاميرا.
بيد أن قطيع الغزلان والبوفالو كان يسرح في هذا المتنزه الرحب الذي تبلغ مساحته الإجمالية حوال 23 ألف كيلومتر مربع والذي يضم فنادق عدة من بينها تينغا المؤلف من تسعة عشر جناحًا ولا يوجد في الأجنحة تلفزيونات، والسبب أن الهدف من النزول في هذا الفندق هو الراحة والاسترخاء، ولكن يمكن للنزيل الاستفادة من خدمة الإنترنت الموجودة في صالة المكتبة الموجودة في الفندق.
بعد السفاري وتناول الغداء دللنا أنفسنا بساعتي تدليك. الطريف أن الفندق لا يوجد فيه «سبا» بل مدلّكة تأتي إلى الغرفة حاملة معها سرير تدليك نقّالاً. الأمسية الثانية والأخيرة في تينغا تخللها عشاء مميز في قلب الغابة حيث تفننت صاني طباخة الفندق بتحضير اللحم المشوي على الطريقة الإفريقية.
عند الصباح حزمنا أمتعتنا للتحليق نحو كايب تاون، وتوجّهنا نحو مطار المتنزه الداخلي لتحملنا الطائرة الصغيرة الى مطار جوهانسبرغ ونعود للتحليق في اتجاه كايب تاون.
كايب تاون اللقاء الأول
وصلنا إلى كايب تاون وكانت الحركة في المدينة لا تزال ناشطة رغم أنها الحادية عشرة ليلاً، مما جعلنا نشعر بالفارق بين سكون الطبيعة ليلاً في متنزّه كروغر وضجيج الحياة المدينية المعاصرة.
بعد حوالى النصف ساعة من دوران الحافلة بنا وصلنا إلى فندق تاج كايب تاون الواقع في وسط المدينة.
استقبلنا صباح كايب تاون بزخات من المطر الربيعي ترافقه نسمات باردة وكأن المدينة ترفض أن تودّع الشتاء.
أحيانًا يجعلك اختلاف توقيت الفصول بين قارة وأخرى في حيرة من أمر الطبيعة فبينما الثلج يغطي أوروبا وأميركا الشمالية وبعض بلدان القارة الآسيوية في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر فإن الربيع يزهر في جنوب أفريقيا ورأس السنة الميلادية دافئ.
ركبنا الحافلة متوجهين نحو كايب بوينت، لحوالى الساعتين دارت بنا بمحاذة شاطئ كايب تاون حيث المشاهد الرائعة كانت تتوالى علينا فاحتارت كاميراتنا ماذا تلتقط... الرمال البيضاء تخترقها زرقة المحيط الأطلسي وألسنة الجبال الخضراء تبدو كأنها سفن راسية منذ آلاف السنين تبادل المحيط أسرارها، فيما البيوت القرميدية المندسة بين أحراج الصنوبر الصغيرة عكست جمال الشاطئ وأناقته.
رافقتنا الدهشة إلى أن وصلنا إلى نقطة رأس الرجاء الصالح حيث يجتمع المحيطان الأطلسي والهندي اللذان لا تفصلهما حدود جغرافية بل يلتقيان عند هذه النقطة غير آبهَين بمفاهيم الجغرافيا السياسية.
وأخيرًا وصلنا إلى كايب بوينت حيث تقع منارة قديمة.
كان المكان مزدحمًا بالزوار، وانتظرنا دورنا لركوب القطار الجبلي «الفونيكولير» كي نصل إلى المنارة، هنا المشهد يقطع الأنفاس وترى المدينة مستريحة تستمتع بجمالها.
بعد كايب بوينت كنا على موعد على الغداء في مطعم سيغنال الموجود في فندق كايب غريس. يقع الفندق في واتر فرونت في قلب المدينة.
عند مدخل الفندق استقبلنا ليه المدير التنفيذي للعلاقات العامة في الفندق ودعانا إلى الغداء الذي كان لذيذًا لاسيما شوربة الباذنجان.
تجمع أجنحة الفندق وغرفه بين النمطين العصري والكلاسيكي مما يشعر نزيله بالحميمية، لا سيما في صالة الجلوس التي يجتمع فيها نزلاء الفندق وزوار من خارجه لتناول الشاي.
واللافت في الفندق اللوحات التي تغطي جدرانه والثريات الكريستالية المتدلية والتي علقت بها أواني المطبخ بعبثية فنية فريدة من نوعها.
بعد الجولة توجهنا إلى القسم الآخر من واتر فرونت. على رصيف المنطقة ترسو اليخوت والمراكب الشراعية بأناقة، أما المقاهي المنتشرة في المنطقة فكانت مزدحمة بالروّاد.
هنا في هذه المنطقة شعرت بأنني في كرنفال أفريقي- أوروبي، الكل يحتفل ولا أحد يأبه للون الآخر أو عرقه. الصورة تغيّرت بقرار من الجميع فالحرب العنصرية التي عانت منها البلاد اندثرت، فها هو فريق أفريقي تختلط أنغام موسيقاه، بموسيقى فرقة فلوكلورية إيرلندية بزيّها التقليدي، وينبثق في وسط المنطقة مسرح مفتوح على الهواء حيث تقدّم فرق موسيقية أو مسرحية عروضاً مجانية، أما هواة التسوّق فبعضهم من اختار البوتيكات الصغيرة المنتشرة في المنطقة، وبعضهم الآخر اختار إما مركز كلوك تاور التجاري أو مركز فيكتوريا راف أو مركز ألفرد أند بيرهيد الذي اخترته وجوسلين، فهذا المركز مبنى تاريخي يضم بوتيكات تعرض لأرقى دور الأزياء العالمية وفي الوقت نفسه بوتيكات لأصحاب الميزانيات المحدودة.
لفتني كبر حجم مساحة المركز رغم أنه بدا لي من الخارج مجرد مبنى صغير.
انتهت جولتنا في واتر فرونت وتوجهنا نحو فندق «وان أند أونلي» لتناول العشاء بضيافة دبرا ألجي المديرة التنفيذية في الفندق في مطعم روبينزReuben's للطباخ العالمي روبن رافيل. لفتني في الجنوب أفريقيين ذوي الأصول الإنكليزية أو الإيرلندية كرمهم وطريقة استقبالهم، فكأنما طبيعة البلاد أثرت في سلوكهم.
اخترت طبق شوربة باتر ناتس وسألت ديبرا عن مكوّناتها ووعدتني بإرسال طريقة طهوها وبالفعل ما أن عدت إلى بيروت حتى وجدت في بريدي الإلكتروني رسالة منها تتضمن الوصفة.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024