كانبرا عاصمة أوستراليا...
في صباح اليوم الرابع لي في أوستراليا ودّعت سيدني وحزمت حقيبتي لأحلّق نحو كانبرا عاصمة أوستراليا. والمفارقة أننا نحن من نسكن في الشطر الآخر من الكرة الأرضية بعضنا يظن أن سيدني أو ملبورن هي العاصمة. على عكس المفاهيم الديموغرافية والسياسية التي تجعل شهرة عواصم العالم تسبق لقاءها، فإن كانبرا عاصمة تعيش في كواليس مسرح المدن الأوسترالية.
بعد حوالي الساعة من التحليق، وصلنا إلى مطار كانبرا الذي استقبلنا بنسمات خريفية جبلية باردة. منذ اللحظة الأولى للقائي العاصمة أدركت أنني في مدينة تعيش في هدوء جميل، لا تشبه عواصم العالم.
فمطارها غير مزدحم وتتبختر في أرجائه همسات الخريف بحرّية، استقبلنا عند بوابته السائق هكتور ضاحك الوجه مرحّباً بنا بلكنة غريبة. لفت شاربه الكبير نظرنا جميعًا ورحنا نشبهه بأحد فناني لبنان الكوميديين إلى أن دفعنا فضولنا لنعرف جذوره فقال لنا إنه من تشيلي.
هكذا هي أوستراليا قارة تجمع تحت فضائها سكان قارات الأربع الأخرى.
شوارع العاصمة كانت شبه فارغة، والسبب أنه يوم سبت مما يعني أنه بداية عطلة الأسبوع والناس تستيقظ متأخرة والأسواق تفتح بعد العاشرة، ولكن الطبيعة لا تبالي للأيام بل تبقى مستعدة لاستقبال من يزور كانبرا.
ذكّرني عطر نسائمها بقرية والدتي الجبلية حين تروي السماء عطش الأرض بعد صيف طويل فتتضمخ بعطر خصب يعجز أعظم مبتكري العطور في العالم عن اختراعه.
رغم هدوء كانبرا فإن فندق نوفوتيل الذي سنمضي ليلتنا فيه كان مزدحمًا بالنزلاء، مما جعلنا ننتظر في مطعم الفندق حيث تناولنا فطورنا.
وعندما طال الانتظار قررنا الاستفادة من الوقت خصوصًا أننا سنبيت في كانبرا ليلة واحدة، وتوجهنا إلى متحف أوستراليا الوطني.
الطريق إلى المتحف كانت معبّدة بالأشجار الوارفة والوافرة الألوان وكأنها لوحة تشكيلية احتارت ريشة رسّامها في تلوينها فدلفت إليها كل ألوان الطبيعة التي جعلتني وزملائي نحار في تحديدها، فنسرين لم تتوقف عن القول: "لا أصدّق أن في هذا العالم طبيعة تزينها أشجار فريدة في ألوانها" إلى درجة احتارت ماذا تصوّر.
وهدأت حيرتنا إلى أن وصلنا إلى المتحف، للوهلة الأولى تظن أن لا أحد يزوره ولكن عندما ولجنا إلى داخلنه فوجئنا بوجود عدد كبير من الزوّار رغم أنه يوم عطلة والوقت لا يزال مبكرًا نسبيًا.
جاءت هندسة المتحف المعمارية على النمط العصري ذات الأشكال الهندسية المجرّدة. وساقتني المشاهد الطبيعية الخلابة المنبثقة من واجهات المتحف الزجاجية العملاقة للخروج ومسابقة حركة الطبيعة في التقاط الصور.
في البداية ظننت البحيرة الصناعية التي تخترق المدينة نهرًا ولكنها بحيرة، هذا ما أكده لي هكتور السائق لاحقًا.
عدت إلى جوف المتحف لاكتشاف تاريخ أوستراليا في جناح خاص عبارة عن مسرح صغير يشبه دار السينما ولكنه يدور تبعًا للمراحل التي مرت فيها أوستراليا.
جلسنا على المقاعد وأطفئت الأنوار وساد الصمت للحظات وبدأت مغامرة اكتشاف أوستراليا حين بدأت الشاشات تعرض التاريخ بدءًا من العصر الجليدي إلى أن تكوّنت القارة ووصلت سفن المستكشفين.
الموسيقى كانت رائعة ولكن ما لفتني أن صوتي المقدّمين بدا لي كأنهما يدوران حولنا. في نحو نصف ساعة تعرفنا إلى ألف باء تاريخ أوستراليا. ما يثير العجب هو أن كيف هذا البلد القاري استطاع في غضون نحو قرنين أن يصل إلى هذه المرتبة من التقدّم والتطور.
صحيح أن السكّان الأصليين لم يساهموا في تكوين هذه الحضارة الشابة ولكن يبدو أنهم راضون عن كل ما حصل لبلادهم. والسكوت كما هو معلوم علامة الرضى.
جلت في أرجاء المتحف ولفتني الجناح الذي يعرض نمط حياة الأوستراليين في بدايات القرن العشرين خصوصًا الأزياء التي تعكس ذوقًا رفيعًا في التصميم.
أما في الجناح الذي يعرض لأعمال وأقوال بعض السكان الأصليين فأثرت فيّ عبارة سيدة من سكان أوستراليا الأصليين الذين يعرفون بالـ Abroginals تقول إن معلّمتها أكدت لها أنها لن تنجح في المدرسة لأن غباءها جيني، وهي اليوم أستاذة جامعية في التاريخ!
انتهينا من زيارة المتحف وتوجّهنا إلى مطعم "سافرون" لتناول الغداء مع سفير الإمارات العربية المتحدة لدى أوستراليا علي ناصر النعيمي وعقيلته السيدة عائشة.
استقبلنا صاحب المطعم وكان لبنانيًا من طرابلس فانهالت عليه أسئلتنا عن مدة وجوده في أوستراليا وما إذا كان سعيدًا في كانبرا خصوصًا أنها مدينة هادئة جدًا على عكس عواصم العالم وسيدني، فحدّثنا أن لاختيار كانبرا عاصمة روايتين: الأولى تقول إنها تكريم لسكان أوستراليا الأصليين لأنها تضم نسبة كبيرة منهم.
أما الرواية الثانية فتقول إن اختيارها جاء نتيجة صراع صامت بين أن تكون سيدني أو ملبورن العاصمة فوقع الاختيار على كانبرا لأنها تقع بين المدينتين.
وبعد لحظات جاء السفير وعقيلته ورحب بنا في كانبرا، ودار حديث شيّق بيننا وبينه أكد لنا خلاله أنه سعيد في هذه المدينة الهادئة خصوصًا أن معظم الطلاب العرب يرتادون جامعة كانبرا وهو على تواصل دائم معهم ويجري حوارا أسبوعيا ويعتبرهم مثل أبنائه ويشاركهم هموم الغربة خصوصًا أنهم في بلاد بعيدة جدًا عن وطنهم الأم.
بعد الغداء جلنا وصلنا في كانبرا فكأنما المدينة أطلقت لنا العنان للتعرّف إليها بحرّية في طبيعة غنّاء السكون فيها فن طبيعي خاص بها.
طلبنا من السائق أن يقلنا إلى السوق التجاري في المدينة، وهناك راح كل واحد منا يكتشفه على طريقته. فالمركز التجاري يضم واحة للتسوّق والأسعار ليست مرتفعة كما في سيدني.
دهمني الوقت ولم ألحظ حلول الساعة الخامسة إلا عندما بدأت المحال بإغلاق أبوابها، فعدت سيرًا على القدمين إلى الفندق. وفيما كانت المتاجر تغلق أبوابها كانت المقاهي تستعد لاستقبال روّادها في أمسية السبت والكل منهمك في التحضيرات.
أما أنا فوقعت في حيرة التقاط الصور فعدسة الكاميرا كانت عاجزة عن تسجيل الجمال الطبيعي المتناثر كيفما وجهت ناظري في تفاصيل المدينة... وصلت إلى الفندق وصعدت إلى غرفتي التي كانت في الطبقة السادسة ورحت أحاول من الشرفة تسجيل صور كانبرا ساعة الغروب.
جميلة كانبرا رغم أنها تعيش في كواليس المدن الأوسترالية. ولن يعرف سبب تخليها عن دورها في مسرح المدن إلا من يزورها، فهي مدينة تدخلك في لعبة الاسترخاء إلى أقصى حدود لتنسى أن الزمن يمر بها فهي لا تسابقه بل ترغمه على التوقف ليتأمل في دقائقه التي تمر إراديا ببطء جميل لن يدركه إلا من يزور كانبرا.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024