أبو ظبي... إمارة عصرية
أبو ظبي. كثيرًا ما سمعت وقرأت عن هذه الإمارة التي تشهد فوره ثقافية وفنية وبالطبع اقتصادية، ولكن أن تسمع وتقرأ شيء وتخوض تجربة شخصيّة للتعرّف إلى المدن بكل حواسك أمر مختلف. لذا لم أتردد لحظة عندما تلقيت دعوة من فيراري وورلد أبو ظبي لحضور افتتاح أوّل متنزه في الشرق الأوسط لـ فيراري The world's first Ferrari theme park في منطقة ياس في أبو ظبي.
وصلت إلى أبو ظبي مساء مخترقة المطار العصري المنمق بالنمط الشرقي بألوانه وزخرفاته، مسرعة الخطى نحو البوابة الإلكترونية لأطأ أرض الإمارة، وكما المعتاد كان هناك سائق في انتظاري ليقلني إلى فندق كراون بلازا في منطقة ياس التي تبعد عن المطار حوالي 15 دقيقة لم تمكّنني من رصد الإمارة، بل استسلمت لنوم عميق فور حصولي على مفتاح غرفتي في الفندق.
استيقظت صباحًا قبل أن تخترق خيوط الشمس باب الغرفة الزجاجي فكان انعكاس نوره الخطوة الأولى لتعرّفني إلى ملامح الإمارة الصباحية التي تغسل وجهها بنسائم خريفية منعشة مستعدة لنهار شمسي طويل. المشهد من شرفتي شكلته ثلاثة ألوان: الأزرق الفيروزي للبحر الذي تستلقي أبو ظبي على شاطئه، والأخضر الذي يتحدى لون الصحراء المحيطة به بصمت جميل أبلغ من الكلام.تركت الغرفة ونزلت إلى بهو الاستقبال الذي كان يضج بالنزلاء من كل الأعراق والجنسيات، وكأنه برج بابل «تجمّع فيه من كل لسان وأمة فما يُفهم الحدّاث إلا التراجم» كما قال أبو الطيب المتنبي.
كان في انتظاري وباقي أعضاء الفرق الصحافية، مندوب من هيئة أبو ظبي للسياحة ليقلنا إلى مدينة أبو ظبي وتحديدًا إلى «جامع الشيخ زايد الكبير».
سارت بنا الحافلة في شوارع عريضة تزنّر بعضها أبراج عملاقة زجاجية تجاورها مجمّعات سكنية راقية تمتد قبالة الشاطئ اللؤلؤي. وعن بعد لاحت لنا قباب بيضاء تقف عند ربوة وسط مدينة أبو ظبي، دارت الحافلة حول الربوة إلى أن اخترقت طريقًا فرعيًا غُرست على طرفيه أشجار البلح.
كان مدخل الجامع الرئيسي يغص بالزائرين من كل الجنسيات، وبدت على وجوههم الدهشة لروعة الفن المعماري الذي تميز به الجامع. عند مكتب الاستقبال توزّع العباءات ومناديل الرأس قبل الدخول إلى صحن المسجد وأجنحته، كانت مرشدتنا شابة إماراتية تملؤها الحماسة رحّبت بنا بابتسامة عريضة وراحت تحدّثنا بلغة إنكليزية تتقنها جيّدًا عن الجامع.
أبوظبي وجامع الشيخ زايد الكبير رحلة في عالم الإيمان
يحتل جامع الشيخ زايد الكبير موقعًا وجدانيًا ورمزيًا في قلوب الإماراتيين، إذ يحتضن في قسم مستقل منه ضريح المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حيث تتلى آيات من الذكر الحكيم على مدار الساعة عن روح الشيخ زايد منذ وفاته، مما يمنح الجامع قيمة عاطفية ورمزية كبيرة تضاف إلى قيمته الروحية والمعمارية.
حقق الجامع حضوره الواسع في حياة مدينة أبو ظبي، وبات واحداً من أبرز معالمها المعمارية ووجهاتها السياحية. تقام فيه مجموعة من الفعاليات الدينية، مثل دورات ومسابقات تحفيظ القرآن وتلاوته، وغيرها من النشاطات التي ينظمها مركز جامع الشيخ زايد الكبير، مما يضعه في طليعة المراكز الثقافية والفكرية والسياحية في أبو ظبي.بدأ العمل على تشييد جامع الشيخ زايد الكبير في أواخر تسعينات القرن الماضي ، حين وضع الشيخ زايد آل النهيان حجر الأساس، وافتتح عام 2007. يمتد الجامع على مساحة 22,412 مترًا مربعًا ويتميّز بقبابه الـ 82 قبة مستوحاة من الفن المعماري المغربي والأندلسي ومصنوعة من الرخام الأبيض. ويبلغ القطر الخارجي للقبة الرئيسية 32,8 مترًا بينما يبلغ ارتفاعها 70 مترًا من الداخل و85 مترًا من الخارج، وتعتبر الأكبر من نوعها على مستوى العالم.
يتميز الجامع باللون الأبيض حيث استخدم الرخام الأبيض اليوناني الذي يغطي جميع الجدران والأعمدة الخارجية، كما حفرت على الجدران الآيات القرآنية وزخارف إسلامية، ويغطي الرخام الزهري اللون والفسيفساء صحن الجامع الذي يمتد على مساحة 17000 متر مربع. كما يحيط الجامع أربع مآذن في زواياه الأربع يبلغ طول كل واحدة منها حوالي 107 أمتار .دخلنا إلى قلب الجامع عبر الباب الزجاجي الرئيسي الذي يبلغ ارتفاعه 12.2 مترًا وعرضه 7 أمتار، ويزن 2.2 طن، زُخرف بالذهب عيار 24 قيراطاَ والفسيفساء.
قبل الدخول إلى قاعة الصلاة الرئيسية المخصصة للرجال عبرنا جناحًا استوحيت فكرته من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجنّة، أقل ما يقال عنها إنها تحفة معمارية فريدة من نوعها، كانت المقدّمة لدخولنا إلى قاعة الصلاة الرئيسية حيث تتدلى في وسطها ثريا مشغولة من الشوارفسكي والذهب وتعتبر الأكبر في العالم إذ يبلغ قطرها 10 أمتار وتزن 9،8 أطنان. انبسطت تحتها سجادة تغطي 7،119 متراَ مربعاَ شارك في نسجها ما يزيد عن الألف امرأة. واستخدم في منطقة المحراب ذهب من عيار 24 قيراطاً وأوراقاً ذهبية وزجاجاً وفسيفساءً، وتحتوى القاعة على 96 عموداً من الرخام مصنوعة يدويًا وغطيت بأحجار شبه كريمة. أما جدار القبلة الذي يبلغ ارتفاعه 23 متراً وعرضه 50 متراً فقد تم تخطيط أسماء الله الحسنى عليه باستخدام الخط الكوفي مع خلفية مضاءة بألياف بصرية.
ومن القاعة الرئيسية عبرنا إلى قاعة مصلى النساء فهي أقل بساطة وأصغر حجمًا ولكنها تعبّر عن إبداع الفن الإسلامي بكل أناقته وجماله. ومن مصلى النساء خرجنا إلى صحن الجامع الخارجي المكسوة أرضه بالرخام الأبيض الذي أيضًا تخترقه الزخرفات واللافت أن هذا الرخام يحفظ البرودة رغم قسوة حرارة شمس أبو ظبي، وقد جربنا ذلك بأنفسنا حين خلعنا أحذيتنا قبل الدخول إلى قلب الجامع.بعد زيارة الجامع والعرض التفصيلي لكل أرجائه عدنا إلى الفندق لنستعد لليلة افتتاح متنزه عالم فيراري الترفيهي. ركبنا الحافلة متوجهين إلى مدينة عالم فيراري أبو ظبي التي تبعد حوالي عشر دقائق عن الفندق في منطقة ياس.
تم تصميم هذه المدينة بما ينسجم مع جزيرة ياس فجاء بسيطًا يعانق الأرض المحيطة به من خلال خطوط حمراء متدفقة تشبه الكثبان الرملية. دخلنا إلى قلب المدينة فبدا واضحًا أنه مستوحى من سيارات الفيراري. هنا تسمع أصوات المحركات تنطلق بسرعة فتظن أن سباق رالي يجري في مكان ما في المدينة ولكن لا إنه مجرّد نظام الصوت في المدينة يثير حماسة من يدخلها لتجربة كل النشاطات والألعاب الموجودة فيها، فتنسى مسألة الخوف من تجارب السرعة. ولكني لم أخض غمار كل الألعاب فأنا أعرف نفسي، «رحم الله أمرأ عرف قدر نفسه» وقررت خوض غمار الألعاب التي أستطيع السيطرة عليها.
من المرافق التي تضمّها المدينة «غاليريا فيراري» الذي يقدّم عروضًا تفاعلية تحكي تاريخ سيارات فيراري، وفي جولة «سحر السرعة» يستمتع كل أفراد العائلة باختبار العالم الخيالي لسائق السباقات من خلال مغامرة رباعية الأبعاد تأخذ الزائر عبر محيط خلاب تتنوع بيئاته من أعماق الغابات إلى الكهوف الجليدية والوديان ليجتازوا مناطق لم يسبق لسيارة فيراري الوصول إليها. وفي مدرسة «جي. تي.» للناشئين يتعلم الأطفال مهارات القيادة قبل الانتقال إلى الحلبة وخوض مغامرة سباق فيراري للفورمولا وان في مدرسة سباق الجائزة الكبرى للناشئين. أما هواة الإثارة فيمكنهم تجربة الحلبة الأفعوانية الأسرع في العالم «فورمولا روسيّا». فضلاً عن الألعاب الترفيهية تضم المدينة متجرًا يعرض تراث فيراري بين الماضي والحاضر، وبوتيك فيراري الذي يعرض الملابس والألعاب والقرطاسية والحقائب... من صنع فيراري. كما تضم المدينة مجموعة من المطاعم والمقاهي الفريدة.
تركت عالم فيراري الذي لم أخض كل تجاربه بل اكتفيت ببعض منها، وعدت إلى الفندق مستسلمة لنوم عميق لم أرد أن أفكر في ما ستفاجئني به غدًا إمارة أبو ظبي.
اليوم الثاني موعد مع التراث والثقافة
عند الصباح انطلقت بنا الحافلة إلى القرية التراثية في مدينة أبو ظبي وكانت مرشدتنا السياحية سيدة هولندية كبيرة السن تتحدث الفرنسية بلكنة هولندية طريفة لأن غالبية الركّاب كانوا فرنسيين. كانت تتحدّث عن أبو ظبي بشغف وكأنها مواطنة أصلية، فأخبرتنا عن سبب تسمية أبو ظبي، وبحسب ما أكّده المؤرخون أن سبب تسمية «أبو ظبي» يرجع إلى عام 1761 ، حين كان رجل ذو شأن من قبيلة بني ياس يجوب جزيرة مهجورة بحثًا عن الماء، وإشباع هواية القنص، التي استحوذت على عرب الخليج والجزيرة العربية. وبينما هو ماض في رحلة البحث إذا بظبي يظهر أمامه فجأة، فصوب الرجل سلاحه إليه، وأصابه، وعندما اقترب منه اكتشف منبعًا عذبًا للماء، فعاد الرجل إلى قومه فرحًا، وكان يومًا من الأيام المجيدة، ومن يومها أطلق شيخ قبيلة بني ياس اسم «أبو ظبي» على هذه الجزيرة، وأعلن تحريم الدخول إليها، والدفاع عنها من الغزاة. وصلنا إلى القرية التراثية، وقفت على جانبي المدخل الرئيسي قناديل توحي بالتاريخ، ولفتت نظري قناديل الكاز التي بدل من أن تُشعل بفتيل تُشعل بمصباح كهربائي في مفارقة طريفة ورسالة إلى من يزور المكان مفادها أن التاريخ يحضن العصر. دخلنا القرية عبر بوابة عملاقة من الخشب تعكس روح الحواضر العربية التاريخية، تجولنا في أروقتها المرصوفة بالحجارة مستحضرة أبو ظبي القديمة بكل تفاصيلها، فهنا سوق يحوي حوانيت تبيع التذكارات، ومتحف يعرض لتاريخ أبو ظبي، وركن فيه بئر ماء تقليدية، ومقهى يقدم ما لذا وطاب.
اللافت احتضان المدينة العصرية للتاريخ مما يعكس تمسك سكان أبو ظبي بعاداتهم وتقاليدهم رغم كل أسلوب الحياة العصرية التي تطغى على المدينة راهنًا. بعد القرية التراثية توجّهنا إلى جزيرة السعديات حيث يشيّد متحف اللوفر.توقفت الحافلة أمام مدخل «منارة السعديات» وهو مركز معارض يضم مجسّمات صغيرة عن المشاريع التي تقام في جزيرة السعديات، ويستضيف معارض الفنون من كل أنحاء العالم. عند مدخل المركز رحبّت بنا المسؤولة وسلّمت زمام أمر تعريفنا إلى مشاريع جزيرة السعديات إلى شاب ومجموعة شابات إماراتيات يتقن الإنكليزية كما يتقن فن التعريف، فمررنا بتسعة فصول تتحدث عن المشاريع العمرانية التي تقام في الجزيرة. اللافت حماسة الشاب والشابات وفخرهم بإمارتهم.
مستشفى الصقور
بعد منارة السعديات وتناول الغداء في مطعم سفرة في شانغريلا أبو ظبي، توجهنا إلى مستشفى أبو ظبي للصقور. هنا في المستشفى كانت التجربة أكثر من رائعة. قد يظن الواحد منا خصوصًا في العالم العربي أن إنشاء مستشفى للصقور فيه من الترف والبذخ، ولكن عندما يكون الصقر رمزًا للبلاد ووجوده في حياة أهل أبو ظبي تقليد لم يتخلوا عنه رغم أسلوب الحياة العصرية يدرك لمَ له هذه الأهمية. فالصقر كان و لا يزال وسيلة للصيد، لذا كان ولا يزال يعتبر جزءًا لا يتجزأ من حياة العائلة. عند بهو الاستقبال رحّبت بنا مديرة المستشفى الدكتورة مارغيت مولر. في البداية دعتنا للدخول إلى جناح الصقور المحنّطة وبدأت تعرفنا إلى أنواعها وميزاتها وطرقها في الصيد وأهمية الصقر في تراث أهل أبو ظبي والمعلومة التي أعجبتني جدًا هي أن أنثى الصقر أكبر حجمًا من الذكر ولديها قوة أكبر في الانقضاض على فريستها.
بعد الصقور المحنّطة دخلنا إلى غرفة العمليات البسيطة حيث كانت الصقور الحقيقية تصطف وقوفًا على مجموعة مجاثم وتضع برقعًا يحجب عنها رؤية ما حولها، المشهد طريف، فهذا الصقر القوي الذي يصطاد فريسة بحجم الغزال يقف على مجثم بخضوع لا يعرف ما يجري حوله حتى لا يمكنه الثرثرة مع زميله الجالس إلى جانبه. أما لماذا تضع الصقور برقعًا فقد أجابتنا الدكتورة مولر أن الصقور التي لا تعرف بعضها يمكن أن تهاجم بعضها، لذا، ففي المستشفى يعدّونها خطوة - خطوة إلى أن تتآلف مع بعضها. في مقابل صف الصقور تقع غرفة عمليات صغيرة يجري فيها تخدير الصقور لتقليم أظافرها، وهذا ليس بذخًا وإنما ضرورة صحية حتى تبقى أظافرها قوية، وليتمكن الصقر من الانقضاض على فريسته، كما تجري العناية بأسنانه. خضت تجربة وضع صقر على يدي ومداعبته، شعور فيه تحد ورهبة في الوقت نفسه خصوصًا إذا خُلع عن رأس الصقر برقعه.بعد هذه التجربة جلنا في أجنحة المستشفى الذي صار معلمًا ثقافيًا وسياحيًا يضم جناحًا للمؤتمرات ومطعمًا فخمًا يسع 200 شخص تقام فيه المناسبات الكبرى وجناح الخيمة. بعدها خرجنا إلى قفص كبير حيث يوجد مجموعة من الصقور تعيش فيه، دخلنا إليه وكانت الصقور تراقبنا. بعضها كان يطير وكأنها تتبادل الأحاديث وتتحرى الغرباء الآدميين الذين اقتحموا مملكتها، ولفتت نظرنا مولر إلى صقر يبدو أنه قائدهم كان يراقبنا ويترصد حركتنا وبدت لي الصقور الأخرى تأتي إليه وتزوّده الأخبار.
لاحظت مولر خوفي فطمأنتني أن هذه الصقور شبعانة ولن تقترب منا، ولكني لم أتنفس الصعداء إلا بعد خروجنا من قفصها. انتهت زيارة المستشفى ودانت معها ساعة رحيلي عن أبو ظبي، حاملة في حقيبة أسفاري صورًا لإمارة شابة تنبض بالحياة تعرف كيف تخترق متاهة العولمة وتشذبها وتخضعها لإرادتها. فالمستقبل ليس غموضًا يعبث بأحلامها بل طريق تعبّده بأفكارها، وروح جميلة تنفلت من قيود الزمن. إنها إمارة تبهرك بكل ما فيها من سحر يعبق بسمرة الصحراء وبياض اللؤلؤ الذي تخرجه من بطن البحر الأزرق . وما بين الاثنين عالم عصري يشغل المخيلة إلى ما لانهاية.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024