تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

جزيرة موريشوس...سفر إلى عالم افتراضي

بعدما تركت جزر سيشل عدت وحلّقت في الفضاء الإفريقي مدة ساعتين نحو جزيرة موريشوس السابحة في المحيط الهندي، الوجهة الثانية ضمن برنامج طيران الإمارات للعطلات. لم يكن لدي في التحليق الثاني أي شك في أن موريشوس ستكون امتدادًا لجرعات السحر الطبيعي الذي أسقتني إياه جزر سيشل، و كنت كلي حماسة للقائها، والتيه بين ألغازها. حطت الطائرة على مدرج المطار وتسارعت خطاي نزولاً لسلم الطائرة وركوبًا للحافلة التي أقلتنا إلى مبنى المطار الذي بدا مختلفًا عن مطار سيشل، فهو أكبر حجمًا وتصميمه عصري يشبه معظم المطارات الدولية.

 تمازج بذخ الفنادق الأسطوري بترف الطبيعة الفردوسي
انتهت إجراءات إذن الدخول إلى الجزيرة، وكما سيشل فلا حاجة إلى تأشيرة مسبقًا.  كانت في انتظارنا جايا مندوبة مكتب وايت ساند للسياحة في جزيرة موريشوس عند بوابة المطار الرئيسية. ركبنا الحافلة متوجّهين نحو الفندق. بدت لي الجزيرة أكثر واقعية بشوارعها العريضة والعصرية والمباني المرتفعة، قلت في نفسي بدأت أعود إلى واقع المدن العصرية. ولكن بعدما دارت بنا الحافلة وسط حقول قصب السكر بدأت نظرتي الواقعية إلى الجزيرة تتلاشى، فعندما وصلنا إلى فندق ذا أوبروي The Oberoi، عاد  بذخ  الفنادق الأسطوري المتمازج بترف الطبيعة يستعرض لوحاته أمام ناظري. كل شيء جميل إلى درجة اللامعقول، فشعرت بأنني رُميت للمرة الثانية  في عالم افتراضي يتحدى المخيلة الإنسانية مهما بلغت درجات الإبداع.

في فندق أوبروي يتكرر أسلوب الاستقبال نفسه الذي بت أعتاد عليه «الوجه الضاحك الفوطة الرطبة الباردة والعصير المنعش». جلسنا في البهو الخارجي للفندق المشرف على البحر ونسائمه في انتظار مفاتيح غرفنا. رحت أتأمل المحيط الذي بدا للحظات أنه يراقبني ويرصد ردات فعلي، يهمس إلى الطبيعة البكر ليتآمرا عليّ ويستهلكا حواسي الخمس ويخدّراها، فأجد نفسي أخترع حاسة تجعلني أدرك أن كل ما هو حولي، الألوان والروائح وحركة المخلوقات، حقيقي وليس ضربًا من الخيال. ما هي إلا لحظات حتى أتى مسؤول العلاقات العامة في الفندق ليصطحبنا في جولة نتعرف فيها إلى فيلات الفندق وأجنحته ومطاعمه التي تبلغ ذروة الترف. بعد الجولة، تسلّم كل واحد منا مفتاح فيلته، والطريف أنني اكتشفت أثناء وضعي المفتاح في حقيبتي بأنني احتفظت بمفتاح غرفة «بانيان تري» عن غير قصد، فتمنيت أن يحصل الأمر معي مرة ثانية.
بعد أخذ قسط من الراحة تناولنا العشاء مع مدير الفندق  سيفيك يانسن وتحوّل العشاء إلى حوار حضارات وراح كل واحد منا يتحدّث عن عادات بلاده وتقاليدها، فضلاً عن رحلاته حول العالم. انتهت الأمسية الأولى في موريشوس وكانت بالنسبة إلي مقدّمة للغوص في جغرافيا خيال العالم الأفريقي.

في بورت لويس المغامرة الموريشوسية بدأت في السوق الشعبي
في صباح اليوم التالي اصطحبتنا جايا إلى بورت لويس عاصمة موريشوس.هنا بدأت المغامرة الحقيقية. بداية، وكما فعلنا في سيشل، توجهنا إلى مكتب للصيرفة وحوّلنا الدولار إلى روبية، فكل دولار يعادل 31 روبي موريشوسي.

ونبّهتنا جايا لضرورة أخذ الحيطة في السوق الشعبي نظرًا إلى إمكان حصول حوادث نشل رغم أنها نادرة. ذكّرني السوق الشعبي في بورت لويس بالأسواق في حواضرنا العربية، فعلى طول أزقة ضيّقة ومتعرجة بعضها مسقوف وبعضها منفتح على السماء تتجاور الدكاكين التي يعرض بعضها التذكارات والأعمال الحرفية التقليدية، لا سيما حقائب القش والقبعات والسلاحف الخشبية. وتشدك روائح البخور الذي يفوح في المكان وكأنه يعطّر العباءات الإفريقية والشالات بألوانها المرحة وهي تتدلى من الدكك التي تبدو كأنها تداعب زوّار السوق فتدعوهم للغوص في مغامرة موريشوسية بكل أبعادها. أما الباعة فيقفون أمام متاجرهم يرصدون حركة المارة ليميزوا بين الراغب في الشراء وذاك الذي يريد التعرّف إلى السوق فحسب. اللافت أنهم يتعاونون في ما بينهم فإذا لم يجد المشتري مقاس الملابس أو لونها أو طلبه في هذا المتجر، يطلب منه البائع الانتظار فيختفي للحظات ثم يعود بمطلبه بعد أن يكون قد أحضره من عند جاره. وكم جميلة تجربة المساومة على السعر في هذا السوق. فزميلتنا زينة استطاعت أن تشتري ثلاث عباءات لوالدتها بسعر عباءة واحدة. وكم كان طريفًا مشهد البائع الذي تبعها إلى مخرج السوق معلنًا استسلامه للسعر الذي عرضته عليه.

كودان واتر فرونت إنعكاس للحياة العصرية التي تغسل وجهها بعطر الطبيعة
أكملنا مغامرتنا في بورت لويس سيرًا على الأقدام إلى أن وصلنا إلى واتر فرونت waterfront حيث يتلاعب الموج باليخوت والمراكب الشراعية والسفن التجارية الراسية في المرفأ.

هنا اختلف المشهد قليلاً رغم أن الحضن الطبيعي هو نفسه. فعلى امتداد الكورنيش البحري تتجاور المتاجر التي تعرض لأهم دور الأزياء، ينبثق منها مجمع Caudan waterfront التجاري العصري الذي يضم ثلاثة أبنية ضخمة من بينها فندق فخم. يحتوي المجمّع على 170 متجرًا تعرض آخر ما ابتدعته دور الأزياء ومقاه عصرية. ينفرد مقهى الفندق بهندسة داخلية جاءت على شكل سفينة القراصنة، مما جعله مقصد رجال الأعمال ونجوم بوليوود. تجولنا في أرجائه لكننا لم نستطع التسوّق نظرًا إلى أنه كان يوم الأحد  ومعظم المتاجر فيه مغلقة، ما عدا المتاجر التي تعرض المشغولات اليدوية و التذكارات. اللافت في بورت لويس وفي موريشوس عموماً النظافة حيث لا تجد ورقة مرمية على الأرض. تركنا المكان وتوجهنا إلى القلعة صعودًا حيث توقفنا لالتقاط صور لبورت لويس.
كان المشهد فريدًا جزيرة محاطة بالأزرق الفيروزي يخترقه الأبيض العاجي، وتنبثق هضاب شديدة الخضرة تقف عند أقدامها سهول يتدحرج فيها الأخضر بكل درجاته.شعرت بأن بورت لويس جمعت طرفي الجغرافيا الماء واليابسة بشكل عفوي،  مما جعل المشهد يملأني غبطة لا أعرف سرها.

«لافانتور دو سوكر» متحف للسكر كان في الماضي مصنعًا
 
عند الأولى بعد الظهر كنا على موعد على الغداء في متحفL'Aventure du Sucre    وكان في الماضي مصنعًا لإنتاج السكر وتحوّل اليوم إلى متحف يضم مطعمًا ومتحفًا وبويتكًا يعرض كل منتجات السكر.

في المطعم استقبلنا المدير التنفيذي لمكتب وايت ساند للسياحة بيتر غولد سميث.
اللافت في موريشوس كما سيشل اختلاف أعراق السكان، فتجد ذا الأصول الهندية أو الصينية أو الأفريقية أو الأوروبية، مما يجعلها جزيرة كوزموبوليتانية بامتياز، وجميعهم فخورون بأنهم من موريشوس. حدثنا بيتر عن المكان وعن أهمية قصب السكر في جزيرة موريشوس، فمنه يصنع السكر بكل أنواعه وتستعمل بقايا قصب السكر لتوليد حوالى 30 في المئة من الطاقة الكهربائية لتشغيل آلات المصنع. فسكان موريشوس وحكومتها يولون أهمية كبرى للمحافظة على البيئة، فلا عجب أن تنال موريشوس المرتبة السادسة في العالم بين البلدان الأكثر نظافة والأقل تلوثًا. تجولنا في أرجاء المتحف، تذوّقنا أنواع السكّر، وللأسف خانتني كاميرتي عندما فرغت بطاريتها ولم أستطع التقاط الصور.

متنزّه بامبلومس معقل الطبيعة البكر
بعد غداء السكّر توجهنا إلى متنزه بامبلوموس Pamplemousses الذي يمتد على مساحة 25 هكتارًا في قلب الجزيرة. يعود تاريخ إنشاء المتنزه إلى القرن الثامن عشر وبناه عالم النبات بيار بوافر . لا أبالغ في قولي إذا قلت إن بصري لم يعد يستوعب ما يراه من روائع الطبيعة البكر. فالأشجار الوارفة والعملاقة يتسلقها نبات متعدد الألوان والأنواع ينمو من دون تدخل يد الإنسان، أما البحيرات فقد طفا على وجهها نبات غريب الشكل مزركش بالزهور تتظلله الأسماك والحيوانات البرمائية.

كل جناح في المتنزه  أطلق عليه اسم أحد عظماء التاريخ في شتى الميادين، فتجد رواق تشارلز  داروين مثلا، فضلاً عن أنه  يضم حديقة يمكن تسميتها حديقة العظماء حيث غرس رؤساء دول وملوك وفنانون عالميون أشجارًا. كان المتنزه يضج بالناس لا سيما سكان الجزيرة الذين يقصدونه يوم الأحد ليمضوا يومهم فيه، ولفتني اهتمام بعض الزائرين بحديقة الغزلان حيث تجدهم يطعمون الغزلان خبزًا أحضروه معهم. كما يضم المتنزه حديقة للسلاحف العملاقة. الدخول إلى المتنزه مجاني يوم الأحد أما باقي أيام الأسبوع فعلى الزائر أن يدفع ثمن بطاقة دخول. أنهينا جولتنا في المتنزه الذي أطلقنا فيه العنان لطفولتنا.
في طريق عودتنا إلى فندق أوبروي مررنا بفندق الهيلتون حيث كانت في انتظارنا مديرة العلاقات العامة هناك. تعرفنا إلى أجنحة الفندق وغرفه وفيلاته التي تكرر فيها الإبداع في التصميم المنسجم مع روائع الطبيعة. دعتنا فيديا إلى العشاء في أحد مطاعم الفندق. وخلال تبادل الأحاديث روت لنا الكثير من القصص الرومانسية التي تحدث في الفندق، فأخبرتنا عن حفلة العرس لعروسين في الثمانين قررا أن يمضيا حياتهما معًا، وكيف جرى الاحتفال بهما في جو من الرومانسية الجميلة على الشاطئ. اللافت في المطعم وجود جلسة عربية وشيشة...
تخيّل شيشة في جزيرة موريشوس! الجميع أحس بالحنين إلى بلاده وكأننا تركناها منذ سنوات، فقرروا تناول العشاء في أجواء شرقية. رغم أننا كنا نريد العودة أصرّت فيديا على البقاء حتى السابعة مساء، استغربنا إصرارها إلى أن عرفنا السبب وبطل عجبنا.

فعند السابعة يقوم موظفو الفندق بإشعال الفوانيس النارية معلنين بداية النشاطات المسائية بمرافقة موسيقى الساغا فيخرج نزلاء الفندق من أجنحتهم ليتبادلوا التحية ويستقبلوا المساء.
في اليوم الثالث وضبت حقبيتي لأننا سنغادر فندق أوبروي للمبيت في فندق الفور سيزنز. قررنا أنا وزميلتا الرحلة زينة وساندي التنعم بحياة الترف وتناول وجبة الفطور في حديقة الفيللا التي نزلت فيها. أحيانًا يلزمك المكان الذي تبيت فيه على تقمص بيئته الطبيعية، فعندما تكون في مخيم كشفي مثلاً تجد نفسك تتصرف بخشونة الطبيعة الدغلية.
فيما تجد نفسك تتصرف كما الملوك حين تكون في بيئة تضج بالبذخ الطبيعي والترف الإنساني والحياة المخملية، وهذا ما حدث معنا في فندق أوبروي، فحاولنا قدر المستطاع التنعم بأجوائه الأسطورية حتى آخر لحظة. غادرنا أوبروي وللأسف لم أنسَ مفتاح الفيللا التي نزلت فيها معي، ربما عندما نتعمد في وعينا أن ننسى لا يتحقق الأمر.

راند باي بلدة فيها كل الترف الموريشسي
في طريقنا إلى الفور سيزنز كانت لنا محطة في بلدة غراند باي Grand baie . بدت البلدة سياحية بامتياز تضج بالحياة المترفة. فهنا لاحظنا وجود السيارات الفخمة ذات الطراز الحديث و البوتيكات التي تعرض لأهم دور الأزياء العالمية تجاور البوتيكات التي تعرض للأزياء والتذكارات والتحف الموريشوسية، وتنتشر على امتداد شوارعها مقاهي الرصيف. قد تتردد في التسوّق في غراند باي ظنًا منك أن الأسعار ستكون مرتفعة، ولكن العكس صحيح، وهنا أيضًا يمكنك المساومة.

لقد فوجئت بالأسعار، فبينما كنت فخورة لأنني حصلت على حسم كبير عندما اشتريت قميصًا لابن أختي وجدت القطعة نفسها بسعر الحسم الذي حصلت عليه، وكذلك حدث مع زينة. أحيانا تخدعنا الأسواق الشعبية ببساطتها فنظن أنها أرخص من الأسواق الفخمة، وننسى أن التاجر في هذه الأسواق «شاطر» ويعرف كيف يقنع الزبون بأن بضاعته رخيصة مقارنة بمثيلاتها في الأسواق الراقية.
بعدما انتهينا من مغامرة التسوق في غراند باي انطلقنا نحو منتجع توسروك Le Tousserok  الذي لا يقل فخامة عن نظيره أوبروي من حيث الأسلوب في الهندسة المعمارية المتماهية مع الطبيعة الدغلية والمحيط الفيروزي.
استقبلنا مدير الفندق دافيد وأخذنا في جولة في أرجاء الفندق والمنتجع، ثم ركبنا قاربًا أبحر بنا إلى جزيرة الغزلان Ile aux Cerfs التابعة للفندق التي يقام فيها الكثير من المناسبات الخاصة، كالأعراس. عند مرسى الجزيرة الخشبي استقبلنا عدد من موظفي الفندق. الأول طلب منا نظاراتنا الشمسية لينظفها، والثاني أعطانا الفوطة الباردة، والثالث رافقنا إلى طاولة الغداء، قمة الترف. والطريف أن أحد الموظفين كان يتكلم العربية بطلاقة وتحديدًا اللهجة المصرية، فتبادل معنا بعض العبارات التقليدية المصرية، وعرفنا أنه عاش في القاهرة فترة وتأثر بعادات سكان هذه المدينة وتقاليدهم.  أثار اسم الفندق فضولي فسألت دافيد عن معناه فقال إنه اختصار لكلمة le tous sur rock أي كل شيء على الصخر.

ويعود تاريخ تشييد الفندق إلى منتصف سبعينات القرن الماضي، لذا نجد فيه أجنحة تعكس الأسلوب المعماري لحقبة السبعينات وأخرى أعيد تجديدها تبعاً لأسلوب العقد الأخير من القرن العشرين. تركنا توسروك وأكملنا رحلتنا الموريشوسية إلى الفور سيزونز عابرين مدنًا متنوعة الوجوه والأصول الإثنية والدينية هنا حوار الأديان في جزيرة موريشوس قطع أشواطًا كبيرة وترسّخ في نفوس سكان الجزيرة وعقولهم . فتجد الجامع مجاورًا لكنيسة ومعبد بوذي. بدأ الليل يسدل ستارته أثناء دوران الحافلة، وبدأت الهضاب الخضراء وسهول قصب السكر تتحول إلى ظلال ليلية يكشف ضياء القمر أحيانًا أسرارها حين ينفلت من سرب غيوم خريفية، ففي شهر أيار / مايو  يبدأ الخريف في موريشوس.

فندق ومنتجع الفور سيزنز حيث الخيال يتحوّل واقعًا ملموسًا
وصلنا إلى فندق الفور سيزونز Four seaons. كان في استقبالنا مدير الفندق يزن وهو شاب أردني يعيش وزوجته في موريشوس، ورينا مديرة العلاقات الإعلامية. بدأ الجميع التحدث باللغة العربية بسعادة. أفهم أن يكون يزن لديه كل هذا الشوق للتحدث بالعربية، ولكن لم أفهم حماستنا إليها رغم أننا كنا نتحدث طوال الوقت في ما بيننا باللغة العربية، ربما لأن الإنسان يفكر بلغته الأم مهما كان متقنًا للغات، وربما لرغبة دفينة في أن يجد في البلاد التي يزورها شخصًا يتكلّم لغته ليثبت لنفسه أن لغته منتشرة في كل أنحاء الكرة الأرضية.

جلسنا ويزن نتبادل الأحاديث والطرف العربية معتذرين لرينا الموريشوسية وقد أبدت تفهمًا. سلّمنا يزن مفاتيح فيلاتنا وأوصلنا إليها بالباغي. واقترح علينا أن نقوم بجولة مسائية على فيلات المنتجع ومراكزه الترفيهية، لم نتردد في ذلك خصوصًا أن الجولة ستكون على الدرّاجة الهوائية. مغامرة فريدة قمنا بها وتسللنا بين أروقة المنتجع الخافتة الأنوار وعبرنا الجسر الخشبي الذي يطفو فوق البحر كما الأطفال، لم نأبه للتعب بل رحنا نتنافس من يكون أسرع ومن سيتمكن من نزول المنحدر الصغير على الدراجة. يضم المنتجع سبا وكيدز كلوب يستقبل الأطفال من عمر الرابعة إلى الثانية عشرة أما من هو دون هذه السن فعليه أن يكون إما برفقة والدته أو المربية أو جليسة أطفال التي يمكن تعيينها من العاملين في المنتجع.
وأثناء الجولة توقفنا عند حديقة غرست فيها أشجار وعند كل واحدة منها لوح خشبي كتب عليه اسما الزوجين اللذين غرساها، وقال لنا يزن أنه تقليد في الفورسيزنز للعرسان الذين يحتفلون بأعراسهم فيه ويمضون شهر عسلهم، يغرسون شجرة ويكتبون أسماءهم ويضعون تاريخ زواجهم، والكثير منهم بعد مرور سنة يعودون إلى المنتجع ليحتفلوا بعيد زواجهم الأوّل. بعد جولة الدراجة عدنا إلى فيلاتنا وأخذنا قسطًا من الراحة، ثم ذهبنا لتناول العشاء في المطعم الإيطالي وهو أحد المطاعم الموجودة في الفندق. هنا أكلنا ما لذ وطاب من المطبخ الإيطالي إلى درجة التخمة. وخلال العشاء اتفق الجميع على إكمال الأمسية في أحد المقاهي لتدخين الشيشة... أيضًا الشيشة حاضرة بقوة في الفور سيزونز ولها جناح خاص بها!

عند صباح اليوم التالي استيقظت على أصوات نقر على قرميد الفيللا. في البداية ظننت أنه طير نقّار الخشب، ولكن ما أن فتحت الستارة حتى عرفت أنها زخات مطر، غمرتني السعادة خصوصًا أنه مطر الخريف. خرجت  إلى التراس المستلقي على حديقة خاصة جمعت كل ألوان الأرض في لوحة متحرّكة تتماوج ألوانها بحسب قوة المطر وتغيّر وجه السماء التي كانت هي الرسام الممسك بريشة ألوان يصعب على أعظم فناني الكرة الأرضية ابتكارها. لقد كنت ضمن هذه اللوحة أشارك في تحديد معالمها. ولفتني وجود مجموعة من العصافير تقف عند سور الحديقة الموجود تحت سقف التراس كأنها تتلافى زخات المطر وتنتظر انفراج السماء.
قررت تحضير القهوة ففي الفيلا ماكينة لتحضير الإسبريسو، وضعت طبق الحلوى على الطاولة الموجودة على الشرفة ودخلت الغرفة لأحضر فنجان قهوتي ،فإذا بي أفاجأ بالطيور تقترب من الطبق محاولة مشاركتي فطوري، وطارت بسرعة عندما أحست بوجودي فما كان مني إلا أن رميت لها قطعة حلوى حتى تأكل من دون خوف، ولكن يبدو أن طيرًا كبير الحجم قرر الاستيلاء على قطعة الحلوى أثار الخوف في نفوس الطيور الصغيرة التي انسحبت بمجرد إعلانه عن وجوده وراحت ترمقه من بعيد وهو يتلذذ بغنيمته، فما كان مني ودفاعًا عن حقوق الطيور الضعيفة إلا أن جعلته يخاف ليحلق بعيدًا.
قررت أن أخوض متعة ركوب الدرّاجة تحت المطر وتوجهّت إلى بهو الاستقبال حيث كانت رينا في انتظارنا لتعرفنا على المنتجع في وضح النهار. كان وابل المطر يشتد ولكننا لم نأبه له، فأجواء المنتجع الطبيعية تعجز العبارات المكتوبة عن وصفها.

بعد الجولة الصباحية قررت ساندي وزينة الاستفادة من النادي الرياضي والقيام ببعض التمارين، أما أنا فقد قررت ممارسة هوايتي الطفولية وهي ركوب الدراجة الهوائية وسط الطبيعة الغناء إلى درجة أنني كنت  أعيد جولاتي مرارًا وتكرارًا من دون ملل مستمتعة بوجودي وسط حدائق غنّاء. لم أكن وحدي من يستعمل الدرّاجة للتنقل بين أقسام المنتجع وفيلاته فمعظم نزلائه يفعلون ذلك. قررت التجسس على زينة وساندي فوجدتهما تقومان بتمارين أكوا جيم تحت زخات المطر...
لا أنكر أنني حسدتهما.
بعد الظهر كنا على موعد في السبا حيث اختارت كل واحدة منا النوع المفضّل لديها، وتكررت تجربة التدليك في الفور سيزنز ولكن هذه المرّة غرفة التدليك كانت تطفو فوق الماء، فعشت 60 دقيقة من الاسترخاء إلى أقصى الدرجات.
بعد السبا التقينا رينا التي أرادت أن تتأكد أننا نستمتع بوقتنا الحر في حضن طبيعة موريشوس، وأخبرتنا أن في مركز التجميل جناحًا خاصًا بالبنات الصغيرات يشاركن أمهاتهن تجربة العناية بالأظافر وتسريحة الشعر بكلفة زهيدة.
  في بهو الاستقبال، انتظرت زملاء الرحلة الذين قرروا أن يستفيدوا من وجودهم في موريشوس حتى آخر لحظة و أرادوا أن يودعوها بتدخين الشيشة وإتاحة الفرصة لتجرّبها رينا وكان يزن حاضرًا فاقترحت عليه أن يضيفوا إلى قائمة القهوة، القهوة العربية.

راقته الفكرة، ولمَ لا فهناك الكثير من النزلاء العرب وبما أنهم يوفّرون الشيشة فلم لا يوفرون القهوة العربية أيضًا.
اقتربت نهاية الرحلة فعند الساعة التاسعة علينا الرحيل عن موريشوس، كلنا كنا نشعر بغصة الفراق عن جزيرة تحضن كل السحر والشعور بالسلام.
وجدت نفسي متشبثة بالدراجة الهوائية أجول وأصول وسط هذا العالم الغنّاء الجميل آملة أن تتباطأ عقارب الساعة ويطول النهار، ولكن الوقت يتآمر دومًا علينا خصوصًا حين نكون في ذروة السعادة. حلقت من جديد في الفضاء الأفريقي نحو الفضاء العربي، وللمرّة الأولى أغط في نوم عميق في الطائرة، ساعدني في ذلك أن مقاعد قسم  درجة رجال الأعمال في طيران الإمارات تتحوّل إلى سرير مريح.
ولكن هذه المرّة لم أعرف سبب نومي رغم أنني أسافر دائمًا على متن طيران الإمارات.
ربما قررت في لا وعيي أن أحتفظ بالصور الجميلة لموريشوس وسيشل إلى درجة لم أرد أن يشغل بالي صور جديدة.
أردت أن أنقشها في ذاكرتي وأتخلى عن مشاهد البطاقات البريدية الخلابة، وأحتفظ لنفسي بصور تضاهيها جمالاً وروعة، فتكون بطاقتي البريدية حقيقية تحرّكها الألوان والعطور.
إنه السفر الواقعي إلى عالم الأحلام المتحققة.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079