جزر السيشيل.. فردوس أرضي
لا أنكر أنني شعرت ببعض الخوف عندما اتصلت بي ساندي من دبي لتدعوني للمشاركة في رحلة تنظمها شركة طيران الإمارات ضمن برنامج «الإمارات للعطلات» في جزر السيشل وموريشوس. فقد راودتني الكثير من التساؤلات: هل ستكون هذه الجزر كما ظنتها مخيلتي، فكتبت عن جزر فردوسية تعوم وسط المحيط الهندي على مسافة1600 كيلومتر من الساحل الأفريقي الشرقي و1100 كيلومتر عن مدغشقر، مستعينة بالمشاهد الخلابة المنبثقة من الشاشة الإلكترونية أو من البطاقات البريدية!
فأحيانًا يشطح بنا الخيال إلى اللامعقول، ليشكل واقعًا افتراضيًا يصل إلى حد الكمال في تفاصيله، ننقشها في كتاباتنا لتبدو ضربًا من الأساطير. هل ستكون جميلة كالصور التي كنت أراها وأحيانًا أتخيّل نفسي وسطها! كل هذه الأفكار راودتني ولكنني كنت أقول مهما يكن فإن ما نراه على الشاشة ونسمعه فيه بعض الحقيقة.
حزمت حقيبتي الصغيرة وحلّقت إلى دبي لأصل إليها مساءً وأبيت في فندق دبي الدولي Dubai International hotel الموجود في المطار. انتظرت بفارغ الصبر موعد رحلتي إلى سيشل، فحاولت إحراق ساعات الانتظار بالتجوال في المطار الذي تحوّل إلى مدينة عالمية فيها كل سبل الراحة، ورغم ذلك شعرت بأنه لن ينتهي فقررت أخذ قسط من النوم في غرفة الفندق لأنه يجعلنا خارج الزمان والمكان وغالبًا ما ينتصر على الزمن الأرضي. عند الثانية عشرة بعد منتصف الليل أيقظتني رسالة SMS من ساندي تقولي إنها ستلاقيني في صالة الانتظار. شكر خاص لطيران الإمارات وبرنامج رحلة الإمارات للعطلات ومكتب السياحة في سيشل وفندق بانيان تري على حسن الضيافة
اللقاء الأول مطار محاط بالماء
بعدما تعرّفت إلى زميلي الرحلة زينة وفيصل توجّهنا إلى الطائرة لنحلّق حوالى أربع ساعات في الفضاء الكوني. عندما أعلن قبطان الطائرة أننا صرنا في أجواء سيشل بدأت أنظر من النافذة الدائرية إلى سرب الجزر الصغيرة التي بدت لي كأنها مجموعة من حوريات البحر يتبادلن أطراف الحديث أثناء العوم في المياه البلورية. وكم كانت التجربة جميلة عندما حطت الطائرة على مدرج أرض مطار محاط بالماء.
لم يكن هناك نفق يفصلنا عن بوابة الدخول إلى الجزيرة، بل بكل بساطة نزلنا درجات سلم الطائرة وتوجهنا إلى مطار صغير جدًا رغم أنه دولي. هكذا استقبلتنا جزر سيشل بنسائم برية ممتزجة بريح بحرية. تخيّلت نفسي ألعب دورًا في أحد أفلام هوليوود.
فهنا المطار بسيط جدًا تتدلى من سقفه المراوح الكهربائية الخشبية وخلف موظّف الأمن العام سلم من الخشب يصل إلى الطبقة الثانية، وتصدح في أجوائه موسيقى السيغا التقليدية، فانتابني شعور غريب بالغبطة لا أزال أعيش تردداتها إلى اللحظة التي أكتب فيها. تأملت في وجوه القادمين إلى سيشل، فكانت باسمة يبدو عليها التأهب لمواجهة جيش الجمال المحتشد عند بوابات المطار.
أنهينا إجراءات منح إذن الدخول، إذ يمكن السفر إلى سيشل من دون تأشيرة دخول ما عدا بعض الجنسيات مثل العراقية، لذا كان على زينة الحصول عليها قبل السفر. واستقبلنا ماكس ويل وهو، مرشد سياحي يعمل في مكتب السياحة كريول، ثم اصطحبنا إلى صالون الاستقبال حيث كان في انتظارنا زملاؤه، فقدّموا لنا في البداية الفوط المبللة والمعطّرة بماء الزهر التي أحسست إنها مقدّمة لاختراق حواسي الخمس. فبرودة الفوطة حين وضعتها على وجهي كانت أوّل وسيلة تواصل بيني وبين الجزيرة، ثم اخترقت الرائحة الزكية حاسة شمي لأعي أن ما كنت أظنه لم يكن خيالاً، ثم شربت العصير البارد فبردت معه كل تساؤلاتي. بعد الاستقبال خرجنا من المطار وركبنا الحافلة الصغيرة التي بدأت تجول في جزيرة ماهي كبرى جزر السيشل.
الطريق إلى فندق Banyan tree hotel كانت معبدة بالأخضر والأزرق، فعلى جنبات الطريق تتمايل أشجار النخيل مع الهواء وكأنه مشهد لرقصة سيغا لا تنتهي رغم تواتر الليل والنهار. لتفاجئنا الشواطئ اللؤلؤية التي تظهر تارة على يميننا وتارة على يسارنا تنبثق منها الأشجار، فيها النبات الشديد الخضرة يسبح أحيانًا في مياه فيروزية، وأخرى يقف على يابسة متعددة الألوان تتسلل إلى طرق ضيّقة حلزونية تائهة وسط فردوس أرضي.
كانت عبارة« معقول ما نراه» تتردد على أفواهنا جميعًا. لقد أدركت أن ما كنت أراه على البطاقات البريدية ليس سوى تفصيل صغير من روائع هذه الجزر، ربما لأن عدسة الكاميرا تقف عاجزة أحيانًا أمام تحدّي الطبيعة. تنفست الصعداء وقلت في نفسي ها أنا وسط اللوحة الطبيعية التي لا تحدها أبعاد كاميرا و لا زوايا شاشة.
أثار مشهد التلامذة الصغار وهم ينتظرون الباص نهرًا من الأسئلة التي رحت أطرحها على ماكس ويل. هنا في سيشل المدارس حكومية و لا توجد جامعة بل على من يريد أن يكمل دراسته الجامعية السفر إلى خارج، فالسكان يتقنون ثلاث لغات الإنكليزية والفرنسية والكريول هي اللغة الأم، وهي مزيج من الفرنسية والسيشلية. والسبب أن سيشل كانت مستعمرة فرنسية ثم مستعمرة إنكليزية وبعدها تحوّلت إلى دولة شيوعية ثم نالت استقلالها أواخر سبعينات القرن الماضي لتصبح ذات نظام حكم رئاسي جمهوري.
كان ماكس فخورًا بجزيرته يعرف كل تفصيل عنها سواء كان تاريخيًا أو جغرافيًا أو سياسيًا أواجتماعيًا... فأطلقنا عليه موسوعة متنقلة، فما أن نسأله عن شيء حتى يجيبنا بكل التفاصيل. بعد حوالى الساعة وصلنا إلى منتجع وفندق Banyan tree hotel القابع وسط الغابة الاستوائية. استقبلتنا شيلا مسؤولة العلاقات العامة في الفندق، وكما حدث في المطار، «الوجه الضاحك والفوطة الباردة والشراب». فقالت لنا ساندي إنه تقليد ستجدونه أينما تذهبون. أطلق على الفندق بانيان تبعًا لشجرة البانيان النادرة والرمز في الجزيرة والتي أيضًا تستقبلك عند المدخل الرئيسي للفندق.
اصطحبتنا شيلا في جولة للتعرّف إلى الفندق. ركبنا الباغي الذي بدأ يدور بنا وسط أروقة غابة استوائية تقبع بين أشجارها العملاقة فيلاّت الفندق الستون تنتشر عند الواجهة البحرية، وتحتوي كل منها على حوض سباحة خاص وتيراس فضلاً عن توافر كل سبل الراحة.
وهناك الفيلا الرئاسية والفيلات التي تتألف من غرفتي نوم. كانت شيلا فخورة بعملها في هذا الفندق. ولمَ لا ! تخيل نفسك موظفًا في فردوس أرضي حيث كل شيء ترف وأقرب إلى الكمال. بعد جولة التعرّف إلى الفندق وزّعت علينا شيلا مفاتيح فيلاتنا. كانت الفيلا التي مكثت فيها في أعلى القمة وحوض السباحة فيها بدا امتدادًا للمحيط. إنه خداع البصر. جلست أتأمل المحيط الأزرق الذي لا نهاية له، وفي وسط تأملي اخترق السكون تغريد سرب طيور هي «سكان» المكان الذين شعرت بأنهم يخبرون بعضهم عن الغريبة التي تسكن منطقتهم، فحدث حوار موسيقي أقرب إلى السمفونية.
بعدما أخذت قسطًا من الراحة توجهت إلى مطعم ساند Sand ، وهو واحد من ثلاثة مطاعم موجودة في الفندق لتناول الغداء مع مدير الفندق أندريه ديمبلاد. خلال الغداء حدّثنا أندريه عن المواقف الطريفة التي تحصل في الفندق. فهنا يقيم الكثير من زوار الجزيرة حفلات أعراسهم وآخرون يحتفلون بعيد زواجهم. وذكر أندريه أن أحد العرسان الشبان أراد أن يعبّر لعروسه عن حبّه الأبدي فاختار لها خاتمًا صمم على شكل رمز infinity وأراد أن يضعه في كأس الشراب وطلب من المدير أن يقيم نخبًا للعروسين، وفي كل مرة كل يقول نخبكما كانت العروس تشرب من دون أن تنتبه لأن هناك خاتمًا في الكأس إلى أن قال لها أندريه في المرة الرابعة ألم تلاحظي أن هناك شيئًا في كأسك؟ فقالت بلى ما هذا الشيء حشرة! فما كان منه أن قال بصوت عال «لا إنه خاتم من الماس» وصار كل المدعوين يضحكون. كما أخبرنا عن قصة العروس التي لم تأخذ بنصيحته وجلست تتسمر قبل العرس بيوم إلى أن تحوّلت إلى حمراء في فستان أبيض.
انتهى الغداء وانتهت معه بعض القصص الطريفة. لاحظت أن العاملين في الفندق يعرفون النزلاء ويكوّنون علاقات إنسانية جميلة، فتفاجأ أحيانًا أن من يقلك بالباغي إلى الفيلا هو مدير الفندق.
بعد الغداء اصطحبنا ماكس ويل إلى المرفأ، وفي الطريق كانت المشاهد الخلابة تتوالى على أبصارنا. فالأشجار الوارفة والنبات والأزهار منسّقة بشكل يعجز خيال أعظم منسّقي الأزهار في العالم عن ابتكاره. توقفت الحافلة عند طرف الطريق، ترجلنا منها ورحنا نلتقط الصور للجزيرة ودهشتنا تزداد، فكأننا لا نستطيع استيعاب ما حولنا. عدنا وركبنا الحافلة إلى أن وصلنا إلى المرفأ. هنا تجد سكان البلدة مجتمعين لتناول الشراب والثرثرة في المقهى. الكل يعرفون بعضهم هذا ما استنتجته من خلال سلامهم وتداول الأحاديث بينهم. هذه حسنات البلدات حيث الصغيرة تبقى العلاقات الإنسانية متينة.
ركبنا اليخت لنبحر في حضن المحيط الهندي على مقربة من الساحل لنتأمل جزيرة ماهي وباقي جزر السيشل وهي تودع الشمس. أبحر المركب على مقربة من الساحل المحتشد خضرة وجمالا يصعب وصفه، تسكن بين أشجاره الدغلية بيوت رائعة.
اللافت هنا في الجزيرة أنه ممنوع بناء أبنية مرتفعة كما ممنوع البناء في المناطق الجبلية، والسكان لا يعترضون لأنهم يعشقون طبيعة جزيرتهم ولا يريدون تعكير صفوها، بل تشعر بأنهم متماهون معها إلى أقصى حدود، فتجد الهندسة المعمارية للبيوت والفيلات متناغمة مع أشكال الغابة وألوانها لتكون جزءًا منها.
مررنا بالجزر الصغيرة وبعد حوالى الساعة من الإبحار بدأت الشمس تغطس في المحيط فتغيرت ألوان السماء والمياه وتبدلت من الأزرق الفيروزي إلى الرمادي الممزوج بخيوط الغسق الأرجواني، إلى أن تحوّل كل شيء إلى رمادي، ثم ساد سواد الليل الذي بدأت تزركشه النجوم وكأنها ثريا تناثرت أنوارها بعبثية جميلة أطلقت لمخيلتي العنان في تحديد أشكالها. عدنا إلى البر وعادت السيارة تدور بنا إلى أن وصلنا إلى الفندق.
انتهى يومي الأوّل في سيشل وغططت إراديًا في نوم عميق لأنني رغبت في انتهاء الليل حتى أكمل اكتشافي لهذه الجزر.
أيقظني تغريد العصافير وصوت المحيط الذي استغربت أنه كان هادئًا ولكن صوته هدّار. تناولت قهوتي على تيراس الغرفة مستمتعة بلحظة شروق الشمس واستيقاظ مخلوقات الطبيعة... لطالما كنت أحب مراقبة صباح المدن وتسارع خطوات سكانها لبدء يومهم. قرأت برنامج الرحلة، اليوم سنذهب إلى فيكتوريا عاصمة السيشل. أعددت عدتي وكاميرتي وتأكدت أن بطاريتها معبأة.
لم أطلب باغي يقلني إلى بهو الاستقبال بل أردت أن أسير وسط الطبيعة، ولكن الطريف أنني التقيت باغي في طريقي وسألني سائقه هل هذا رقم غرفتك؟ قلت نعم. وعندما وصلت إلى بهو الاستقبال اكتشفت بالصدفة أنه اختلط علي الأمر، فرقم الغرفة كان لساندي التي أخبرتها عن سبب تأخر الباغي ليقلّها، فصرت أضحك مبررة أن الطبيعة هنا دوّختني إلى درجة نسيت فيها في أي فيلا أقيم.
كان ماكس في انتظارنا وركبنا الحافلة متوجّهين إلى فيكتوريا وتحديدًا إلى وسطها التجاري.
في فكتوريا أراد زملاء الرحلة التوجه إلى المصرف لتحويل النقود من الدولار إلى الروبي، خصوصًا أن روبي السيشل تختلف عن روبي جزيرة موريشوس و لا فائدة من الاحتفاظ بها. فرغم أنه يمكن تداول الدولار أثناء التسوّق فإن النقود المرتجعة تكون روبي. لفتت نظري نظافة الشوارع إلى حد أن حاولت أن انظر في الزوايا علّني أجد ورقة رُميت عن طريق الخطأ لكن عبثًا حاولت، فقلت في نفسي «حسنًا، ربما لأن المنطقة سياحية». وكم كانت سعادتي كبيرة عندما عرض علينا ماكس الذهاب إلى السوق الشعبي، فهناك لا بد أن الصورة مختلفة...
ولكن لم يصدق توقّعي. تخيل أنك تدخل إلى سوق الخضار والسمك والملابس و لا تجد نفايات مرمية على الأرض! فالسوق مؤلف من طبقتين أرضية وعليا، الطبقة الأرضية مخصصة للخضار والأسماك والعطارة. أما الطبقة الثانية فللملابس والتذكارت.
يبدو أن السلوك الإنساني للباعة في الأسواق الشعبية هو نفسه في كل مدن العالم رغم اختلاف اللغة، ففي سوق الخضار والسمك تسمع الباعة ينادون على بضائعهم ويتنافسون على تخفيض الأسعار لأنهم يريدون بيعها قبل أن تفسد.
رفعت رأسي وكانت العباءات والشالات تتدلى من الطبقة الثانية بألوان زاهية تدعوني لزيارة متاهتها، فانقدت إليها لا إراديًا لأكتشفها. السوق بطبقتيه مضمخ بعطر البخور وعشبة السيترونللا التي تشتهر بها الجزيرة ويصنع منها الشاي والصابون والشامبو و«جل» الجسم والبخور. في الطبقة الثانية رحت أمارس هواية المساومة على السعر فضولاً مني لأعرف مدى صمود البائعات، وغالبًا ما كنت أفوز، وكذلك زملاء الرحلة فأصبحت المساومة على السعر أسلوبنا في الشراء. حتى ماكس الذي نصحنا بالقيام بها قال إنه لم يتوقع أن نحصل على حسومات كبيرة كالتي حصلنا عليها.
بعد التسوّق وشراء التذكارات ركبنا الحافلة التي صعدت بنا نحو الجبل والمشاهد الخلابة تتكرر، وفي طريقنا توقفنا عند حديقة مسوّرة بسياج من الشباك الحديدي حيث تجد السلاحف العملاق تتبختر ببطء واثقة رغم أنها ثقيلة الخطى وكأنها تتغنج على العابرين الذين ينقادون لفضولهم ويحاولون التقاط الصور معها من خلف السور، فلا تأتي إليك إلا إذا عرضت عليها ورقة عشب لتطعمها، وتفاجئك حين تفتح فاهها الكبير مما يثير الخوف، وكادت إحداهن تعض يدي لو لم تنبهني ساندي.
تابعنا صعودنا إلى أن وصلنا إلى محمية ميشن لودج Mission lodge وهو موقع كان في الماضي مدرسة لأبناء العبيد المحررين. هنا المشهد بانورامي يقطع الأنفاس وتتمنى أن تسكن فيه إلى الأبد، فكل ألوان الطبيعة متمازجة بشكل يصعب على العين استيعابه. بعد المحمية نزلنا إلى الساحل لزيارة منتجع أوفيليا وتناول الغداء فيه. وكما توقّعت ترف الطبيعة متوحد مع ترف الإبداع الإنساني، وكأنما هناك تحد أبدي بينهما نتيجته التعادل.
كان جميلا أن نلتقي في المطعم الذي تناولنا الغداء فيه شيف مطبخ تونسيًا تحدث إلينا بالعربية وكان سعيدًا لأنه ينطق بلغته في جزيرة قرّر العيش والعمل فيها.
عدنا إلى فندق بانيان تري وكلنا حماسة لجلسة التدليك التي عرضت علينا. هنا في السبا قمة الاسترخاء. تستقبلك المدلكات بشاي من السيترونيللا ويعطينك استمارة تملأها للاستعلام عن الوضع الصحي و ما إذا كنت تعاني حساسية، ثم تختار نوع التدليك الذي ترغب فيه، فكل مدلّكة متخصصة بنوع من التدليك. ثم تدعوك للذهاب إلى جناح التدليك الخاص بك وحدك وسط الطبيعة لتنعم بقمة الاسترخاء، فلا تسمع سوى هدير أمواج وزقزقة العصافير وتداعبك النسائم الآتية من المحيط فتتخدر الحواس لحوالي 90 دقيقة وسط فردوس أرضي منفلت من عبثية العالم الحديث.
اليوم الثالث إبحار نحو برالاند
صباح اليوم الثالث انتقلنا بالعبارة البحرية «كات كوكو» إلى جزيرة برالاند التي وصلنا إليها بعد حوالى الساعة من الإبحار. كان في استقبالنا عند المرفأ شاب يعمل في مكتب كريول السياحي لم أعد أذكر اسمه، ولكن ما أذكره جيّدًا أنه قليل الكلام والشرح عكس ماكس، فمثلاً اكتفى بأن يدلنا على مستشفى الجزيرة من دون أن يقدّم التفاصيل. وبعد ربع ساعة وصلنا إلى المتنزّه الوطني، وهو محمية طبيعية لشجرة كوكو دو مير Coco de Mer الممنوع قطف ثمارها لأنها من الشجر النادر وتحتاج إلى خمسين سنة لتنضج. بعد المحمية مررنا بوسط المدينة وكان كل شيء جميلاً إلى درجة اني اعتدت على المشاهد فلم أعد أعلّق عليها بالكلام، بل أكتفي بتنفس الصعداء وكأن بي أريد أن أخزنها عبر استنشاق الهواء النقي المتخم بالأوكسيجين في ركن الذاكرة الموجود في دماغي. يلفتك في جزر سيشل اهتمام سكانها بالطبيعة والمحافظة عليها والنظافة أيضًا وأيضًا، ففي وسط المدينة التقيت العديد من الباعة الذين يكنسون الأرض ويهتمون بنظافة الشارع كما لو أنه بيتهم.
لم أستطع وأنا أنظر إلى هؤلاء الباعة إلا أن أقارن بمشهد في أحد أسواقنا العربية لا سيما في بلدي لبنان حيث تجد صاحب الدكان يقف أمام دكانه ويرمي كوب القهوة البلاستيكي ليس أمام دكانه طبعًا، بل وسط الشارع، لأنه لا يريد أن يشوّه واجهة متجره!
من وسط المدينة انطلقنا إلى منتجع لوميريا Lemuria حيث استقبلنا مدير المنتجع. وعندما عرف أنني لبنانية قال لي إن هناك شابًا لبنانيًا يعمل في إدارة المنتجع وهو لبق جدًا سنتعرف إليه أثناء تناول الغداء. يتألف المنتجع من فيلات عدة تختلف أحجامها ولكنها جميعها توفر كل سبل الترف، فضلاً عن أن المنتجع يضم حضانة للأطفال وملعبًا للغولف وهو ممتد على مساحة شاسعة. بعد جولة المنتجع التقينا فرح الشاب اللبناني على الغداء، وبدا سعيدًا في عمله في هذا المنتجع.
بعد الغداء وتناول الشاي كان لدينا مغامرة السباحة عند شاطي جون جورجيت حيث أمضينا لحظات لا تنسى من المغامرات البحرية في المحيط الهندي. تخيل أنك تسبح مع السمك في مياه فيروزية تذوب في لؤلؤية الشاطئ. لم نكترث لعمودية شمس خط الاستواء، فتصرفنا كما الأطفال غير آبهين بحرارة الشمس.
انتهى يومنا على الشاطئ وعدنا أدراجنا إلى ماهي وكنا منهكين، ورغم ذلك قررنا أن نستفيد حتى آخر لحظة من وجودنا في سيشل وتناولنا العشاء في مطعم Sand في فندق بنايان تري. جمعينا ترسّخ لدينا الاعتقاد نفسه بأن سيشل فردوس أرضي، ومن تطأ قدماه أرضه فلن يرغب في العودة إلى العالم الآخر الساكن خلف المحيط.
صباح اليوم الأخير تناولت الفطور محاولة أن أرصد بعض التفاصيل التي انفلتت من ذاكرتي وقد شاركني الفطور في البداية سرب من العصافير الصغيرة التي اعتادت أن تقفز بين طاولات المطعم لتأكل فتات الخبز الذي يرميه لها رواده، ففي النهاية نحن ضيوف المكان والعصافير سكانه.
تركت سيشل محلقة في الفضاء نحو جزيرة موريشوس بعدما طبعت قدر استطاعتي صورًا لجزر غمرت ذاكرتي بألوان الطبيعة.
معلومات مفيدة
جزر السيشل عددها 115 جزيرة
ماهي كبرى جزر السيشل
العاصمة: فيكتوريا
اللغة الرسمية: الإنكليزية والفرنسية والكريول
العملة: روبي ويمكن التداول بالدولار واليورو
الدولار الواحد يساوي 11,6 روبي سيشل
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024