تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

أسطورة 'الساحة'

عندما تطأ قدماك هذا المكان وتتأملّ عيناك هندسته وتسمع أذناك سيرته العابقة برائحة التاريخ والتراث والجذور، تنفرج أساريرك ويغدو الزمان فرساً يحملك الى الوراء حيث تلتقي الأصالة بالحنين والعراقة بالمودّة والبساطة بالجمال... تنبثق من حكاية «الساحة» كلّ معاني المحبة والإلفة والوفاء لتدلّ على أنّ هذا المكان الإستثنائي في تاريخه وجعرافيته ليس سوى سرمن أسرار الزمان الذي ولّى دون رجعة...


حكاية «الساحة- قرية لبنان التراثية» كما يسردها المهندس المعماري جمال مكّي:

القرية تغزو المدينة للمرّة الأولى
«مشروع «الساحة» وُجد تيمناً بساحة الضيعة» لأنّ «الساحة» هي في الأساس  أهم عنصر من عناصر القرية اللبنانية لكونها المكان الذي يجتمع فيه كلّ أهالي القرية بصغارهم وكبارهم ليتشاركوا أفراحهم وأحزانهم وهمومهم ونشاطاتهم... وتتميّز الساحات القروية ببيوتها المتلاصقة وحوانيتها وقناطرها الكثيرة، فكانت «الساحة» بمثابة الصورة التي عبّر عنها الأديب اللبناني الراحل أنيس فريحة في كتابه «القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال». ففي المدينة احتلّت العمارات الشاهقة أمكنة الشجر والمواقف أمكنة الساحات والمولات بدلاً من الحوانيت. لذا فكّرنا في كلّ إنسان يحب أن يتمتع بجماليات القرية وخصائصها وعملنا على أن نقدّم له مناخ القرية وجوّها رائحتها ومأكولاتها وعماراتها وجميع تفاصيلها لتعود به إلى جذوره ولكي تشبع حنينه الذي كبُر جرّاء سكنه في قلب العاصمة، مركز الصخب والضوضاء والزحمة.

من هنا، أخذنا شخصية أبو أحمد- كرمز لكلّ عشّاق القرى- الذي قرّر أن يوضّب مؤونته وينزح إلى المدينة حاملاً تراثه ليغزو به المدينة تحت عنوان «لأوّل مرّة القرية تغزو المدينة». وهنا نقصد الغزو بمعناه الإيجابي أي الغزو بحب وأخوّة وحنان.

هكذا انبثقت إذاً القرية من حنين أبي أحمد - فلاح القرية- الذي قصد المدينة ليزرع فيها مرابع طفولة لا تُنسى: العين ودرب العين، الكروم ودرب الكرم، المصطبة والسطحية المسوّرة بتنكات عتيقة صدئة فيها الحبق والقرنفل والفلّ والسهرات الحميمة البريئة تحت العريشة. فجاءت قريته متحفاً حيّاً للبيئة التقليدية بعمرانها وأنماط الحياة فيها والأدوات القديمة المستعملة في كافة الأنشطة اليومية على اختلافها».

أبعاد مشروع «الساحة- قرية لبنان السياحية»

يُعدّد المهندس جمال مكّي أبعاد المشروع الآتي:

١- البعد البيئي: استخدمنا في بناء الساحة أحجار العمارات والبيوت القديمة التي جُرفت ورُميت في البحر من أجل تشييد عمارات حديثة في مناطق متعدّدة من لبنان، وفي الواقع كان وجود كلّ هذه الكمية من الأحجار الكبيرة والضخمة في بحر لبنان سيُشكّل مشكلة بيئية خطيرة لأنّ هذا النوع من الحجارة لا يُمكن أن يتفّتت في البحر. من هنا عملنا على الإستفادة من جودة هذه الحجارة التراثية وفي الوقت نفسه أنقذنا البحر من جريمة كانت تُرتكب بحقه دون أي مراقبة أو اهتمام.
٢- البعد الإنساني: يعود مشروع الساحة إلى جمعية «المبرّات الإسلامية» وعلى رأسها السيّد محمد حسين فضل الله، ممّا يعني أنّه يعكس الخلفية الثقافية للحركة الإسلامية المعاصرة المنفتحة على الحداثة والعصر. كما أنّ الأرباح تعود إلى أيتام المبرّات.
٣- البعد الإجتماعي: نجحت الساحة في أن تجمع كلّ الفئات الإجتماعية بكلّ هذا الموزاييك العربي والإجنبي.
٤- البعد الثقافي: يُعدّ هذا المشروع بمثابة رسالة تدعو أولاً إلى إحياء التراث المعماري الأصيل، كما يُقدّم نموذجاً حيّاً للحياة القروية من خلال المتحف، بالإضافة إلى إقامة سهرات تستضيف أدباء وشعراء ومثقفين لبنانيين وعرباً من خلال بيت الشعر العربي.
٥- البعد الإقتصادي: ساهم هذا المشروع الذي أقيم في منطقة غير مصنفّة سياحية في تنشيط كلّ المكان الذي يُحيط به بكلّ ما يتضمنّه من مشاريع، كما أدّى إلى تشغيل أيدٍ عاملة كثيرة. وهذه الأبعاد كلّها تضافرت لتُشكّل أخيراً البعد السياحي.
٦- البعد السياحي: يُعتبر المشروع مساهمة فعّالة في قطاع الخدمات السياحية بأنواعها المتعددة، لما يتضمنه من خصائص ونشاطات تجتذب إليها كلّ فئات المجتمع محليّاً وإقليمياً ودوليا»ً.

رحلة «الساحة» من بيروت إلى العالم
عن «الساحة» وكيفية زحفها السريع نحو عدد من العواصم العربية والغربية،أخبرنا مكي أنّه «بعد النجاح الكبير الذي حقّقه مطعم الساحة في لبنان والطلب الشديد من اللبنانيين المغتربين والسيّاح العرب والأجانب الذين كانوا يأتون خلال مواسم الصيف  والأعياد إلى لبنان ويقصدون الساحة ليسرقوا من الزمن لحظات تُرجعهم إلى عراقة الزمن الجميل والتراث الأصيل، فكّرنا في أن نسمح للفلاّح اللبناني أبو أحمد بأن يُكمل نزحه صوب باقي العواصم العربية ليزرع جمال قريته في كلّ مكان. هكذا، بدأنا الرحلة الأولى في قطر إلى أن وصلنا أخيراً إلى لندن».

«الساحة» في قطر وزيارة مفاجئة لأمير البلاد»
في السنوات الأخيرة «شهدت دولة قطر تطوراً كبيراً ونموّاً لافتاً نتيجة التحوّل الذي حصل فيها على مستوى النفط والغاز، اذ زادت فيها الاستثمارات وازدهرت فيها الكثير من القطاعات الاقتصادية والعمرانية والسياحية... هذا الأمر جعلنا نفكّر في افتتاح أوّل فروع «الساحة» خارج لبنان في عاصمتها. وبعد أقلّ من أسبوع على الإفتتاح شرّفنا أمير البلاد الشيخ حمد وزوجته الشيخة موزة وعائلتهما بزيارة المطعم وعبّروا لنا عن إعجابهم بالمشروع خصوصاً أن الأمير من محبّي الأجواء التراثية. وهذه الزيارة زادت حجم مسؤوليتنا ولكن سرعان ما أصبح المطعم مقصداً لكبار الشخصيات ورؤساء الدول، علماً أنّ المنطقة التي بُني فيها بناء المطعم غير مصّنفة سياحية إلا أنّ الساحة أضفى عليها طابعاً سياحياً نوعاً ما».

«من قطر باتجاه السودان»
ويُضيف المهندس: «قبل حوالي ثلاث سنوات نصحنا صديق سوداني في قطر بأن نفتتح فرعاً آخر لمطعمنا في السودان، خصوصاً أنّها تشهد نهضة عمرانية كبيرة. فدرسنا من جهتنا المسألة من كلّ جوانبها ورأينا أنّ هناك استثمارات جديدة تشجّع على تنفيذ الفكرة، كما أنّه في المقابل هناك حاجة أساسية إلى إنشاء مشاريع ذات بعد سياحي في بلد مثل السودان ينقصه الكثير من  المطاعم المهمة ليلتقي فيها السيّاح وضيوف البلد. لهذه الإعتبارات اتخذنا قرار انشاء فرع جديد للساحة في الخرطوم وسط دهشة البعض ورفض البعض الآخر. ومنذ افتتاح المطعم في السودان عام ٢٠٠٧ أصبح من أهم الأمكنة على مستوى البلد ككلّ، والحمدلله كان من أنجح مشاريعنا وصار مقصداً لكلّ الرؤساء والسياسيين والدبلوماسيين الذين يزورون السودان.

«إلى العالمية... الساحة تستقرّ في لندن»

بعد النجاح الأوّل والثاني «اتسعت طموحاتنا وصرنا نفكّر في العالمية ووجدنا أنّه علينا إيصال قرية لبنان التراثية إلى العالمية خصوصاً في ظلّ الطلب الكبير عليها من كل الدول. وكان لا بد من إيجاد تسويق للساحة في بلد غني بالتنوّع والثقافات الموجودة على أرضه، ولأننا متجهون صوب العالم بأسلوب Franchise أو «بيع امتياز»، قرّرنا أن تكون لندن مقرّ «الساحة» الأوّل في العالم الخارجي لأنّها العاصمة الأكثر قدرة على تسويق «الساحة» عالمياً عبر  الإستفادة من التنوّع الكبير الموجود فيها، إذ تضمّ ١٩٠ جنسية على أرضها. ولقد اخترنا أن يكون عمران كلّ فرع من فروع الساحة خارج لبنان منسجماً والنسيج الإجتماعي للبلد الموجودة فيه احتراماً لواجهة المنطقة العمرانية. وفي لندن التزمنا بالنسيج العمراني للمدينة بحيث بدت واجهة الساحة مشابهة لكلّ واجهات المباني في الحيّ اللندني القديم «ميوز». أمّا التراث اللبناني فهو موجود في الداخل. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العمران التراثي العربي الإسلامي القديم يتميز بهندسته الداخلية، لذا فإنّ الإلتزام بالنسيج العمراني لأي بلد من ناحية هندسة المطعم الخارجية لا يُؤثّر في مناخه التراثي اللبناني الأصيل الذي تجده في الداخل. ويمكن تلخيص فكرة المطعم العمرانية في أنّها عبارة عن حيّ محاط بحارتين متواجهتين ضمن ساحة مشتركة تجمع الحارتين تجد فيها أسواق وحوانيت ومصلّى... وكان افتتاح الساحة في لندن مهيباً إذ حضره الكثير من الشخصيات الإنكليزية واللبنانية، كما صودف وجود وزير السياحة اللبناني إيلي ماروني. وكذلك قصده المنشد البريطاني المسلم سامي يوسف وأخبرنا أنّه بحث عن المطعم كثيراً قبل أن يصل إليه لأنّه من عشّاق الأبنية التراثية، وانبهر حقيقة بهذا الغنى المعماري للمفردات الهندسية العربية والإسلامية. وأحيا فيه حفلة أنشد خلالها أجمل أغنياته الإسلامية المعروفة وعبّر لنا عن رغبته في أن يكون «الساحة- لندن» عبارة عن نقطة تزاوج الفنّ والمعمار لأنّه يطمح إلى أن يُقيم معظم نشاطاته الفنية في هذا المكان بالذات حيث يُمكن للأغنيات الإسلامية أن تلتقي والفن المعماري التراثي الإسلامي.
ولا أخفي أنّ انطلاقة الساحة في لندن كانت من أقوى انطلاقاتنا، إذ جذب المطعم في أيام افتتاحه الأولى عدداً كبيراً من الزبائن الذين قصدوه من مختلف أحياء لندن، علماً أنّ ٧٥٪ من الحضور هم بريطانيو الهويّة والأصل. وهذا أفضل ردّ من العالم العربي الإسلامي للتأكيد على أنّ شعوبنا هي شعوب حياة ومحبّة وفن وجمال، خصوصاً أنّ الأحداث الأخيرة المتواترة في العالم أدّت إلى تصوير المهاجرين المسلمين والعرب على أنّهم لا يندمجون في المجتمعات الغربية. من هنا كان هناك رسالة واضحة ومباشرة من خلال افتتاح الساحة في لندن لتكريس فكرة جديدة ومغايرة للأفكار المعلّبة عنّا كعرب ومسلمين، فأظهرنا أننا قادرون على صناعة وتصدير كلّ معاني الفن والجمال ومستعدّين للإنفتاح على الثقافات الإنسانية والمعمارية الأخرى».من خصائص قرية أبو أحمد التراثية 

- مطعم الضيعة: تلمس فيه حسن الضيافة والخدمة وتتذوّق أشهى المأكولات على أنواعها الشرقية والغربية.
- بيت الشعر العربي: منتدى ثقافي يُشكّل ملتقى للشعراء والأدباء، وهو خامس بيت شعر في الوطن العربي لإقامة الأمسيات الشعرية.
- المتحف التراثي: متحف الساحة يُشكّل معلماً أثرياً يسرد حكاية القرية اللبنانية بأسلوب عصري يستخدم مجسمات متحركة تعكس صورة لماضي القرية اللبنانية وأدواتها ومهن أهلها. إنّه بمثابة نموذج حيّ للقرية اللبنانية الأصيلة. وفي المتحف نجد أعتق الأثريات من أسلة وفخاريات وزجاجيات وعملات وغيرها.
- الخان- فندق الساحة: في الفندق الفريد في تصميمه هناك ٦١ غرفة ترسم لوحات عمرانية تراثية ونُفّذت وفق أسلوب وعمارة مستوحاة من مختلف الحضارات العالمية (الطراز اللبناني، الطراز الهندي، الطراز الياباني، الطراز المغربي، الطراز الإنكليزي، الطراز الباكستاني...). كما يتميّز الفندق بموقعه، فهو يقع على مسافة دقيقتين من مطار رفيق الحريري الدولي الذي يُعتبر الشريان الحيوي لمدينة بيروت، وعلى مسافة دقائق معدودات من وسط بيروت.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079