بيت الدين
بيت الدين... بلدة لبنانية جبلية في قضاء الشوف، شهرها القصر الذي فيها وأدخلها التاريخ وأثبتها فيه إذ كان مقراً للأمراء الشهابيين الذين حكموا الجبل اللبناني في القرن التاسع عشر، وأشهرهم على الإطلاق الأمير بشير الشهابي الذي تروى عنه الأساطير فتخلّده في أذهان اللبنانيين، أحبوه أم كرهوه. صعدنا، شريكة الحياة وابنتنا وأنا، في الطريق الافعوانية الجبلية، تضيق حيناً وتتسع أحياناً، وأنا أمتّع النظر بجمال هذه الطبيعة الخضراء ودياناً وجبالاً. وعندما بلغت بلدة دير القمر، وهي من بيت الدين رمية سهمٍ، بان لي القصر الجميل من بعيد رائعاً. انه بحقٍ نموذجٌ لجمال العمارة اللبنانية في القرن التاسع عشر، ومن يرَه هكذا منبسطاً من بعيد يقدّره حق قدره ولا يستكثر السنوات التي استغرقها بناؤه حتى أتى هكذا، مثالاً يحتذى به في العمارة التاريخية والسياحية.
قبل أن نصل الى القصر تذكرت حكاية الأمير بشير الثاني وشحّ المياه في بيت الدين، والمجنون الذي تفتقت قريحته عن سبيل لجرّ المياه من «نبع الصفا» في قناة يشقها الناس من طريق عمل كل رجل يومين مجاناً، فحدثت بها ابنتي الصغيرة التي أبدت اهتماماً بهذا المجنون.
مرّت على القصر حروب وأهوال. فقد شهد حرباً أهلية في هذه المنطقة عام ١٨٤٠، ثم أخرى عام ١٨٦٠. وتوالى عليه العثمانيون والفرنسيون حتى أمسى مقراً صيفياً لرئيس الجمهورية اللبنانية ابتداءً من عام ١٩٤٣... لكن هذا التقليد انقطع في الحرب الأهلية الدامية التي ألمّت بلبنان، إلا أن الاعتناء بالقصر لم يتوقف يوماً، لذا يقف الآن بعدُ كما كان، بمتاحفه وحدائقه الغناء، أشد المعالم الأثرية اللبنانية استقطاباً للزوار.
وصلنا الى القصر فدخلناه من بوّابة عظيمة لا أدري كم من رجل يقوم بفتحها واغلاقها كل يوم. عبرت رواقاً معقوداً أفضى بي الى ميدانٍ واسعٍ جداً هو المكان الذي تقام فيه المهرجانات الفنية الدولية في صيف كل عام. وكانت هذه الساحة في ما خلا مرمحاً للخيالة يتمرنون ويتبارزون، وميداناً للاحتفالات الأميرية الحاشدة التي تسبق قيام الأمير الى حربٍ ما.
عن يمين الميدان جناحٌ تحوّل متحفاً لإحدى الشخصيات البارزة في لبنان، أما الميدان الشمالي فإلى يمينه جناحٌ من طبقتين هو «المضافة». في الطابق الأرضي غرفٌ معقودة السقف كانت اسطبلات للخيول، فيما الطابق العلوي صالات فسيحة كانت لاستضافة ضيوف الأمير. أمام هذه الغرف رواق مسقوف يطلّ على الميدان. تحوّل الطابق العلوي بأسره متحفاً يعرض فخاريات وأوانيَ يعود عهدها الى عصري البرونز والحديد، وزجاجيات رومانية وحلى ذهبية ونواويس رصاصية ومزججات إسلامية وأسلحة قديمة ونماذج من ثياب الأمراء في أيام الإقطاع.
إلى الغرب من الميدان درجٌ عظيمٌ بسلّمين يفضيان الى الدار الوسطى ذات البوابة العظيمة المزينة بالفسيفساء الدمشقية على طريقة فسيفساء قصر الحمراء في الأندلس.
حاولنا الدخول الى أقسام الأجنحة في هذه الدار فتعذر ذلك إذ تقوم ورشة الترميم على قدمٍ وساق... إلا غرفةٍ أدخلنا اليها خفيرٌ هناك، جدرانها مزينة بأجمل النقوش الرخامية التي ينساب عليها ماءٌ نازلٌ من علٍ، من السقف، وبعض جدرانها مغطى بخشبٍ كأنه «دِرَفُ» خزانات، لكن لا وجود لخزانات أبداً. كنت سمعت عن الحمامات القديمة في هذا القصر، فسألت الخفير المتساهل إياه عن موقعها. أرشدنا اليها وهو العالم بخفايا القصر ودهاليزه قائلاً: «إلى جانب دار الحريم» وكأننا نعرف أين دار الحريم هذه. تساءلت ابنتي: ولماذا ندخل الحمامات يا ترى؟ ولكنها مرحت هناك مرحاً كبيراً وما أرادت الخروج ضاحكةً.
هذه الحمامات مصممة على الطراز الروماني من حيث تعاقب الغرف الثلاث: الباردة فالفاترة فالحارة. والباردة للجلوس وخلع الثياب والتندّر والاستماع الى الشعر والغناء، والفاترة كيما يكون الانتقال الى الحرارة العالية فجائية فتكون غرفةً انتقاليةً، والحارة حيث الاستحمام والتعرّق وما إليهما من فنون التنظيف، يسخن جوّها وماؤها بالهواء الحار الذي يجري من تحت أرضيتها وفي داخل جدرانها.
ثمة غرفٌ صغيرة متداخلة الواحدة داخل الأخرى تترابط برواق، دخلناها غرفةً غرفةً، في كل منها حوضٌ خفيضٌ ينزل إليه بسلمٍ صغيرٍ، تستحم فيه المرأة من حاشية الحريم. لهونا في هذه الغرف قليلاً والتقطنا الصور التذكارية في هذه الأحواض لاهين كأننا على أهبة الإستحمام من غير ماء.
الجميل في غرف الحمام الثلاث زينتها ونقوش السقف والأرضية فيها والبحرة التي تتوسط كلاً منها والصدر حيث «قنطرة الماء» الدافق. تقف هنا فيترجم العقل كل ما قرأت في كتب التاريخ عن الناس وما يفعلون في هذه الحمامات صوراً وخيالاً، فيتراءى لك الأمير هنا، وحوله الوزراء والرجال يتبادلون أحاديث السياسة والشعر وغير ذلك.
لم نتوقف عند هذا الحد، إذ أصابنا نهم الى المعرفة وأصاب ابنتنا الضحك واللهو فأخذا منها كل مأخذ، وأرادت أن نرى المزيد. انتقلنا الى قبوٍ كان داراً للخيل وأمسى الآن متحفاً لمنمنمات الفسيفساء التي يعود عهدها الى القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد. جداريات كبيرةٌ جداً صنعتها يدُ فنّانٍ.
من هذا القبو، خرجنا أخيراً الى حديقةٍ صغيرة أدركت فوراً أنها كانت مخصصة للحريم إذ خفيضة هي يحدها جدارٌ عالٍ عن يمينها وواد سحيق عن يسارها. جلسنا على العشب المقلّم جيداً نتضاحك ونتبادل المعلومات عن هذا المكان... وكلها من كتيّب إرشاد أصدرته وزارة السياحة في لبنان تزودته قبل صعودنا الى هنا.
كان في الكتيب كل شيء إلا... أين نأكل؟ فبعد «وجبة» الثقافة والتاريخ والآثار واللهو، أو أكثر، أصابنا الجوع والساعة تقارب الرابعة عصراً.
في بيت الدين مطعمان أو أكثر، أبرزها ذاك الذي في قصر الأمير أمين المطل على قصر بيت الدين... غير أننا عفنا القصور في نهاية هذا النهار وبحثنا عن مطعم صغيرٍ اهتدينا إليه، فكان جميلاً لذيذ الطعام والشراب عائلي الجو. وهكذا، ختمنا يوماً ساحت فيه عقولنا عائدة الى عصر زاهٍ من عصور الأمراء.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024