تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

لبنان

في كل مرة أزور فيها بلداً من بلدان المعمورة ينتابني الشوق الوقّاد للعودة إلى بيروت، فلا أحتاج إلى التحديق إلى الشاشة الثابتة أمامي كي أعدّ المسافات وأقرأ الخريطة وألوانها الإلكترونية، بل يكفي أن أنظر من كوّة الطائرة إلى الفضاء الأزرق  والغيم الأبيض تخترقه جبال خضراء حتى أعرف أني وصلت إلى لبنان، وأجدني أردد قصيدة جبران خليل حبران «لكم لبنانكم ولي لبناني».

وأنا سأعرّفك إلى لبناني. في بيروت عاصمة عالمية للكتاب هذا العام تأمل شارع الحمرا المرصوف بالحجارة فتشعر بأن الأبنية التي تقف عند أقدامها البوتيكات والمقاهي والمكتبات وتنتشر على أرصفته أكشاك بيع الصحف والمجلات، تعيش نوستالجيا بيروت الستينات حين كان يقصدها الفنانون والمثقفون والسياسيون الذي جاؤوا من كل أصقاع العالم على اختلاف انتماءاتهم الليبرالية منها والراديكيالية يجلسون في مقاهي الرصيف المنتشرة على جنبات الشارع يرتشفون لذة الحرية في مدينة تتنفسها منذ مئات السنين.
وها هو اليوم عاد هذا الشارع إلى صورته الأولى يقصده كبار السن والشباب الذين عرفوه من ذاكرة آبائهم وأمهاتهم. فتراه يضج بالحركة بمختلف ألوانها وسنيها، وتجد في المقاهي وأمام واجهات البوتيكات طلاب الجامعات الموجودة في أطرافه والشوارع الموازية له كشارع بليس الذي توجد فيه الجامعة الأميركية، ومنطقة قريطم حيث توجد الجامعة الأميركية اللبنانية وشارع القنطار حيث جامعة الهايكازيان، فهولاء يتخلون عن السيارات لأن المسافة بين الحمراء وكل هذه الشوارع هي خطوات مشياً على الأقدام.


أما إذا أردت أن تتعرّف إلى بيروت الحديثة فما عليك إلا أن تستقل سيارة أجرة كلفتها ٢٠٠٠ ليرة حتى تصل إلى شارع فردان وتعيش مغامرة أسلوب الحياة العصرية بمقاهيها وفنادقها وأبنيتها الشاهقة وتتسوق من البوتيكات التي تعرض لأهم دور الأزياء العالمية الباهظة الثمن والمعقولة الثمن في آن واحد، مثل مانغو وزارا... تترك فردان وتستقل سيارة أجرة أخرى بعد أن تساوم على السعر لتذهب إلى وسط المدينة المدينة، فتتحول المسافة بين فردان ووسط بيروت إلى رحلة فريدة من نوعها لا تجدها في أي مدينة في العالم، إذ تجد نفسك مستمعًا أو مشاركًا  في حوار مع ركّاب سيارة الأجرة يتحدثون في السياسة وكأنك وسط برنامج توك شو سياسي أو اجتماعي يتسلم دفته السائق الكبير السن الذي لم يجز في الإعلام أو السياسة أو الاجتماع.
تترجل من السيارة لتفاجأ بضوضاء الحركة والأبنية الأنيقة والمشاة من كل الأعمار والأجناس ففي ساحة النجمة حيث مبنى البرلمان تتحلق حولها مقاهي الرصيف وتتصاعد في فضائها ضحكات الأطفال الذين يطلقون لهم أهلهم، الجالسين في المقاهي، العنان للعب، فالساحة آمنة لا خوف عليهم.
تغيب الشمس عن بيروت، لتشرق شمس أخرى تستمد نورها من أضواء الكهرباء وبألوانها المختلفة. فإما أن تمضي سهرتك في أحد مقاهي الوسط  تبدأها بالتسوق من البوتيكات الأنيقة المنتشرة والتي تفتح حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً أو تقرر التوجه إلى شارع الجميزة الذي يبعد عن الوسط التجاري مسافة خطوات لتحار في أي ناد ليلي تريد أن تسهر.

 فهناك من يقدم عرضاً موسيقياً حياً من نوع الجاز وثان الروك وآخر موسيقى هادئة إذا أردت أن تستمتع بحديث مع الأصدقاء،أو تصادف شلّة شباب وشابات يعزفون في الهواء الطلق فتنضم إليهم من دون كلفة.

في بيروت إذا أردت أن تصلّي فأبواب الجوامع مفتوحة وأصوات المآذن مرفوعة. وإذا أردت أن تستمتع بمشهد غروب الشمس فما عليك إلا أن تقصد كورنيش البحر حيث تنتشر الفنادق بنجومها المختلفة، فتظن أنك في «كان» الفرنسية ترى الجبل يغسل قدميه بالبحر المتوسط. في الكورنيش تلتقي الرياضيين الذي قرروا المحافظة على لياقتهم والناس البسطاء يجلسون على المقاعد يتناولون الترمس أو الذرة المشوية يشتروها من الباعة المتجوّلين الذين يفاجئونك أحياناً بإتقانهم لغات عدة، أو مجموعة شبان قرروا أن يتمتعوا بمشهد البحر ونسائمه على وقع موسيقى تصدح من سياراتهم.
و بيروت قلب لبنان تتوزع منه أوردة الحياة تقودك شمالاً فتصعد إلى الجبل حيث تقع جعيتا المغارة التي تنبض في رحم جبل لبنان. بعد جعيتا تعود إلى الساحل فتمر  بمدينة جبيل أقدم مدينة في التاريخ والتي منها انطلق الحرف بفضل ملكها قدموس. في جبيل متحف الشمع والقلعة البحرية والبرية تجول فيهما، ثم  تتناول طبق سمك مشوي في أحد مطاعم المنتشرة على عند منطقة مرفأ الصيادين، وإذا قررت أن تحمل تذكارت فسوقها العتيق المرصوف بالحجارة كفيل أن يأخذك إلى تراث لبنان بكل وجوهه.
من جبيل تنطلق شمالاً إلى طرابلس عاصمة لبنان الثانية لتأكل طبق حلوى حلاوة الجبن وتستمتع بالأماكن الأثرية التي تعود إلى العصر المملوكي. تقصد خان الصابون فيخدّرك عطر الزهر التي تصنع منها الصابون، أو تنتقي عباءة تقليدية في خان الخياطين أو تزور الجامع الأموي، وتستحم في أحد الحمامات التقليدية. فتعيش لحظات تاريخية في مدينة تنبض بالتاريخ الإسلامي العريق.
ومن طرابلس تصعد إلى إهدن القريبة من الأرز وبشري قرية جبران فتزور متحف جبران وتتعرف إلى عالم هذا الأديب. وتتنشق رائحة الأرز الشامخ رمز لبنان الذي صنع منه أجدادنا الفنيقيون مراكبهم الشراعية ليبحروا إلى عالم  ما وراء البحار وينقلوا الحرف وحب الحياة ويعلّموا الشعوب التجارة ويبنوا المدن.
في إهدن طبق الكبة النية أو الكبة المشوية تجربة فريدة تتلذذ بها معدتك. وتصعد إلى غابة الأرز لتدحرجك نحو الهرمل فترميك في أحضان بعلبك مدينة الشمس تقف بأبهة واعتزاز. هنا غنى ورقص وعزف عظماء الفن في العالم على مر عقود خلال مهرجانات بعلبك الدولية.
ومن بعلبك وأثناء عودتك إلى بيروت تمر بزحلة وتستريح في أحد المقاهي المنتشرة على نهر البردوني حيث يمكنك أن تأكل سمك الترويت المشوي. وتقف في شتورة لتشتري الجبن واللبن واللبنة البلدية. تكمل مشوارك صعوداً فتمر بمناطق جبل لبنان صوفر وعاليه... فتتناول العشاء في جو فريد ساحر تفوح في فضائه رائحة شجر الصنوبر والسنديان.
والوصول إلى جنوب لبنان غير مكلف ففي إمكانك أن تستقل إحدى الحافلات الكبيرة أو سيارة أجرة. تأخذك إلى صيدا حيث توجد القلعة البحرية رمز مقاومة الاسكندر وتسير بك السيارة نحو صور المدينة التي أبحرت منها أليسار إلى تونس وبنت مدينة قرطاج التونسية، ويقال إنها مدينة زينون الإيلي الفيلسوف الذي خرج بنظرية نقض فيها الحركة وقال باللاتناهي.
يدهمك الوقت وتعود إلى بيروت قلب لبنان وتمضي ليلتك فيها والصور الملونة الخلابة تملأ ذاكرتك. لتستفيق عند الصباح على صوت فيروز ووديع الصافي. وكما قال جبران: «إن لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطناً».

جعيتا إلى عجائب الدنيا السبع الجديدة
فازت مغارة جعيتا بالتصفية الأولى لمسابقة اختيار عجائب الدنيا السبع الجديدة التي تٌجرى عبر الإنترنت.
لدعم فوز هذا المعلم الطبيعي الاستثنائي يمكن التصويت عبر الموقع www.n7w.com 

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080