تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

رودوس

كثيراً ما شغلتني حضارة الإغريق بأساطيرها التي أخذتني إلى عالم فوضوي يقارب الواقع بثنائياته المتناقضة: الخير والشر، القبح والجمال ، الحب والكراهية، الخيانة والوفاء... فتبدو رموزه وشخوصه تعيش في حاضرنا  متّخذة وجوهًا وأشكالاً مختلفة.
واليونان البلاد التي انبثقت منها الديموقراطية منذ آلاف السنين، لم يخفت وهج مدنها وجزرها المتشبثة بتاريخها، فيكاد كل حجر فيها ينطق بأسطورة أفلتت من قيود الزمان والمكان لتعبث بمخيّلة كل من يزور موطنها.

قررت السفر إلى جزيرة  رودوس فحزمت حقيبتي من دون أن أحشوها بأفكار قرأتها، بل أردت أن أعيد ترتيب أوراق ذاكرتي بحسب سطور الزمن الحاضر الذي حلّق  بي في فضاء البحر الأبيض المتوسط لأحطّ في  مطار رودوس وأقتحم التاريخ في عقر داره.

وفي الأسطورة، أن أبولون أُغرم برودوس الجميلة، وتزوّجا وأنجبا أبناءً كثرًا. أسّس أبناؤهم الثلاثة الصغار مدن الجزيرة الثلاث الأولى وهي: لاليسوس وليندوس وكاميروس. وعندما وضع التاريخ قبضته على الأسطورة تحوّلت الجزيرة إلى مستعمرة فتناوب على حكمها الفرس والرومان والبيزنطيون والأتراك، مما جعلها جزيرة تختصر سحر الحضارات التي اندثرت في مساحات الزمن بكل وجوهها.

ورغم رهبة الأسطورة، بدا لي التاريخ المتناثر في رودوس رحلة في عوالم لا يمكن كشف أسرار سحرها إلا عن طريق الولوج في أروقتها. فقررت الاستفادة من كل لحظة أمضيها في هذه الجزيرة التي تسبح عند جنوب شرق بحر إيجه وعلى مسافة 17 كيلومترًا من السواحل التركية، وبين اليونان وجزيرة قبرص .

ركبت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يقلّني إلى هضبة سان ستيفانو، فقال لي بإنكليزية متعثّرة: «تقصدين هضبة سميث». ظننت أنه لم يفهم طلبي ولكنه بعد المجهود الذي بذله فهمت أنه عندما احتلّها البريطانيون في القرن التاسع عشر عام 1802 اتخذت اسم الأميرال الذي كان قائد الجيش آنذاك.

وصلت إلى قمة الهضبة حيث لا تزال بعض أطلال مدينة رودوس القديمة متمثّلة بثلاثة أعمدة لمعبد  شُيّد من أجل أبولون. فيما أعاد الإيطاليون تشييد  مسرح يسع 800 شخص، ومدرج قديم يعود إلى العصر الهلليني. وقفت وسط بقايا مسرح الأساطير التي شعرت بأنها  تحاول جاهدة أن تهمس إليّ قصص أبطالها لترميني في عالمها، لكنني لم أدخل لعبتها، وتركت الهضبة متّجهة نحو متحف الآثار.

يعود تاريخ متحف الآثار إلى عام 1440 وكان مستشفى عسكريًا أمر ببنائه جان بونبارت دو لاستيك حيث كان يعالج فيه المرضى وجرحى الحروب يأتون من كل أنحاء أوروبا. يعلو بوّابة المتحف الرئيسية مجسمان يحملان شعارًا كتب باللاتينية، ويتميزّ بقناطره السبع الموجودة في الطبقة الأرضية. ويضم المتحف أهم الآثار التي تعكس تاريخ الجزيرة على مر العصور.

تركت المتحف متوجّهة نحو قصر الأسياد. وفي الطريق لاحظت أن  الهندسة المعمارية للجزيرة يغلب عليها الطابع العسكري، فأينما تجوّلت في أزقتها أجد الأسوار المرتفعة  والأبواب الضخمة والممرات الضيّقة. وصلت إلى قصر الأسياد الذي بناه هليون دو فيلنوف في الموقع نفسه الذي يقوم فيه معبد هليوس رمز الشمس. هدّم القصر عام 1854 بسبب انفجار مخزن البارود. وعندما احتل الإيطاليون رودوس أعادوا بناء القصر ليكون مركز الإقامة الصيفي للملك فيتوريو إيمانيولي الثالث. انتهى ترميم القصر عام 1939 تحت إشراف ماريو دو فيتشي.

يمتد القصر حول باحة داخلية بطول 50 مترًا وعرض 40 مترًا. يقع مدخله الرئيسي في الجهة الجنوبية، وهو محاط ببرجين جاءا على شكل هلال. يضم جناح القصر الشمالي مجموعة مجسّمات تعود لأباطرة رومان.

بعد زيارة القصر تنبّهت إلى أن الشمس بدأت بالغروب، فكان المشهد مهيبًا: الأرجوان يغرق في الأزرق وكأنهما يتعانقان قبل أن يسدل الليل ستارته. قررت العودة إلى الفندق ولم يكن الأمر صعبًا، إذ كان يكفي أن أسأل أحد المارة عن الطريق المؤدية إليه.  

جعلني اليوم الأوّل من وجودي في رودوس أتوقّع ما ينتظرني خلال أيامي القليلة التي سأمضيها في هذه الجزيرة. فالحضارة الإغريقية المتجسّدة في أطلال ومعالم منتشرة في كل بقعة فيها تعكس إصرار الإغريق القدماء على إبهار كل من يأتي إليها ولو بعد آلاف السنين.

في صباح اليوم الثاني أيقظتني خيوط شمس رودوس وهي تخترق النافذة بكل قواها، وكأنها جيش أخيل الإغريقي يقتحم طروادة الآسيوية. استسلمت لاجتياح الشمس اليونانية، وتناولت قهوتي وقررت أن أكمل مخططي السياحي في اكتشاف ألغاز اليونان بكل غموضها، خصوصًا عند الصباح.

ذكّرتني أزقة المدينة التي تشبه المتاهات، بالأحياء الشعبية في حواضرنا العربية لاسيّما الواقعة على الحوض الأبيض المتوسط، فالبيوت فيها متلاصقة تعكس العلاقة الحميمة التي تربط بين ساكنيها الذين يحملون ملامح متوسّطية لا تقتصر على الشكل، بل تشمل أسلوب العيش أيضاً. فهنا الجارات يتبادلن الثرثرة الصباحية عبر النوافذ الصغيرة وكأن الليل شحن ذاكرتهن بقصص أردن أن يفرغن منها قبل الانشغال بأمورهن المنزلية، أما الباعة فاكتفوا بإلقاء التحية الصباحية على بعضهم وهم يفتحون متاجرهم الصغيرة المندسّة بين البيوت.

وصلت إلى شارع الفرسان أجمل شوارع العصر الوسيط وهو مرصوف بالحجارة وينحدر من ساحة قصر الأسياد وصولا إلى كنيسة سانت ماري الواقعة عند طرف ساحة المتحف. وتعود معالم هذا الشارع إلى الحقبة المعمارية الثانية لعصر الفرسان.

تركت شارع الفرسان متوجهة نحو المدينة الجديدة، وهي عبارة عن مدينة تعود إلى العصر الوسيط محاطة بأحياء عصرية جاءت على نمط سكان بحر إيجه. ويعتبر مقر الولاية، وهو قصر قديم كان مركز الحاكم أثناء الاحتلال الإيطالي، من المعالم الجميلة، جاءت هندسته المعمارية مزيج من الفن القوطي المنمّق بروح المغرب العربي.

ومن المدينة توجهت إلى مرفأ ماندراكي العتيق. هنا عند مدخله يقال إنه كان يقف مارد رودوس واحدة من عجائب الدنيا السبع الذي لم يعد موجودًا ليحمي بقدميه الذين يلجأون إليه بحسب الأسطورة. فهنا توقّف الزمن القديم تاركًا مهمة استقبال الزائرين الآتين عبر السفن للمرفا الحديث. عند مدخل المرفأ وعلى كل جرف يقف عمودان يرمزان إلى ميتولوجيا رودوس، يمتد دونهما مقعد يستريح عليه الزائرون ليتمتعوا بمشهد تلاعب الأمواج بالسفن واليخوت وهي تستريح عند المرسى. ومن المرفأ تتراءى منحوتة الشراع في مواجهة البحر.

بما أن التسوّق يشكّل متعة السفر قادني سحر رودوس  إلى وسط المدينة  حيث تتجاور المحلات التي تعرض لأشهر دور الأزياء العالمية، والمحلات التي تعرض التذكارات التقليدية والأشغال اليدوية كالمطرّزات التي تحيكها النساء في شكل جميل يثير الرغبة في اقتنائها رغم أن التسوّق في مدن اليونان صار مكلفاً نظراً إلى أنه بعد انضمام اليونان إلى الاتحاد الأوروبي صارت عملتها اليورو بدلاً من الدراخما.

بعد التسوّق تناولت الطعام في أحد المطاعم المنتشرة على طول شاطئ رودوس، لفتني احتواء قائمة الطعام المطبخ الغربي والشرقي على حد سواء بالإضافة إلى المطبخ اليوناني. قررت أن أتناول السلطة اليونانية رغم أنها تقدّم في معظم المطاعم في الشرق الأوسط ولكن تناولها في بلدها المنشأ يجعل مذاقها مختلفًا.

في اليوم الأخير قررت التوجه إلى قرية ثانيوس التي تقع على الساحل الشرقي للجزيرة، وتبعد حوالى 16 كيلومترًا عن مركز المدينة.  تتميز القرية بشاطئها الذي تتوافر فيه جميع أنواع النشاطات الترفيهية البحرية،فضلاً عن وجود الملاهي الليلية التي لا تختفي أنوارها إلا عند بزوغ الشمس.  ذكّرتني ثانيوس  بقرى لبنان الساحلية  إذ تحيط بها بساتين التين والليمون والبرتقال والزيتون والعنب. 

انتهت إجازتي في رودوس ولكن أساطير هذه الجزيرة لم تنتهِ فهي تشبه زبد البحر الذي رغم تكسّره على البحر لا يمل في نحت روايات لعوالم يتسلّم الزمن زمام كتابة سطورها فيتداول السلطة على مخيلة كل من يزورها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077