قبرص
في كل مرّة أزور جزيرة قبرص أشعر بأني أتعرف إليها للمرّة الأولى فكأنما سحر هذه الجزيرة العائمة عند أقصى البحر الأبيض المتوسط يستحضر أسرار أساطيرها من عمق البحر في كل مرة يبهت سحرها. إنها جزيرة أفروديت التي اختارتها مسرحاً تروي في كواليسه قصص العشق والجمال الذي يشبه الزبد في ذوبانه.
عندما وصلت إلى قبرص بحراً في الباخرة شعرت بأساطير اليونان القديمة تحلّق في أجواء ميناء ليماسول، و نسائم الروابي القريبة تنقل قصص أفروديت الغرامية.
استقبلي السائق بحفاوة سكان البحر الأبيض المتوسّط وتوجهنا إلى الفندق، وفي الطريق بين ليماسول والفندق عرجنا على بلدة بافوس حيث أخذني مشهد الشاطئ الرائع بصخوره الكلسية البيضاء تغزو البحر الأزرق المخضوضر. هنا يستلقي هواة الشمس ليحصلوا على سمرة نحاسية يطفئون حرارتها في المياه اللازوردية، ويتظلّلون بصخرة بيترا تو روميو الضخمة التي تفترض الأسطورة أن أفروديت ظهرت عليها للمرة الأولى.
وصلنا إلى الفندق الذي هو أقرب إلى نزل والواقع في قرية ساحلية بيوتها من حجر وأزقتها مرصوفة، ذكّرتني بمدينة جبيل في لبنان. وبينما كنا نخرج حقائبنا من السيارة، إذ بعجوز يقترب مني. سألني بابتسامة عريضة: من أين أنت قادمة؟ فأجبته: من لبنان. ثم علّق قائلاً: آه حيث بيبلوس ( جبيل)! وكأنه قرأ أفكاري. ثم حكى لي بسرعة قصة التقاء أفروديت بأدونيس...
عند الغروب وبعد الاسترخاء وارتشاف القهوة على الطريقة القبرصية، قررت القيام بجولة على القدمين. وكالكثير من بلدات قبرص، لاحظت تمازج التاريخ الأسطوري وحاضر الحداثة الأوروبية. بيوت قديمة وفنادق عصرية فخمة تجاور أطلالاً يونانية ورومانية تحتفظ برونقها التاريخي فكأنه مشهد لتصالح دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل.
واللافت في قبرص أنه في إمكان السائح الاستغناء عن هذه الفنادق العصرية واستئجار بيت قديم تتوافر فيه كل وسائل الراحة، مما يتيح له فرصة العيش ولو لفترة قصيرة في عقر دار الماضي الجميل الذي يفخر به القبرصيون.
وأثناء التجوال لاحظت معارض الزهور منتشرة في كل مكان، مما أثار فضولي فسألت إحدى بائعات الزهور عن السبب، فقالت لي إنه مهرجان الزهور يقام كل سنة خلال أشهر أيار/مايو، وحزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو.
وبعد ساعات من التجوال شعرت بالجوع خصوصاً أن رائحة الجبن الحلّوم المشوي الذي تشتهر به قبرص يفوح من المطاعم المنتشرة على طول الساحل. ولحسن الحظ أن المطاعم في قبرص تغلق في ساعة متقدمة من الليل. فقررت تناول العشاء في أحدها، وما هي إلا لحظات حتى أتى النادل ويبدو أنه شعر بأنني أتضوّر جوعاً فاقترح علي تناول مازة ( المقبلات)على الطريقة القبرصية. سألته عما تتضمّنه فقال لي إنها تتألف من خمسة عشر طبقاً صغيراً منها الموساكا والطحينة والأفيليا وغيرها من الأطباق القبرصية، فعلّقت قائلة: يعني كالمازة التي نقدّمها في لبنان! فابتسم النادل قائلاً:" أظن أن مطبخ سكان حوض البحر الأبيض المتوسط متشابه إلى حد كبير ولكن الأسماء هي التي تختلف".
عدت إلى النزل والحمدلله كانت عودتي سيراً على الأقدام إذ شعرت بالتخمة فساعدني المشي في هضم ما التهمته.
في صباح اليوم التالي توجهت بالسيارة صعوداً لأجول على مجموعة من القرى الجبلية. إنها حقاً المكان الأمثل للاسترخاء. ريف استفاق على مشهد زهور الأوركيديا ومراع خضراء مفعمة بالحيوية وبراعم زهر اللوز تتمايل مع نسائم الربيع، وفراشات تنهل من أريج الزهور البرية. ومنحدرات تغطيها كروم العنب، وسهول يكسوها شجر الزيتون والبرتقال، وقرى قديمة افترشت أزقتها العتيقة ببساط أحمر نسجته الطبيعة بشقائق النعمان. فتركت لنفسي العنان لترتشف ببطء إيقاع الطبيعة. في وسط هذا المشهد صار صدى صوت فيروز يتردد في ذهني منشداً:
أعطني الناي وغني فالغنا سر الوجود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
هل اتخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور
وتتبعت السواقي وتسلّقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور ....
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلّت كثريات الذهب
هل فرشت العشب ليلاً
وتلحّفت الفضا زاهداً في ما سيأتي ناسياً ما قد مضى...
شعرت في هذه اللحظات بنشوة الحياة وكأنني رميت رماد همومي في البحر، لأستمتع بإبداع الخالق في خلقه، الذي نسهو عنه في ضجيج حياتنا المعاصرة.
اليوم الثالث في قبرص كان للتسوق. تفتح المتاجر أبوابها من الساعة الثامنة والربع صباحاً حتى الثامنة والنصف مساءً أيام الاثنين والثلاثاء والخميس،أما يوم الأربعاء فتفتح حتى الساعة الثانية بعد الظهر، والجمعة حتى التاسعة والنصف مساءً ويوم السبت حتى الساعة الخامسة بعد الظهر. تشتهر قبرص بالأشغال اليدوية من الدانتيل والتطريز والمجوهرات المزيّفة والمنحوتات الخشبية وأدوات المطبخ. منذ عام 1975 وضعت الدولة القبرصية خطة لتشجيع الحرفيين بهدف الحفاظ على الحرف التراثية. وفي نيقوسيا مركز كبير ومتاجر تعرض فيها الأشغال اليدوية على أنواعها.
يقال "الطبع يغلب التطبّع" وطبيعة قبرص وسمت سكّانها بالألفة. فأينما تجولت في الأسواق الشعبية كنت أجد الباعة يتجاذبون أطراف الحديث. توقفت عند بسطة سيّدة مسنة فُرشت بأجمل أعمال الحياكة والتطريز وأثناء تأملي فيها قالت لي العجوز باللغة الإنكليزية وبلكنة قبرصية إنها شغتلها بأناملها الرقيقة، فبدت لي التجاعيد التي حفرها الزمن في جبينها ويديها خطوطاً رسمتها أفروديت الجميلة. لم أستطع أن أرفض عرضها حين اختارت لي شال كروشيه شغلته بيديها اللتين استراحتا على كتفي، وكأن الماضي يسلّم الحاضر أسراره. وقالت لي بنبرة رقيقة:" هذا الشال يليق بك".
وبعد التسوّق كان لا بد لي من الاسترخاء في أحد حمّامات العلاج البحري ذات المواصفات العالمية.
رغم صغر حجم قبرص لكن الحديث عنها قد يحتاج إلى صفحات بعدد صفحات تاريخها الذي يعود إلى أكثر من عشرة آلاف سنة.
معلومات عامة
-يجدر بالآتين إلى قبرص جواً العبور عبر المطارين الشرعيين التابعين للدولة القبرصية الرسمية وهما مطار لارنكا الدولي ومطار بافوس . أما الوافدون إليها بحراً فيكون عبورهم عبر الموانئ البحرية وهي: لارناكا وليماسول وبافوس.
- انضمت قبرص إلى الإتحاد الأوروبي لذا فإن تأشيرة الدخول إليها تخوّل صاحب التأشيرة الدخول إلى جميع بلدان الاتحاد الأوروبي.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024