تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

بعلبك مدينة الشمس

عند أقدام سفوح سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية تسكن مدينة بعلبك في شمال سهل البقاع وشرق نهر الليطاني، وتبعد عن العاصمة بيروت حوالي ٩٠ كيلومترًا فهي كانت ولا تزال الامتداد الطبيعي الداخلي لشقيقاتها المدن الفينيقية الساحلية. شكّل موقعها الجغرافي مقصدًا للقوافل القديمة التي كانت تعبر بين بلاد ما بين النهرين ومصر  وساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

تعتبر بعلبك من أهم المدن السياحية في الشرق الأوسط نظرًا إلى وجود القلعة ذات البناء الشاهق، وحجر الحلبة الذي يمثل أكبر حجر منحوت في العالم والذي يقع على جانب مدخل مدينة بعلبك من جهة الشرق حيث كان الرومان يقتلعون الحجارة وينحتونها ويسوقونها إلى المكان المناسب.التجوال في أطلال مدينة بعلبك هو تجوال في قلب تاريخ لبنان القديم جدًا بكل صفحاته وأسياده وأمجاده. استعمرها الرومان عام 47 قبل الميلاد في عهد يوليوس قيصر الذي أمر بأن يُبنى فيها أكبر الهياكل الرومانية التي تعكس ثروة الإمبراطورية الرومانية وقوّتها. وقد استمر بناء المدينة مئتي عام وأشرف عليه أباطرة رومان عدة وقد أطلقوا عليها مدينة الشمس.الوصول إلى هياكل بعلبك يكون عبر أروقة رومانية ضخمة وساحتين تحيط بهما أعمدة مهيبة تبدو وكأنها شخوص عملاقة تنظر إلى الشمس منذ آلاف السنين، فترسل وراء الأفق الأرجواني أسطر التاريخ المبعثر بين جدران مدينة لم تتهالك حجارتها رغم الزمن الذي لا ينفك ينحت فيها أساطير أمم مرّت بها.في بعلبك ثلاثة معابد دمر زلزل الكثير من معالمها حين ضربها في القرن السادس الميلادي. ويعتبر معبد جوبيتر أضخم المعابد الرومانية ولم يتبق من أعمدته الكورينثية الأربعة والخمسين سوى ستة.معبد جوبيتر

الولوج إلى جوبيتر يكون عبر مدخل مهيب يشرف على سلم كبير ويتألف من 12 عمودًا، أعادت رفع عشرة منها بعثة الآثار الألمانية، ويحيطها برجان تعلوهما جبهية مثلثة الأضلاع مزخرفة. تقودك بوابة يعلوها قوس خشبي وكذلك بوابتان جانبيتان مطيّنتان  إلى الرواق الداخلي للبرجين الذي يمتاز بالزخرفات التي أضيفت إليه حديثًا. ثم تقودك أبواب المعابد الثلاثة إلى فناء سداسي الأضلع فريد من نوعه بهندسته في العالم الروماني، ويعكس هذا الفناء احترام  تقاليد الشعب السامي في العصر الروماني. ويقود إلى باحة بطول 135 مترًا وعرض 113 مترًا، وهي الحرم الذي كانت تمارس فيه الطقوس الدينية، ولا تزال تحافظ على نمطها السامي، فالشعوب السامية من أوائل الذين سكنوا مدينة بعلبك بحسب المؤرخين، فضلاً عن وجود مذبحين جاءا على شكل برجين كانت تقدم فيهما الأضاحي، وحوضي ماء  للاغتسال كانا يستعملهما كهنة المعبد.ومن الباحة الكبيرة ينبثق سلّم بثلاثة أجنحة يسمح بالدخول إلى حرم فيه مجسم كبير لجوبيتر. ويضم هذا المعبد ستة أعمدة يصل ارتفاع كل  منها إلى 20 مترًا تقف على رأسها تيجان مزخرفة.معبد باخوس

يعود تاريخ معبد باخوس إلى القرن الثاني الميلادي. وقد استطاع مقاومة الزمن وحافظ على الكثير من ملامحه الأولى. يتميز ببوابته العملاقة التي يبلغ ارتفاعها 13 مترًا وعرضها ستة أمتار، وتقع على منصة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار. يضم المعبد أعمدة متصلة ببعضها بتيجان مزخرفة. وفي جهة المعبد الجنوبية الشرقية برج تحوّل في عصر المماليك في القرن الخامس عشر إلى قلعة يقيم فيها الوالي.

معبد فينوس

يسمّى أيضًا المعبد الدائري نظرًا إلى أنه يحتوي على مقصورة دائرية، ويقع جنوب شرق الأكروبول، يعود تاريخ تشييده إلى القرن الثالث وهو آخر المعابد التي بناها الرومان. يتميز بهيكله المستطيل والذي يضم ثمانية أعمدة.أما معبد ميركوري فلم يتبق منه سوى الدرج المؤدي إليه على هضبة الشيخ عبد الله، على مقربة من المعبد الأساسي.خلال العهد الأموي شيّد في بعلبك العديد من المعالم الإسلامية منها مسجد ما زالت آثاره موجودة أمام مدخل الأكروبوليس، وعند المدخل الجنوبي للقلعة يقع مقام السيّدة خولة بنت الإمام الحسين. كما يستطيع زائر بعلبك التوقف عند أطلال جامع أم عيّاد الذي يقال إنه بني على أنقاض كنيسة ماريوحنا التي بناها البيزنطيون عندما احتلوا المدينة.يحضن التاريخ المتناثر في بعلبك مهرجان بعلبك الدولي الذي يقام في معبدي جوبيتر وباخوس، ليقف عند أقدامه أشهر الفنانين العالميين لإحياء حفلاتهم.عنجر

وعلى مقربة من بعلبك تقع عنجر التي يعود تاريخ إنشائها إلى العهد الأموي والتي اكتشفت آثارها عام 1940 من القرن الماضي.بُنيت مدينة عنجر على مخطط مستطيل الشكل طوله 370 متراً وعرضه 310 أمتار. وقد دُعمت الأسوار من الجهة الخارجية بستة وثلاثين  برجاً نصف دائري كما دُعمت زواياها بأربعة أبراج دائرية. وتبلغ سماكة هذه الأسوار نحو مترين، فيما يربو ارتفاعها على سبعة أمتار. وهي مشيدة بالحجر الكلسي بشكل جعلت فيه واجهاتها الخارجية المطلة على السهل والداخلية المطلة على المدينة، من الحجر المقصوب فيما مُلئ الفراغ بينهما بمزيج من الحجر الغشيم والحصى وطين الكلس. وتنتشر هنا وهناك على واجهة السور الخارجية خربشات يصل عددها إلى ستين خربشة نقشها بعض الزائرين أو سكان المدينة في العصر الأموي، ومن بينها واحدة تعود إلى عام 741 للميلاد.أقيم السور بشكل تواجه فيه واجهاته الأربع الجهات الأربع الرئيسية، وفُتح في وسط كل منها باب يحيط به برجان نصفيان. وتم شق طريقين رئيسيين يصل أحدهما الباب الشمالي بالباب الجنوبي، ويصل الآخر الباب الشرقي بالباب الغربي، بحيث يلتقيان في وسط المدينة ويقطعانها إلى أربعة أحياء، بموجب النمط العمراني الذي كان يُعتمد عند إنشاء الثُكن العسكرية الرومانية، والذي شاع استعماله عند بناء المدن الحديثة منذ أيام الرومان.وتبقى بعلبك وعنجر مدينتين ترويان تاريخ لبنان القديم بصمت مهيب تخترقه همسات الحاضر بكل خفر.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079