عالية داوود: 'الرصاص' أفضل وسائل بوح...
«كل شيء هنا موقت وهناك أيضا. وحتى عندما نتجاوز حواجز الزمان وليس المكان فقط، سيبدو موقتاً، لذلك فإن اللوحات التي أشكلها بألواني يبدو الحكم عليها بالجودة الفنية من عدمها، نسبياً للغاية».
هي أفكار تعبر بها المهندسة المعمارية والفنانة العراقية الأصل المقيمة في لندن عالية داوود عن الفلسفة الأساسية التي تشغلها، ليس على الصعيد الفني فحسب، بل كهاجس ومنظومة فلسفية لا يفارقانها.
القلم الرصاص لهذا الغرض هو الوسيلة المثلى للفنان التشكيلي المقيم في الخارج من أجل البوح والتعبير، حسب عالية، وليس الألوان الزيتية الأكثر ثباتاً، مضيفة: «القلم الرصاص هو الوحيد القابل للمحو بسهولة، لذلك فهو الأكثر قدرة على التعبير عن الحقيقة التي تسكننا جميعاً، وهي أننا موقتو الوجود، وخصوصاً الفنان المغترب الذي يبقى عابر سبيل مثالياً، رغم أن كل شيء في عالمنا بالأساس موقت».
في دبي، التقت «لها» عالية التي غادرت بغداد وهي في الخامسة من عمرها واستقرت في لندن بشكل دائم، ولم يقدر لها أن تعود لوطنها ولو لزيارات قصيرة، حتى بعد أن انهت الدراسة الجامعية وحصلت على إجازة الهندسة المعمارية، وأعقبت ذلك برسالة ماجستير في الفن التشكيلي من جامعة الأمير تشارلز للرسم، كما ضمت المجموعة الملكية البريطانية واحدة من أعمالها لتصبح عالية واحدة من فنانين عرب قلائل تضم أعمالهم الى المجموعة الملكية البريطانية وهي تزال في ربيعها الثالث والعشرين.
ظلت مسكونة بطيف الوطن، تعبّر عنه بألوانها سواء بقصد أو دون قصد من خلال زيارتها لمدن عربية وجدت فيها ظلالاً لبغداد في مخيلتها التشكيلية منها بيروت وعمان ودمشق ورام الله ودبي.
قدرة عالية على التحدث باللغة العربية تبدو محدودة بطبيعة الحال بحكم نشأتها اللندنية، لكن هذا الأمر لا يعكس حقيقة اعتزازها الشديد بعروبتها ووطنها، وهو ما تترجمه بقولها: «نظرتي الى ذاتي تختلف عن الإطار الذي يصنفني فيه الآخرون، فهناك في لندن يعتبرونني فنانة عربية الأصل تحمل جواز سفر بريطانياً، وهنا، وفي سائر البلدان العربية يعتبرونني بريطانية من اصل عربي، ففي الجهتين يتم تصنيفي في خانة استثنائية، لكن وهذا ما أعتبره الأهم، أنا أعتز بكوني عراقية عربية مقيمة في لندن».
ربما هذه الرؤية الفلسفية الملتبسة هي ما جعلت فكرة الموقت شديدة الجوهرية في أعمال عالية التي أقامت معرضها الشخصي الأول في دبي، في أحد الغاليريهات الكائنة في المنطقة الصناعية المعروفة بـ»القوز». هي واحة جديدة تضج بالمعارض الفنية كفنانين من كل أصقاع الأرض.
الموقت من جديد
تعود فكرة «الموقت» لتطل في أعمال عالية التي اختارت أن ترصد في بعض أعمالها اشكالاً لمبان غير مكتملة الإنجاز في دبي، على نحو يشبه المجموعات الصغيرة، بحيث تمثل كل مجموعة تشكيلية رصداً متبايناً لذات الحيز المعماري ولكن في أوقات مختلفة، ما يعني ان المختلف سيتعلق بأثر الوقت الذي يوضحه الظلال.
وهنا تحدد عالية مسميات مختلفة للأعمال المتباينة مرتكنة إلى عنصر الوقت، فتلك اللوحة عنوانها «6 صباحاً» وأخرى «9 صباحاً» وهكذا.
تدافع عالية أيضاً عن مشروعية «الموقت»، مضيفة: «الكثيرون يخافون أن يكونوا جزءاً من فكرة الموقت، ويعتبرونه نقيضاً للاستقرار الذي ينشدونه، رغم أنها الفكرة الأكثر ديمومة في الحقيقة.
وأنا هنا أنتصر لفكرة الموقت، وأؤكد من خلال التشكيل إيجابية الموقت، وقدرته على حمل السمات الجمالية ببهجة وفرح، لذلك ركزت على أن تكون الكثير من الظلال في تلك الأعمال هي ظلال لأشعة الشمس في الأوقات الصباحية، بكل ما تحمله من تفاؤل».
فكرة الهوية لا تنفصل إذاً عن عالية، رغم اختلاف بلد الميلاد والنشأة عن البلاد التي ترعرعت واستقرت فيها، ما بين النشأة البغدادية والحياة اللندية، ومن خلال النظرة إلى النصف الممتلئ من الكوب ترى نفسها محظوظة بالجمع بين محاسن حضارتين، عربية ذات نسق قيمي مميز، وغربية أتاحت لها حظوظاً أعلى في التحصيل الأكاديمي، فضلاً عن الاحتكاك بثقافات متعددة: «تجاوزت كثيراً فكرة التشتت بين الشرق والغرب، لا أتذكر ملامح ديرتي في بغداد، لكنني تشربت الكثير من تفاصيل الحياة هناك مما رواه لي جدي، وأنتهز أي فرصة لتحملني إلى البلدان العربية المختلفة».
في فلسطين، وتحديداً رام الله اقتربت عالية أكثر من روح الشرق، مشيرة إلى أنها غادرت لندن من أجل متابعة رواق فني يتم التجهيز له في حي بير زيت: «في تلك الرحلة تشبعت واقتربت أكثر من فكرة «الموقت» التي تتملكني، وخصوصاً عندما زرت مخيم قلنديا للاجئين، والتقيت رجلاً ولد وعاش في المخيّم حتى بلغ عمره 36 عاماً، تم توفير فرصة له من اجل الاستقرار خارج المخيم لكنه رفض، وشعر بأن مغادرته هذا المكان الذي يفترض أنه موقت، تعني خروجه عن إيقاع حياته، مما يعني أن الموقت قد أصبح حقيقة دائمة له.
وهو في فلسفته يرى بأن كسر واقعه الموقت يعني إقراراً للاحتلال، لذلك فهو يستقوي بالموقت».
عالية التي شاركت في دورة سابقة في المهرجان الفني «آرت دبي»، ترى تلك الإمارة (دبي) محطة شديدة الأهمية في حياتها الفنية حالياً، مضيفة: «لدبي مذاق خاص، فهي محور التقاء لفنانين تشكيليين من مختلف أنحاء العالم، وتوفر فرصاً هائلة لترويج تلك الأعمال.
والأهم هو في فلسفة تلك الإمارة التي استبدلت بفعل الطفرة الاقتصادية والمعمارية فكرة الترحال البدوي، بفكرة أخرى جعلتها واحدة من اكثر مدن الشرق الأوسط استقبالاً لمجموعات بشرية من مختلف قارات العالم، بمعنى أنها ظلت مخلصة لفكرة الترحال الأصيلة، ولكن من خلال وافدين وغرباء هذه المرة تُحدث بينهم تآلفاً حميمياً استثنائياً».
زيارة عالية لعمان ودمشق وبيروت ايضاً من الزيارات التي تركت أثراً كبيراً في وجدانها ومخيلتها، وجعلتها تقترب أكثر من الأجواء الشرقية التي تفتقدها بلندن، لتكتشف مزيداً من سحر الشرق، وتتعرف على هواجس أقرانها من الفنانات الشابات في الوطن العربي، لكنها رغم ذلك لا تؤمن بوجود فواصل حقيقية بين الفنانة العربية في وطنها ونظيرتها، مضيفة: «هناك تحديات تواجه الفنانة التشكيلية في الوطن العربي لاعتبارات اجتماعية، لكن بكل تأكيد فإن المعطيات والمقومات الجمالية للأعمال التي رأيتها هنا لا تقل عن نظيرتها لفنانات عربيات مقيمات في لندن، ويبقى الاختلاف فقط في مدى توفر فرص حقيقية لعرض تلك الأعمال».
قيم الاغتراب
ترى الفنانة العراقية المقيمة في لندن عالية داوود أن قيم الاغتراب ومشاعر افتقاد الوطن بمثابة بوابة كبرى فرضت أمامها اللجوء إلى الفرشاة والتشكيل من اجل بوح البحث عن ظلال وطن لا تتذكر ملامحه إلا من خلال حكايات الجدين.
تقول: «رغم خروجي من بغداد في الخامسة من عمري، لم أستطع الانسلاخ من عبق وطني. هم يعتبرونني لندنية من اصل عراقي، لكنني أرى نفسي عراقية الهوى والوطن، وعربية مقيمة في لندن».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024