المسرح السعودي انطلاقة جديدة في عالم الترفيه
خلال الأشهر القليلة الماضية، شهد المجتمع السعودي انطلاقة المسرح “أبي الفنون” بحلّة جديدة لم يكن قد اعتاد عليها، في مفاجأة للجمهور الذي افتقد هذه الفاعليات لسنوات طويلة على أرض المملكة، لتكون جزءاً من الحراك الذي تتبنّاه المملكة لإدارة عجلة التطور والانفتاح، من خلال صقل مواهب الشباب ودعم طاقاتهم بالخبرة والتمرّس لتعود على الوطن بثراء الوعي والثقافة والترفيه في الوقت نفسه. في هذا التحقيق، ترصد “لها” إنتاجات شبابية مميزة في عالم التمثيل والإخراج المسرحي، وتلتقط صورة بانورامية لنهضة الفن المسرحي الحديث في المملكة.
“مسرح السعودية” فكرة مستنسخة عن “مسرح مصر” إنما بنكهة محلية
وفي رصد لأهم الفعاليات المسرحية المُقامة حالياً في المملكة، نسلط الضوء على “مسرح السعودية” الذي يقدّم عروضاً مسرحية لفنانين وموهوبين سعوديين على خشبة مسرح “نادي جدّة الأدبي”، حيث يشير المشرف على فرقة الفنانين ومساعد المخرج نايف القرشي الى أن “مسرح السعودية” فكرة مستنسخة من حيث الهيكل عن “مسرح مصر”، لكن مضمونها ذو نكهة محلية سعودية. وبقيادة الفنان أشرف عبدالباقي وبدعم من مجلس مبادرات شباب منطقة مكة والهيئة العامة للثقافة ووزارة الإعلام، بوشر الإعداد لهذا المشروع بهدف صناعة جيل واعد في المجال المسرحي وتبنّي المواهب وصقلها، حيث إن التحضير لهذه العروض يحتاج الى مراحل عدة من العمل الشاق، من بينها مرحلة اختيار المواهب التي تم فيها ترشيح 50 موهبة من أصل 1000 لدخول الفرقة المسرحية، مضيفاً أن النص المسرحي تتم بلورته بما يتماشى مع ثقافة المجتمع والأجواء العائلية، حيث يتولى كتابة النص فريق مختص مكوّن من سته شبان، يرسمون مع الفنان أشرف عبدالباقي والمخرج ياسر المدخلي صورة متكاملة العناصر والأركان، بدءاً من أداء الممثلين وصولاً الى الكماليات بما فيها الديكور والإضاءة وأزياء الممثلين.
ويشير القرشي إلى أن الحضور كان جيداً ومشجعاً بحيث استهوت العروض المسرحية الكثيرين خلال الأشهر الخمسة السابقة، ليصبح لـ”مسرح السعودية” في جدّة مكانه في “أجندة” العائلة السعودية خلال عطل نهاية الأسبوع، آملين بتقديم الأفضل.
بدايات الحراك المسرحي في المملكة
“الفن المسرحي وإن كان مهمّشاً وشبه غائب عن ساحة المجتمع المحلي، إلا أن بدايته كانت قديمة جداً”... هذا ما يقوله المؤلف والمخرج والباحث المسرحي السعودي ياسر المدخلي الحاصل على جوائز عدة محلية ودولية، مؤكداً أن تاريخ المسرح يعود الى ما قبل الحكم السعودي لمناطق مختلفة في المملكة، لعل أهمها منطقة الحجاز، وهو كان عبارة عن اجتهادات مرتجلة من جانب سكان تلك المناطق، وظهر أول العروض المسرحية في منطقة “عُنيزة” في أثناء حكم الملك عبدالعزيز (رحمه الله)... ويرى المدخلي أن المسرح رغم كونه نشاطاً مؤسّسياً يدخل ضمن الأسس التنظيمية للدولة، إلا أنه لم يُصر الى تطويره وتنميته بالشكل المطلوب، ذلك أن نظرة المجتمع السائدة اختزلته في نشاط مدرسي لا صفّي أو شبابي موسمي لا ينتمي الى مؤسسات متخصصة، ولذلك وجدت جمعية الثقافة والفنون نفسها ترزح تحت وطأة عبء مادي كبير يفوق إمكانياتها، ولكن بفضل بعض الفروع وذكاء إداراتها تمكّن الفن المسرحي السعودي من فرض نفسه في المهرجانات العالمية والمحلية، مُطلقاً مواهب مهمة ما لبثت أن أصبحت جزءاً من الحراك المسرحي العربي.
الصعوبات التي يواجهها الفن المسرحي في المملكة بدأت بالتلاشي
وعن بداية الحراك للنهوض بالمسرح الحديث في المملكة، تعبّر المخرجة والمدرّبة ورئيسة لجنة المسرح النسائي في جمعية الثقافة والفنون سامية البشري عن فرحتها لتوجّه الدولة الى تفعيل دور المسرح من خلال فعاليات تستهدف العامّة، مشيرةً إلى أهمية المسرح في نشر الثقافة وزيادة الوعي في المجتمع، إضافة إلى الجانب الترفيهي... كانت البشري من أهم الدافعين لعجلة الحركة المسرحية النسائية من خلال إعدادها لأول مسرح نسائي في المملكة منذ ما يقارب الأربع السنوات، والذي ضمّ عدداً من الموهوبات السعوديات تحت سقف ملائم لطبيعة المجتمع وخصوصية المرأة، في خطوة للترفيه عن السيدات السعوديات بمحتوى مفيد. وتؤكد البشري أن الأشهر القليلة الماضية التي انتشر فيها الفن المسرحي كإحدى الفعاليات الترفيهية المهمّة، كانت كفيلة بجعل العامّة أكثر تفاعلاً مع فن المسرح، وأكثر تقبّلاً لنشاط المرأة فيه كممثلة، مما يجعل النظرة تفاؤلية الى المستقبل بحيث تتبدّد فيه الصعوبات شيئاً فشيئاً.
النص المسرحي يتصدّر الأولويات
وفي ما يتعلق بالمسرحية، بدءاً بنصّها وصولاً الى مرحلة انتقاء الممثلين، يرى المخرج ياسر المدخلي أن النص هو الأهم في مسألة تطور الفن المسرحي في المملكة، لأن النص في رأيه يسمح بالاستعانة بخبرات من الدول الشقيقة في مجالات التقنية والإنتاج وحتى تدريب الكوادر، ولكن حبكة النص والسيناريو تبقى الأساس. ويلفت المدخلي إلى أن هناك الكثير من الموهوبين في مجال الكتابة الدرامية، يعانون تجاهلاً من القائمين على الفنون الدرامية، ولذلك فهو يسعى من خلال ورش العمل التي يقدّمها الى بناء أسس الكتابة المسرحية وتعزيز مواهب الكتّاب وتمكينهم من مواكبة تطورات المسرح، وذلك لمدّ يد العون الى الكتّاب، ولئلا نعاني مستقبلاً أزمة في النصوص وندرة في الكتّاب. فالكاتب المسرحي المبدع في رأي المدخلي هو الذي تستثيره أحداث المجتمع وتحولاته فيبتكر بأفكاره أعمالاً تُلهم الشباب وتعزّز وعيهم، فالوعي ينطلق من ممارسات المؤثرين وليس العكس، وهذه هي مهمة الكاتب المبدع إذ يحاول من خلال عمله استعراض مساحات من التفكير وتحفيز المتلقي على تحديد خياراته. وفي الجانب الآخر من المعادلة المسرحية، يعتقد المدخلي أن عملية انتقاء الممثلين لا بد من أن ترتكز على الموهبة والأداء وليس على الشهرة أو نسبة المشاهدات على “يوتيوب”.
وتعقيباً على كلام المدخلي، تلفت المخرجة سامية البشري الى أهمية تقيّد النص بأطر الدين والمجتمع والعادات، ورسم سياق من السلوكيات الصحيحة بطريقة اختزالية خفيةً، سعياً وراء مجتمع مثقف وواعٍ، مستندةً في ذلك الى مقولة الكاتب الروسي الشهير ستانسلافكسي: “أعطني مسرحاً، أعطك شعباً مثقفاً”. وبالنسبة إلى اختيار الممثلين، ترى البشري أن من الضروري أن يتمتع الممثل المسرحي بالإحساس والحضور القوي ليقدّم أداءً جيداً.
مسرحية “دنيا الألعاب” كانت نقطة انطلاق رنا عطوفة الى عالم المسرح
وفي الكواليس، وتتبّعاً لمجريات أحداث التجربة المسرحية في “مسرح السعودية”، التقينا عدداً من الممثلين المسرحيين المشاركين، لمعرفة انطباعاتهم حول التجربة المسرحية، ورسم ملمح عن خلفياتهم الأكاديمية، حيث جذبتنا الشخصية العفوية والمرحة متعددة المواهب رنا عطوفة خرّيجة الإعلام التي تعمل في مجال الدعاية والإعلان كصانعة محتوى، والتي أحبّت التمثيل والمسرح منذ صغرها، محاولةً صقل مواهبها من خلال عملها في مجالات عدة إعلامية وصحافية وإذاعية، إضافة الى ظهورها على قنوات التواصل الاجتماعي كمقدّمة برامج وممثلة في بعض المسلسلات على “يوتيوب”، لتضيف أخيراً تجربة التمثيل المسرحي الى قائمتها من خلال أدوار قدّمتها على خشبة “مسرح السعودية”، والتي منها مسرحيات: “دنيا الألعاب”، “دار المسنين”، و”علاء الدين والكشكول السحري”، مؤكدةً أن هذه التجربة أثرت خبرتها السابقة وصقلت موهبتها ومواهب الممثلين المشاركين معها من خلال ما يقدّمه لهم فريق العمل من نصائح وورش عمل ودعم معنوي ونفسي. وتنوي رنا التخصّص في فن التمثيل وممارسة هذه المهنة باحتراف، محاولةً بذلك أن تجمع جوانب شغفها الكثيرة والمتشعبة بدون سقف أو حدود.
حلم التمثيل عرّضها للكثير من الانتقادات
ومن أعضاء فريق التمثيل الذي انضم الى “مسرح السعودية”، الفنانة خيرية أبو لبن التي اشتُهرت منذ سنوات بالتمثيل في مسلسلات على قناة “يوتيوب”، كان أشهرها مسلسل “تكي” الذي حظيَ بانتشار واسع في الأوساط الشبابية. وكانت خيرية خرّيجة قسم الأحياء من الوجوه الشابة التي طوّرت مهاراتها من طريق محاكاة الأفلام والفنانين العالميين، حيث سبّب دخولها عالم التمثيل في عام 2012 قلقاً لوالديها، نظراً لعدم رواج فكرة تمثيل الفتيات في ذلك الوقت. وعلى الرغم من الانتقادات التي طاولتها، استطاعت خيرية متابعة طريقها في هذه المهنة محققةً حلمها باعتلاء خشبة المسرح من خلال تجربتها في “مسرح السعودية”، حيث كان التحضير لهذه المسرحية يستحوذ كل وقتها على مدى شهرين متواصلين، إذ كانت تحرص على التركيز على الأداء والحركة والنطق السليم. وبعد مراحل التحضير، تم الإعلان عن المسرحية قبل أسبوعين من العرض، لتُفاجأ خيرية بالحضور الكثيف والذي قابل أداءهم بتشجيع لطيف ومحفز. ومن خلال تجربتها المسرحية، تسعى خيرية الى الإلمام بجوانب فن التمثيل بحثاً عن فرص أفضل في عالم السينما والتلفزيون، متوقعةً للمسرح السعودي الكثير من الازدهار والتميز.
حب التمثيل هو أساس التحضير لأداء مسرحي مميز
ومن الوجوه الشابة التي نجح “مسرح السعودية” في استقطابها، الممثل عويض العتيبي الذي اكتشف موهبته في التقليد وتأدية مختلف الأدوار منذ أيام الدراسة، ليدخل عالم “اليوتيوب” ويمثل أفلاماً قصيرة حققت نِسب مشاهدة عالية، منها “لسعة” و “غوغل لو كان سعودي” و “حسن وحسنين”، إضافة الى مشاركته في برنامج “هو وهي”، والعديد من الإعلانات التلفزيونية و”اليوتيوب”. وأخيراً، أُتيحت لعويض فرصة التمثيل في المسرح فقدّم خلال الأشهر الماضية أربع مسرحيات هي: “دنيا الألعاب”، “مثلث برمودا”، “بيت الأشباح”، و”علاء الدين والكشكول السحري”. ويرى عويض أن التحضير الحقيقي يرتكز أساساً على الشغف وحب التمثيل وتحمّل مسؤولية إسعاد الجمهور، تليها في الأهمية، التحضيرات والتدريبات التي تسبق العرض، مع ضرورة سعي النجوم الى تطوير أنفسهم من خلال المتابعة المستمرة، سواء للأداء المسرحي أو التمثيلي.
متطلبات تطور الفن المسرحي في المملكة
وعند الوصول الى المحور الأهم والذي يتمثل في ما يحتاجه المسرح السعودي لبلوغ الأفضل، يُجمع كل من شارك في هذا التحقيق على أن هناك حاجة ملحّة لتأسيس أكاديميات تُعنى بتدريب الشباب الموهوبين وتأهيلهم في كل مجالات العمل في المسرح، سواء كانوا مخرجين أو ممثلين أو كتّاباً أو راقصين أو عازفين، وحتى فنيين في مجالات تقنية كالإضاءة والصوت والديكور المسرحي. وتضيف المخرجة سامية البشري إلى ذلك، نقطة مهمة ألا وهي ضرورة تأسيس مسارح مستقله ومجهّزه بالتقنيات اللازمة في المنشآت الثقافية وحتى التجارية لتفعيل دور المسرح في كل المناسبات.
وأخيراً، يرى المخرج ياسر المدخلي أن البدء بتفعيل دور المسرح الوطني كمؤسسه ثقافية وحضارية يشكّل أهم خطوة، لإفساح المجال أمام المبدعين لإثراء محتوى الفن السعودي والحرص على تنوعه في إطار قانوني منظّم.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024