انتشال التميمي: بيروت هي المكان...
انتشال أم انتشار؟ لا أدرك إن كان غالبية من مرّوا من هناك شعروا بما شعر به انتشال التميمي. لقد أذهله البحر في بيروت وفاجأه. هو رجل الكواليس... وكوننا ننظر إلى الصورة الكبيرة ونحب المشهد الجاهز قد لا نعرف انتشال التميمي مدير البرمجة العربية في مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي وأحد مؤسسي «مهرجان الفيلم العربي» في روتردام (هولندا) و... كما لن نعرف ربما، الإيطالي كارلو رامبالدي الذي صمم العديد من شخصيات أفلام هوليوود مثل «كينغ كونغ» والمخلوق الفضائي «إيه تي»... قد نشاهد كثيراً ونهنئ كثيراً ولا نعرف السبب بل نكتفي بالإحتفال.
- أين المرأة في الندوات الصباحية لمهرجان «أبو ظبي» السينمائي؟
إن سمعت باسم انتشال يتبادر إلى ذهنك امرأة أم رجل؟ ... اعتبريني امرأة (يضحك).
- بدأت بإسمك بنفسك. ما هو الرابط بينك وبين أغنية «فيروز» «أسامينا»؟
تنطبق على حالتي. لكن اسمي جزء من شخصيتي، اسمي له علاقة بوالدي وبمرحلة تاريخية مهمة في العراق. والدي كان شيوعياً، وانتشال هو انشقاق في الحزب الشيوعي العراقي في الخمسينات.
توقع الناس أنني سأنتشل أحداً ما أو شيئاً ما، وهذا ما لم أكن قادراً عليه. هذا اسمي، الإسم الوحيد في العالم الذي لا يحتاج إلى كنية أو اسم عائلة للبحث عن معلومات عنه. قد لا يكون تفرداً مهماً، لكنه امتياز لطيف.
- هل أحرجك اسم «انتشال» يوماً أم ربما هدّد سلامتك؟
نعم، كدت أُعتقل بسبب هذا الإسم عام 1979، كدت أقتل كما كان يقتل من إسمه علي أو عمر في ظل الحرب الطائفية.
في فترة من الفترات كانت المجتمعات العربية مرتبطة بالجانب السياسي أكثر من الجانب الطائفي، في ظل الإنقسام بين الشيوعيين والإشتراكيين والقوميين...
- لحظة سقوط النظام العراقي، أي ناقد وأي مواطن وأي صحافي وأي مصوّر كنت؟
تركت العراق نهاية السبعينات في ال24. وعدت إليه عام 2003، وكان عمري بالتحديد 49 عاماً. أي أنني كنت حينها عشت عمري مناصفة 24 عاماً ونصف عام في العراق و24 عاماً ونصف عام خارجه.
كانت لحظة ومصادفة استثنائيتين. تركت العراق عام 1979 سراً بأسلوب المغامرات العنيفة، إلى سورية ثم لبنان حيث أقمت في منطقة ما كان يعرف بـ «جمهورية الفاكهاني».
تلك المرحلة كان لها عالمها الثقافي في المقاهي التي اندثرت
- هل استرجعت هذه اللحظات خلال الندوة التي ذكر فيها المخرج يسري نصرالله تفاصيل إقامته في بيروت؟
تعرفت على يسري نصرالله هناك. كان مركز المقاومة الفلسطينية في المنطقة التي أقمت فيها. وكان يسكن في كل مبنى مجاور 10 كتّاب و5 فنانين تشكيليين و6 صحافيين عرب.
هؤلاء جميعاً لجأوا من بلدانهم التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية ليعيشوا في هذه المنطقة التي كانت تعدّ فقيرة نسبياً ومتواضعة. لكنها كانت الأغلى لناحية بدل السكن في بيروت. كانت الشقة المتواضعة توازي شقة مفروشة وفخمة في منطقة الحمرا آنذاك.
كانت المنطقة محمية أمنياً وعسكرياً من المقاومة الفلسطينية من تهديد الإغتيال الذي قد تنفذه الحكومات العربية.
لقد خسرت الكثير من الأصدقاء والأقارب عبر الإغتيالات، مدير تحرير صحيفة «فلسطين الثورة» خالد العراقي... كنت أعمل معه كمصمّم صفحات الجريدة.
اغتيل بمسدس مزوّد كاتم صوت وهو يتمشى من منطقة جامع عبد الناصر باتجاه الجامعة العربية نهاراً.
رغم كل جو الخطر والقنابل والموت، كنا نسهر حتى الصباح في مقهى «دبيبو» مقابل صخرة الروشة.
كان من أماكن الراحة الأساسية. تلك المرحلة كان لها عالمها الثقافي في المقاهي التي اندثرت.
العراقيون شعب لا يسافر، شعب مغروس في مكانه
- ما هي الذكرى الأكثر انطباعاً في حياتك؟
بيروت هي المكان الذي رأيت فيه البحر للمرة الأولى. أذكر أنني خرجت من شقتي باتجاه كورنيش المزرعة.
في منطقة ما ارتفعت السيارة وفي لحظة معينة فاجأني البحر. لا يمكن أن أنسى هذه اللحظة مطلقاً في حياتي. أحب الجبال، لكنّ للبحر قيمة أكبر وأفقاً ينغرس في الروح. كانت صخرة الروشة مزاراً، فالبحر في العراق بعيد.
- أين ولدت؟
أنا من مدينة بابل، لكنني ولدت في بغداد وعشت في الكرادة الشرقية حيث تكونت شخصيتي. العراقيون شعب لا يسافر، شعب مغروس في مكانه خلافاً للبنانيين والفلسطينيين والسوريين... لذلك أصبح لهؤلاء امتدادات في كل العالم.
نحن لا نملك تقليد السفر حتى داخل العراق، زيارة الجبل أو البحر. الأمكنة بعيدة.
جئت إلى لبنان بسبب ظروف سياسية. ما زلت أذكر أن سروال الجينز كان ثمنه 27 ليرة.
وصلت إلى بيروت وقيمة الدولار 2,9 ليرة وتركته بقيمة 3,10. شهدت في بيروت إصدار العملة الورقية فئة ال250 ليرة، كانت توازي قيمتها 70 دولاراً. كان التناسق مثالياً بين الدخل والأسعار.
تعرفت في بيروت على 75 نوع مازة، بينما في العراق لدينا نصف نوع مازة. نحن نتناول اللحم مباشرة. في بيروت ثقافة مختلفة على كل الصعد. أولى مشاهداتي السينمائية كانت في بيروت.
كانت دور السينما رائعة، سينما Étoileو«جان دارك». كنت أدخل سينما كليمنصو يومياً، كانت صالة التجارب السينمائية.
- أي فيلم قد يحضرك هذه اللحظة من تلك المرحلة؟
أفلام وودي ألن ودايان كيتون، وفيلم Saturday Night Fever، كان الفيلم الأول الذي أشاهده عن الشباب. استمتعت في ذاك الفيلم بأغاني فريق Bee Gees.
أدمنت هذه الأغاني التي تحولت بتحول التكنولوجيا من كاسيت إلى أسطوانة مدمجة، وكانت تتنقل معي من بلد إلى آخر. أسمعها حتى اللحظة.
- هل ما زلت محتفظاً بكتاب Best of Life أيضاً؟
أملك اليوم ثلاث نسخ منه إذا سُرقت أو ضاعت إحداها. النسخة الأولى من هذا العمل أهداني إياها مدير القسم الفني في جريدة «الأخبار» البيروتية إميل منعم. أدركت مع هذا الكتاب أن دراسة الصحافة بلغة أجنبية، وتحديداً في موسكو، قرار مجنون وقيّم.
- ما أكثر صور هذا الكتاب تأثيراً في داخلك؟
صورة الفتاة الفيتنامية الراكضة وهي عارية في هانوي التي تتساقط عليها قنابل النابالم (1972). هي أكثر صور الحروب أثراً في الصحافة الفوتوغرافية.
- ما هي قراءتك لسينما الحرب التي يستمر في طرحها المخرجون اللبنانيون؟
أعتقد أن هذا رأي مغلق، من المنطقي أن يتحدث الإنسان عن تجربته الشخصية سواء عن الحب أو الحرب أو المعارك أو الفكاهة. جوهر الأشياء هو التحدث عن التجربة الشخصية. الموضوع هو «الصبوبة»، عذر لطرح الذات.
في كل الفترات، تألقت السينما اللبنانية مع أسماء فريدة بحجم لبنان وإمكاناته الإقتصادية. وإن عددنا الأفلام اللبنانية سنجد أن وجودها في العالم العربي ممتاز.
- لكن مشاركة الفيلم اللبناني حتى على صعيد لجان التحكيم كانت شبه غائبة في الدورة الأخيرة من مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي؟
أعتقد أن الحضور اللبناني كان باهتاً في هذه الدورة. لكن منذ الدورة الأولى من المهرجان كانت المشاركة اللبنانية متميّزة. فازت رانيا عطية بجائزة أفضل مخرج عن فئة «آفاق جديدة»، كما فاز فيلم «شتي يا دني» لبهيج حجيج باللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم روائي، في مسابقتين وفي الدورة نفسها.
في هذه الدورة شارك فيلم لبناني لمهدي فليفل. هو فلسطيني لكن المادة لبنانية وعن مخيم «عين الحلوة» في لبنان. أقيم في هولندا وقد لا أتحدث الهولندية بشكل جيد لكن هذا لا ينفي أنني مواطن هولندي.
أهم شيء في كل مهرجان هو البرنامج الذي يعتبر تاج المهرجان، طبعاً البرنامج الجيد ليس كافياً. هناك تفاصيل عديدة لكل مهرجان حي يطمح إلى أن يكون مؤثراً في محيطه الجغرافي سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً. ميزة المهرجان أنه يتطور دورة بعد دورة.
في الدورة الأولى عام 2007 شارك فيلم عربي وهو لنادين لبكي وفيلم كردي. هذه كانت كل المساهمة المقدمة من المنطقة. ثم شاركت في الدورة التي تلت 8 أفلام عربية، 7 روائية وواحد وثائقي. ثم 13 فيلماً عربياً... في الدورة الأخيرة كرّسنا نجاحنا أكثر مع مشاركة ثلاثة أفلام روائية طويلة، لموسى حداد ونوري بو زيد ورشيد بلحاج.
وفيلم هالة لطفي «الخروج للنهار» في عرضه العالمي الأول عن فئة «آفاق جديدة» (حصدت جائزة «الإتحاد الدولي لنقاد السينما» fipresci وجائزة أفضل مخرجة من العالم العربي)، وفيلم مهدي فليفل الوثائقي «عالم ليس لنا» الذي حضر مهرجان تورونتو (حصد في مهرجان أبو ظبي ثلاث جوائز جائزة Netpak (شبكة ترويج السينما الآسيوية) واللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم وثائقي وجائزة «الفيديرالية العالمية للنقّاد»).
كانت المساهمة العربية ممتازة، وهذا لا يعني المساهمة العربية فقط بل البرنامج الدولي الذي يضم دُرر السينما العالمية. غالبية الأفلام المشاركة هي في عرضها الأول أو الثاني.
ترشيح هذه الأفلام لجوائز الأوسكار ليس «التقويم الأعلى»
- كيف تقوّم ترشيح أفلام سبق أن شاركت في مهرجان أبو ظبي لجوائز الأوسكار؟
ترشيح هذه الأفلام لجوائز الأوسكار ليس «التقويم الأعلى»، بل أيضاً المشاركة الكبيرة في مهرجانات البندقية وتورونتو وسان سيباستيان وكان التي تعني أن العمر الإفتراضي للفيلم هو شهر واحد فقط. كان هي موئل السينما العالمية، إلى حيث تهاجر القبائل السينمائية. هناك تخطط الأشياء وتتوالد الصناعات السينمائية.
- وهناك تتألق سينما هوليوود التي صوّرت على أرض العراق...
قد تتألق الأفلام الخاصة الصغيرة الخاصة المنتجة بملايين. أنا شخصياً ارتبطت بالسينما الهوليوودية، أتيحت لي فرصة التمثيل في فيلم Green Zone وجهاً لوجه مع الممثل الأميركي مات ديمون في المغرب.
فرحت زوجتي بالخبر، وشجعتني على خوض التجربة على أساس أن زوجها سيصبح ممثلاً. تقاضيت 18 ألف يورو على 12 يوم عمل. كانت أول مرة استقل فيها سيارة الليموزين من أمام شقتي المتواضعة في دلفت. لذلك ابني الأستاذ هادي التميمي ابن السادسة ونصف سأحرص على أن يصبح ممثلاً مستقبلاً. أي مهنة أخرى «ما في»، ولو حتى مخرج.
أظن أن زوجتي حاصلة على دكتوراه بالإنفاق
- ما هي سرعة انفاقك للمال؟
عليك توجيه هذا السؤال إلى زوجتي، أظن أنها حاصلة على دكتوراه بالإنفاق. وأنا طبعاً في المنحى نفسه وابني يسلك الطريق ذاته رافعاً شعار»كيف تنفق المال في أسرع وقت ممكن». يعمد البعض إلى صرف الأموال التي يدخرونها، أما أنا فلدي خطط عظيمة لصرف الأموال التي قد أحصل عليها بعد ستة أشهر.
- بالعودة إلى برمجة المهرجان، ما المواصفات التي تحكم المشاركة؟
مسابقات المهرجان ليست مباريات كرة قدم بين الدول. تدهشني عبارة : «فاز لبنان أو فازت مصر أو فازت تونس ... أو العراق يكتسح». التنافس ليس بين الدول ومن له الحق في المشاركة بعدد أفلام أكثر.
وهذا ما يؤكده اقتصار المشاركة العربية في فئة الأفلام الروائية على أعمال من المغرب العربي في الدورة الأخيرة. نتعامل مع الأفلام ككيانات منفردة، بعيداً عن منطق التوازن العددي ووجوب مشاركة فيلم مصري أو لبناني أو وخلفية مخرجها كشخص مكرّس أو جديد...
- ما هو أبعد من مشاهدة الأفلام والفوز في مهرجان أبو ظبي السينمائي؟
تفاعل الجمهور والنقاد ونقاشهم في الحفلات والمآدب الغداء والعشاء، مما يدفع إلى جمهور أكبر لن يكتفي بسينما هوليوود عن الجريمة والرعب التي يسهل الوصول إليها...
تعليقات انتشال
فيلم نواف الجناحي لم يكن تلوينة مهرجان عالمي
- الفيلم العربي واعتباره تلوينة في المهرجانات العالمية...
لا يمكن تعميم هذا المبدأ، فإن قام مهرجان بمجاملة لن يفعلها مهرجان ثانٍ وثالث. وحتى التجارب الإماراتية لم تحضر إنطلاقاً من هذا المفهوم. ليس صدفة أن يحضر فيلم نواف الجناحي «ظل البحر» مهرجانات سان بالماس وقرطاج ودوربان والقاهرة وميونيخ وكوريا...
- احتضان الفيلم العربي المثير للجدل الذي يروق للجهة الممولة، فيلم نوري بو زيد مثالاً ...
هذا غير دقيق، رغم الإنتاج المشترك لفيلم المخرج التونسي نوري بو زيد «ما نموتش»، إلاّ أن المساهمة الأوروبية فيه ضئيلة جداً وتكميلية. أي بعد إنجاز الفيلم، ارتبط بالجهة الأوروبية بصفتها الجهة الموزّعة.
أظن إن أردنا الرجوع إلى الإنتاج المشترك في «سينما العالم» في ألمانيا أو «صاندانس» أو «سان سيباستيان» كل هذه الجهات تدعم السينما العربية، وإذا قاربنا مستوى الأفلام العربية ستكون صاحبة الإنتاج المشترك هي الأفضل غالباً. ولذلك التمويل المشروط هو وهم كبير.
فيلم نوري بو زيد أدهشني بمناقشته الحادة والشجاعة لـ «أسلمة المجتمع التونسي» مما قد يعرّضه للقتل، وسبق أن تعرض للضرب بعد فيلمه Making off. ولذلك دعمه صندوق»سند» في المهرجان.
- سينما شمال أفريقيا كتحدّ وحافز أمام السينما الإماراتية...
السينما الإماراتية لا تدعي أي تحدٍ، هي سينما بسيطة وحديثة. أما سينما شمال أفريقيا فبرزت في العقد الأخير نتيجة الجهد والدعم الحكومي المنظم في تونس والمغرب وأيضاً الجزائر، مما ولّد إمكانات سينمائية كبيرة جداً.
تنتج تونس 17 أو 18 فيلماً سنوياً ... هذا يشكل تحدّياً لكل البلدان العربية التي تواجه مشاكل إنتاجية.
بشّر فيلم 11 Rue Pasteur بموهبة نادين لبكي الحقيقية
- مقاربتك لتجربتَي مواطنك المخرج العراقي محمد الدراجي ومواطنتي نادين لبكي...
بدأ محمد الدراجي مسيرته الإخراجية من فيلم التخرج «حرب» الذي كان عبارة عن 5 دقائق لقطة واحدة. وكان بمثابة تحدٍ فني وتقني وجمالي نجح فيه نجاحاً باهراً. وقدّم أفلام «إبن بابل» و»أحلام» و»حب وحرب ورب وجنون» و»في أحضان أمي».
هو تجربة جديدة وشغف من العراق. فيلمه الأول حلّ في 125 مهرجاناً دولياً.
أما نادين لبكي فقد حقّقت حالة جديرة بالإهتمام، جذبتني بفيلمها القصير الأول 11 Rue Pasteur الذي صوّرته خلال دراستها، هذا الفيلم بالتحديد بشّر بموهبتها الحقيقية.
هي أول مخرجة تفوز بجائزة أفضل مخرجة في الشرق الأوسط التي تمنحها مجلة «فارايتي» الأميركية في المهرجان.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024