جزء من المشهد الزخرفي: الطبيعة تسكن الخارج والداخل أيضاً
لم يكن الحديث عن الطبيعة يقتصر على خارج المنزل فقط، بل كان يعني أكثر خارج المساحات المأهولة. وبتعبير آخر، كانت الطبيعة هي تلك المساحات المشجّرة والمسكونة بالخضرة والتي تتمدد خارج المناطق الحضرية، حيث لم تصلها بعد حركة العمران ولم تكابد من زحف الإسمنت والإسفلت.
اليوم، ومع تمدّد المدن واتساعها وازدياد عدد سكانها، تغيرت المفاهيم وأصبح الحديث عن الطبيعة مقتضباً... فأينما وجد “اللون الأخضر” تكون الطبيعة.
بالطبع، المسألة ليست بهذه البساطة. ذلك أن العاملين في مجال تخطيط المدن، ومهندسي الحدائق والمتخصصين في مجال الديكور والزخرفة والهندسة الداخلية... يبذلون جهوداً استثنائية من أجل إقامة توازن وتناغم حقيقي بين تمدّد المدن وشغل مساحات “مدينية” جديدة وما تتطلبه من مرافق خدمية وبنى تحتية، وبين المساحات الخضراء داخلها والتي أصبحت ضرورة حيوية، ليس جمالياً فقط بل إنسانياً. ولم تقتصر الجهود في هذا المجال على خارج المنازل، بل امتدت الى داخلها لتكرس رؤية جديدة لمفهوم الديكور والزخرفة، ولتؤكد أن هذا الداخل ليس مجرد مساحات خاصة تخضع في تنسيقاتها لشروط جمالية ووظيفية صارمة، بل ينبغي للداخل أن يذهب أبعد من ذلك بكثير. فإلى جانب مراعاة داخل المنزل لميول السكان ورغباتهم واحتياجاتهم في المجتمعات المعاصرة، عليه أن يراعي أيضاً ما تمليه متطلبات العلوم ذات العلاقة بالصحة الجسدية والنفسية. ولعل “الطبيعة” هنا تلعب دوراً محورياً في إعادة تعريف المفهوم الحضاري المعاصر، حيث تشغل الجزء الأكبر من هذا المفهوم وتحدّد انتظارات الأفراد منه.
لذا لم يعد حضور بعض الأصص والنباتات الداخلية كافياً للتعبير عن ذلك، بل أصبح التوازن بين المساحات الداخلية العملية والمساحات الخضراء أكثر من ضرورة، ويتطلب هذا الأمر الكثير من الابتكار والمهارة والمزيد من المعرفة بأنواع النباتات وعائلاتها وطبائعها، لأن المسألة ليست مجرد عناصر زينة، بل هي هنا في المشهد الزخرفي مكوّن أساسي له شروطه ومعاييره، ومتطلباته أيضاً. وسواء أكانت النباتات الداخلية مدمجة في الديكور الداخلي أم مستقلة، فإن اختيارها يخضع لاعتبارات عدة، ليس فقط من الناحية الجمالية، بل أيضاً من ناحية متطلبات هذه النباتات لتأمين شروط استمرارها ونموّها والحفاظ على رونقها وحيويتها وديمومتها. وتجدر الإشارة هنا الى أن مهندس الديكور لا بد من أن يعمل جنباً الى جنب اختصاصي نباتات بهدف توفير كل الشروط اللازمة للحصول على النتيجة المطلوبة. فالحدائق الداخلية المعلّقة لم تعد نادرة كما في السابق، بل أصبحت جزءاً بارزاً من المشهد الزخرفي، سواء أكان في المنشآت العامة التي تستقبل مئات بل آلاف الزوار يومياً، أم في المنازل حيث يتم تنسيقها ببراعة لتضفي على أجواء المنزل طابعاً خاصاً، وبالتالي تؤمّن لهذه الأجواء مزايا تصعب حيازتها من خلال عناصر أخرى. كما لا يمكن إهمال القيم الجمالية التي توفرها النباتات في الداخل، لذا فإن اختيارها ينبغي أن يراعي أبعاد المكان ووظيفته، فاختيار نباتات بأوراق صغيرة منمنمة يتناسب أكثر مع الأماكن ذات المساحات المحدودة، بينما يمكن المساحات الواسعة أن تتقبّل أنواعاً من النباتات ذات الأوراق الكبيرة والتي تحتاج الى فضاءات رحبة من أجل نموها وتمدّدها. وبالتأكيد، لا يقتصر الأمر على الجهود التي تُبذل في الاختيار وتأمين التربة الصالحة والأحواض المناسبة، ولكنْ ثمة جهود لا ينبغي التغافل عنها، وهي العناية الدائمة وربما اليومية في بعض الحالات، وهي عملية تحتّم على أصحاب المكان الالتزام بها ومنحها الاهتمام اللازم والوقت المطلوب.
وهكذا فإن الداخل سيكون امتداداً للخارج، وهو الحدائق والشرفات والتراسات، حيث الاهتمام به يجب ألاّ يقل عن الاهتمام بالداخل، ومن هذا المنظور سيبدو الداخل امتداداً طبيعياً للخارج، في تأمين الأجواء المناسبة لكل الحالات.
ثمة أمور أخرى تفرض نفسها في هذا المجال، ومنها مراقبة الحرارة والرطوبة وتأثيراتهما في النباتات، فهناك نباتات بالغة العذوبة والجمال، ولكنها أيضاً غاية في الهشاشة. لذا فإن استشارة أهل الاختصاص، والعودة الى المراجع المعرفية المتعلقة بها، يسهلان الكثير من طرق العناية بها، ويتيحان التمتع بأشكالها وألوانها وروائحها.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024