أقليّات العراق تستنجد
الكتاب: 'يا مريم'
الكاتب: سنان انطون
الناشر: دار 'الجمل'
في روايته الصادرة حديثاً عن دار «الجمل» بعنوان «يا مريم»، يرسم الروائي العراقي المُقيم في نيويورك سنان أنطون المشهد الحالي لمسيحيي العراق المُشتّتين بين القتل والتهجير، في ظلّ سيطرة المجموعات الإرهابية على الساحة العراقية.
يفتتح الكاتب روايته بمشهد خلاف بين مها ويوسف، ومنها تنطلق اللعبة الروائية القائمة على الاسترجاع والاستباق الزمني.
فالحدث الأساسي في الرواية، الشِجار بين مها ويوسف، يمتدّ على يوم واحد فقط إنما يقوم كلّ واحد منهما بإعادة حساباته وذكرياته في منزله وعائلته ووطنه.
مها هي الشابة المسيحية التي اضطرتها ظروف وطنها إلى العيش هي وزوجها في منزل قريبها يوسف لاستكمال عامها الدراسي الأخير في كلية الطب في بغداد بغية الحصول على الشهادة التي تُمكنها من العمل في كندا، حيث تريد أن تهاجر.
أمّا يوسف، فقد وحيداً في منزل العائلة الكبير بعد هجرة كلّ أفراده ووفاة شقيقته حنّة التي أبت أن تتركه وتهاجر مع بقية أفراد أسرتها الموزعة في أكثر من مدينة في العالم.
«عمّو إنت عايش في الماضي»... هذا الجملة توجهها مها إلى يوسف كاتهام له بجهله لحقيقة وحجم المشاكل التي يُعانوها كمسيحيين داخل هذا الوطن.
فتتسارع إلى ذهنه أسئلة لم يكن قد طرحها سابقاً على نفسه: «هل أعيش حقاً في الماضي؟ وكيف لا يعيش من كان بعمري، في الماضي، ولو بعض الشيء؟ أنا في العقد الثامن من عمر صار معظمه في عداد الماضي ولم يبقَ منه الكثير.
أمّا هي، فما زالت في بداية العشرينيات ومازال المستقبل كلّه أمامها، مهما بدا الحاضر قاتماً» (ص10).
الصِدام بين مها ويوسف هو صراع يعيشه مسيحيو العراق اليوم. إنه صراع بين فكرتين مُحقتين وبين جيلين مختلفين ونظرتين متقابلتين: فهل أبناء العراق هم كلّهم ضحايا مصالح الدول والسياسات؟ وهل صحيح أنّ المشكلة ليست دينية وإنما مخطط تدمير للعراق كلّه بأبنائه وشعوبه كافة؟ كما يعتقد يوسف أم أنّ مها على صواب في اعتبار نفسها مستهدفة كمسيحية في بلد تتقاسمه المذاهب المسلمة؟
تعتبر مها أنّ الخطر لا يلاحقها فقط من تفجيرات بعض الإرهابيين وإنما من عيون الناس الذين يُشعرونها أنّها فقط تعيش كغريبة داخل وطنها: «النظرات التي أشعر وكأن أصحابها يلتقطون صور أشعة اجتماعية ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي لأني لست مثلهم أو من ملّتهم» (ص110)، بل إن الناس والجماد صارا يكرّسان أيضاً هذا الاختلاف: «تعبت لأنّ كلّ شيء وكلّ شخص يُذكرني، بمناسبة وبدونها، باني أقليّة» (ص112).
هي تُعامل على أساس أنها غير وطنية بحيث كانوا يُعيّرونها باسم والدها «جورج» الذي يحمل اسم جورج بوش نفسه، لكنها كانت تعمل على تأكيد عروبة والدها الذي يحمل اسم اثنتين من أشهر الشخصيات العربية: جورج قرداحي وجورج وسوف.
مها هي مرّة الراوية ويوسف الراوي في مرّات أخرى. ويدخل الراوي الثالث (خارج الحكاية) ليسرد الأحداث بضمير الغائب ويُعرّفنا على الأبعاد التاريخية والنفسية للشخصيات.
المشادّة الكلامية التي انطلقت منها أحداث الرواية، تعود مراراً وتكراراً مع تغيّر الرواة لنكتشف أخيراً أن تفاؤل يوسف بمستقبل العراق هو الذي أخرج مها المجروحة عن صمتها وهدوئها واحترامها لمن يكبرها سناً ويؤويها في منزله.
وفي الفصل الأخير من الرواية «الذبيحة الإلهية» نتابع حركة بطلي الرواية يوسف ومها اللذين يقصدان، من دون أن يدري أحدهما عن الآخر، الكنيسة التي تتعرّض لانفجار إرهابي كبير يُقتل فيه العشرات ومن بينهم يوسف، الرجل الذي أبى إلا أن يبقى في العراق آمِلا ًبعودته وطناً آمناً وجامعاً لكلّ أبنائه.
«يا مريم»، هذا العنوان الذي يتضمن في ذاته نداءً وصلاة، كانت الجملة الأخيرة التي لفظها يوسف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وفي الصلاة للسيدة مريم التي يؤمن بها المسيحيون والمسلمون دلالة إلى أنّ الدين لا يُفرّق الناس، ولكن الجهل والقسوة والتعصب هي العلل التي تُدمّر الوطن وتقضي على أبنائه.
أمّا مها فتنجو من حادث التفجير بأعجوبة، فتُستدعى للإدلاء بشهادتها ضمن برنامج تلفزيوني بثته قناة «عشتار» الفضائية، وفيه تقول: «اسمي مها جورج حداد. أنا طالبة بكلية الطب بجامعة بغداد.
كنت واحدة من الرهائن اللي كانوا بكنيسة سيدة النجاة، يوم 31 تشرين الأول. اليوم اللي صار به الهجوم الإرهابي.
إحنا عادة نروح للكنيسة كل أحد، أنا وزوجي. بس صدفت هذاك اليوم ما قدر بيجي، لأنه كان عنده التزام وتأخر بالشغل. القداس خلص حوالي الساعة خمسة وربع. وكل شي كان طبيعياً إلى هذيك اللحظة...». ص 150.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024