الروائية اللبنانية إيمان حميدان...
عندما يقع الإنسان في عشق الورق تُصبح العلاقة بينهما ملتبسة ولا يُمكن أحداً أن يفكّ لغزها إلاّ الإنسان العاشق نفسه الذي يرى في كتبه ثروته الحقيقية... ولأنّ المكتبة هي الركن الذي يُخبّئ فيه القارئ النهم ثرواته الورقية الثمينة، قمنا بزيارة استكشافية لمكتبة أحدى «عاشاقات الكتب» الخاصّة وجئنا بالاعترافات الآتية...
علاقتي بمكتبتي هي
مكتبتي معي حيث أعيش وأسكن وآكل وأجلس وأفرح وأتعب وأرتاح. من الصعب تحديد علاقة مع شيء قريب إلى هذا الحد. يجب رسم المسافات أولاً قبل تحديد أي علاقة،
وهذا ما لا أستطيع القيام به مع مكتبتي. رغم ذلك أشعر بأنها كائن مستقل مثلي تماماً. هي تضجر مني أحياناً حين أنقّب في رفوفها بحثاً عن كتاب ضائع وأتركها هكذا لمدة أكون فيها مشغولة بقراءة ما بحثت عنه أو بالكتابة أو بالسفر.
أحياناً أخرى ترأف بحالي وبحياتي الموزّعة بين هنا وهناك، بين بيروت وعواصم العالم. إلا أنني حين أعود أجدها دائما بانتظاري. مكتبتي كريمة في استقبالي وفي استقبال ما آتيها به من كتب جديدة،
وكريمة في إعطائي ما أريده من بين رفوفها. هي إلى حد ما بوصلتي الوحيدة.
أزور مكتبتي مرّة كلّ
المكتبة تعيش معي ومن الصعب التكلّم عن زيارات. هي تقوم بمهمات عدة، ليس فقط حضن كتبي والحفاظ عليها في مكان منظم وآمن. هي أيضاً حافظة أسراري حيث لديها خزائن صغيرة لا يعرف بها أحد سواي.
تحفظ رسائل تصلني ولا أود أن يشاركني إياها أحد. مكتبتي ذاكرتي، فيها صوري وصور أولادي موضّبة في ألبومات تذكرني بماضٍ من الصعب استرجاعه.
في قلبها أيضاً صور أصدقاء رحلوا وما زالت ذكراهم تحفر في وجع القلب. السؤال عن مواقيت زيارات مكتبتي فيه الكثير من الموضوعية التي لا أستطيع الإدعاء أنني أتمتع بها.
هي هنا دائما موجودة في غرفة الجلوس لكنها أيضاً قرب السرير وفي الأدراج وعلى طاولة المكتب.
أنواع الكتب المفضلّة لديّ
هناك الأدب الذي هو دائماً المفضل لديّ، وهناك أيضاً ما احتاج إلى قراءته من أجل بحث ما أو من أجل مؤتمر أشارك فيه أو دراسة. القلب يميل دائماً إلى الرواية وهذا ليس بغريب.
لكنني أميل أيضاً إلى قراءة الشعر وأطلب سماعه دائماً وسط الأصدقاء والذوّاقة. أحياناً نجتمع جميعنا لقراءة الشعر ولقراءة نصوص أدبية لم تنشر بعد. في مناسبات كهذه وحين يكون اللقاء في بيتي، أرى مكتبتي تقف هناك دائماً وتستمع وأشعر بأنّها هي أيضاً تتذوق وتُشارك.
كتاب أُعيد قراءته
إعادة القراءة تتم غالباً قبل لحظات النوم التي قد تستمر لتصبح ساعات. «شذرات من خطاب في العشق» للكاتب الفرنسي رولان بارت هو رفيق الفراش هذه الأيام.
أتركه قرب سريري ودائماً ما أعود إليه بين اليقظة والنوم واكتشف كل مرة معانيَ جديدة. أسافر ثم أعود إليه.
يتغيّر هذا الرفيق من وقت إلى آخر وأكتشف في كل إعادة قراءة عوالم جديدة كأنني لم أقرأ الكتاب من قبل.
كتاب لا أعيره
لا يوجد لديّ كتاب لا أعيره. كلّ الكتب هي للقراءة. هناك كتاب واحد فقط قُدّم لي مع إهداء خاص وشخصي. قد يكون هو الكتاب الوحيد الذي أرغب في عدم إعارته لأي كان ليس لمضمونه بالذات بل بسبب ذلك الإهداء اللذيذ على أولى صفحاته.
كاتب قرأت له أكثر من غيره
سؤالك جعلني أسأل نفسي للمرة الأولى هذا السؤال. من الغريب أن أقول الآن، وهو اكتشاف لي أنا أيضاً، إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذي قرأت له أكثر من غيره. كانت معظم كتبه موجودة في مكتبة العائلة،
وكنّا إخوتي وأنا نستمتع بقراءة الأدب العربي، وذلك قبل سنوات عديدة من نيل محفوظ جائزة نوبل. بدأت بقراءة محفوظ ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة.
قرأت له معظم أعماله وعلى مدى سنوات طويلة من حياتي. وكنت كلّ مرة أرى أحد كتبه وقد تحوّل إلى فيلم، أعود لقراءة الرواية كي أرى إلى أي حد الكتاب أجمل وأكثر عمقاً من الفيلم.
آخر كتاب ضممته إلى مكتبتي
كتاب «طوق الحمام» للكاتبة السعودية رجاء العالم. لم أقرأ لها من قبل. في زيارتي الأخيرة للقاهرة اشتريت كتابها الذي نالت بفضله جائزة «البوكر» العربية إلاّ أنني لم أبدأ قراءته بعد.
كتاب أنصح بقراءته
سوف أسمّي كتابين لا كتاباً واحداً. الأول هو الكتاب الكلاسيكي الذي لا يشيخ ولو قرأته مئات المرات وهو «عوليس» لجيمس جويس. والكتاب الثاني بعنوان «الرواية الأخيرة» لكاتبي المفضل كنزابورو أوي.
إنه كتاب صغير بحجم راحة اليد إلاّ أنّه يُغني عن كتب كثيرة تحوي مئات الصفحات أراها ملقاة على رفوف المكتبات ولا تقول لي أي شيء يستحق القراءة.
كتاب لا أنساه أبداً
رواية «قفزة في الهلاك» للكاتب الياباني كنزابورو أوي. في التسعينات تعرّفت إلى كتابات أوي وهو الحائز جائزة نوبل للآداب،
ولا أستطيع أن أصف الآن ما فعلت بي كتاباته. كانت المرة الأولى التي أتفاعل فيها بهذا المقدار من القوة ومن العمق مع عمل إبداعي.
لقد غيّر رؤيتي حول الأدب ونظرتي إلى الإبداع وإلى الكتابة، وأتجرأ على القول إنّه هو الذي دفعني إلى إنجاز روايتي الأولى وإلى نشرها. كاتب لم أتصل به يوماً ولا أعرفه شخصياً إلا انه ترك أثراُ عميقاً وما زال، في وجداني وفي إبداعي.
بين المكتبة والإنترنت أختار
لن أستطيع الاختيار. أنا أجلس الآن أمام كومبيوتري وأكتب لك الأجوبة حول الكتب الورقية وحول المكتبة التي لا علاقة لها بالإنترنت. أجيب عن أسئلة وصلتني عبر الإنترنت وهي بالتأكيد تتناول موضوعاً بعيداً عن الإنترنت بل هو مضاد له.
إنّ حياتنا من التعقيد بمكان أنّه بات من الصعب علينا اختيار نعم أو لا. هناك الرمادي دائماً الذي يُحيط بحياتنا ويسمح بالجمع والاختلاط واختراع نمط حياة فيه من كل شيء القليل.
ما عاد باستطاعتنا أن نختار، ذلك أنّ الواقع تجاوز هذا الموضوع وصارت فكرة الاختيار بحدّ ذاتها خارج الزمن.
دائما نحتاج إلى وجود الأضداد كي نعلم مدى قيمة ما لدينا... أليس كذلك؟
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024