الفنانة التشكيلية صفية بن زقر... فن الريادة الناعمة
بدايات لوّنتها بعتاقة التاريخ وظلال الحضارة، مصوِّرة أبعاد حقبة اندثرت ملامحها، واستحضرت من أعماق ذكرياتها وذكريات كتب التاريخ صوراً حية، لتكون السباقة في توثيق التراث الحجازي والسعودي بالأبعاد كافة، ومن أوائل مؤسّسي الحركة الفنية التشكيلية في المملكة، فكانت بداياتها في عام 1968 بمعرض فني خاص بها في مدرسة دار التربية الحديثة، لتتوالى بعدها سنوات من النجاحات والأعمال التي حملت بصمة مميزة لها كفنانة سعودية تنقل التراث السعودي للأجيال والعالم من خلال معارض ناجحة في مختلف المدن والأقطار، لتشتهر بلوحتها «الزبون» التي عُرفت عالمياً باسم «موناليزا السعودية». الفنانة ورائدة الفن التشكيلي في المملكة صفية بن زقر، الحاصلة على جوائز وتكريمات عدة، كان آخرها وسام الملك عبدالعزيز، ومؤسِّسة «دارة صفية بن زقر» في جدة، شخصية تعترف من ذكرياتها وذكريات الماضي لتسقي بعطائها الحاضر والمستقبل وتحكي لنا عما كان وما سيكون في هذه السطور...
- أمضيت أعوامك السبعة الأولى في جدة، وتحديداً في حارة «الشام»، من بعدها انتقلت إلى القاهرة، ومن ثم لندن للحصول على شهادة في فن الرسم والغرافيك من كلية «سانت مارتن»، حبك للفن لماذا توجه نحو تراث وطن ومدينة لم تعيشي فيها كثيراً؟
عند عودتي إلى جدة في بداية الستينات، تفاجأت بزخر المدينة، الذي بات يغمر بظلاله الأرجاء، مهدداً صورتي القديمة التي أحملها في مخيلتي عن هذه المدينة وعن بيوتها الحجرية وشبابيكها ورواشينها الخشبية المزخرفة، التي كانت تخفي خلفها طقوساً شعبية ومظاهر حياة أصبحت رؤيتها ضبابية ومتلاشية كلما مضى علينا الوقت، لذلك شعرت بأنني في صراع مع الزمن، وبأنني أحمل المسؤولية بنقل تلك الحضارة بفني، ليس بما تبقى من ذكرياتي عن الماضي، بل من خلال بحثي ودراستي وقراءتي وحتى زياراتي لأماكن مختلفة من أرجاء المملكة، واستكشاف ماضي الحضارة المعمارية والشعبية الفولكلورية في مختلف مناطق المملكة، لأضمن أن يكون تصويري في لوحاتي بكل أمانة ومصداقية أقرب وأدق كتوثيق تاريخي لتلك الحقبة الزمنية. ومما لا شك فيه، أن دراستي في القاهرة وتعلُّمي أصول الفن والرسم في لندن، وسعا كثيراً من مداركي الفنية من خلال حضوري للمعارض في كثير من البلدان، وابتدأت مشواري في وقت لم يكن هناك أي صالات عرض مخصصة، وبمجهود خاص وبدعم من الأميرة جوهرة بنت الملك سعود الكبير، قمت بتحضير موقع عرض في مدرسة دار التربية الحديثة في جدة، ليكون أول معرض فني خاص بي في عام 1968، والذي كان بحضور رسمي من قبل أمير المنطقة وشخصيات مهمة في السلك الديبلوماسي والمثقفين، وقد حصد معرضي هذا استحساناً واسعاً، حيث شدت لوحاتي الحاضرين لذكريات الماضي. وبعد هذا المعرض، حددت خطي الموضوعي وهويتي في الرسم، لتتوالى بعدها معارضي المحلية في كل من الرياض والظهران والجبيل والمدينة وينبع وأبها، وكذلك معارضي الدولية في كل من باريس وجنيف ولندن، لتصل حصيدة معارضي الفنية الى ثمانية عشر معرضاً شخصياً، وستة معارض جماعية، عَرّفت فيها عن التراث السعودي محلياً وعالمياً.
- اهتمامك بتجسيد الفولكلور الشعبي والحضارة لم يكن يقتصر على لوحاتك الفنية، بل اهتممت أيضاً بنقل هذا التاريخ بقلمك من خلال مؤلّفين، كيف استلهمت قدرتك على التوثيق كتابياً؟
بدايتي مع القلم والكتابة سبقت تمرّسي للفن والرسم، فكنت أكتب في جريدة البلاد مقالات عن الفن، إلا أنني لم أجد هويتي وطموحي إلا من خلال تعلُّمي أصول الرسم، ولعل حبي للتاريخ وشغفي في البحث والتقصي عن المعلومة ونهمي بالمطالعة والقراءة، إضافة الى حس المسؤولية العالي لديّ في نقل التراث، سيّرتني نحو تأليف كتبي، التي كان أولها كتاب «نظرة فنانة إلى الماضي» باللغتين الفرنسية والإنكليزية، والذي حاولت فيه نقل صورة الحضارة السعودية بمختلف أبعادها وتقسيماتها، ومن ثم ألفت كتابي الثاني «صفية بن زقر رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي» الذي تناول سيرة حياتي وشرحي عن «الدارة».
- أصّلت في طيات فنك نظرة بانورامية شاملة لملامح الحياة البيئية والثقافية والاجتماعية، واهتممت خصوصاً بجانب الزي الفولكلوري الشعبي، إلامَ يعود هذا الاهتمام؟
كما سبق وتكلمت، التطور المتسارع الذي مرت به المنطقة والتوسع العمراني الهائل، وتمدّن العوائل وانتقالها الى البيوت الحديثة، وارتداؤها الأزياء التي تواكب الموضة، ذلك كله جعل الملبس التراثي الشعبي مهملاً ويتّجه نحو الاندثار والاختفاء، ما شكّل بالنسبة إلي تهديداً لعنصر مهم في الصورة الحضارية، لذلك اهتممت بجمع قطع تراثية أصلية من الأزياء الفولكلورية من مختلف مناطق المملكة، هذا بالإضافة إلى اهتمامي بجانب رسم تفاصيل هذه الأزياء في لوحاتي، فعملي وإنتاجي الفني تطلبا مني مجهوداً عالياً وبحثاً دقيقاً ولم يكن مجرد صور من ذكريات.
- في معارضك الفنية المحلية بالمملكة، وجدت نظرة الحنين والشوق واسترجاع الذكريات في أعين زوارك حين كانوا يتأملون لوحاتك، لكن ما نظرة زوار معارضك عالمياً الى لوحاتك؟
تقديمي للمعارض عالمياً جاء بهدف تعريف نفسي كفنانة سعودية، والتعريف بحضارة بلدي التي كانت مجهولة وغير مكتملة عند المجتمع الخارجي، الذي كان يرى فينا مجرد بدو محصورين بالخيام نمتلك الذهب الأسود، لذلك وجدت في عيون الكثيرين الذهول بحضارتنا المعمارية والتراثية والاجتماعية، والحمد لله استطعت أن أكوّن لنفسي ولحضارة بلدي بصمة في الخارج، وأكثر اللوحات التي اشتهرت في معارضي الدولية والمحلية هي لوحة «الزبون» التي عُرفت باسم «موناليزا السعودية» التي عُلقت وأُلصقت «كبوسترات» في كثير من الأماكن والمعالم التي منها برج «إيفل» في فرنسا.
- بعد مسيرة ثلاثين عاماً في مجال الفن التشكيلي، توّجت طموحك بإنشاء «دارة صفية بن زقر» في مدينة جدة، لتكون أيقونة ومرجعاً ثقافياً وفنياً وتاريخياً لكل باحث ومتذوق، ولتجمع أعمالك التي لم ترغبي في أن تتبعثر وتتفرق عن بعضها، كيف كانت بداية تأسيسك لدارة وما هي نشاطاتها؟
بعد أعوام من التخطيط والإعداد وبمساعدة من الأهل، أسست «دارة صفية بن زقر» واخترت أن يكون مكانها في حي الرويس بجدة، لتكون في نقطة التقاء ما بين جدة القديمة وجدة الحديثة، وتم تصميم «الدارة» على نحو خاص مختلف عن فكرة المعرض، وكل قاعة من القاعات التسعة شملت مجموعة من اللوحات التي قُسمت بشكل موضوعي لتكون شبيهة بفصول كتاب يروي حكايات الماضي، فمجموعة الزفاف منفصلة عن مجموعة الحياة اليومية وعن الصيد وألعاب الأطفال وعن الملبس، لتكون لكل قسم خصوصيته، والحمد لله وبعد سنوات من الإعداد وعلى شرف صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، تم افتتاح الدارة في عام 2000، والتي هدفت أن تكون منبراً ثقافياً شاملاً تستنير به الأجيال، فهي ليست متحفاً لعرض لوحاتي والمقتنيات القديمة لزوار فحسب، بل فيها مكتبة تضم أكثر من 5000 كتاب في مجالات التاريخ والفن والأدب، لتكون مرجعاً للباحثين والدارسين، إضافة إلى وجود مكتبة خاصة للأطفال، وقسم خاص لورش العمل والتدريب للأطفال والكبار، كما يتم من خلال الدارة تنظيم مسابقات فنية للأطفال كل عام، هذا بالإضافة الى استضافة «الدارة» كثراً من رواد الأدب والفن والموسيقى، وتقديم محاضرات وندوات تُعنى بجوانب كثيرة، وزوار الدارة من خارج المملكة أكثر من الزوار المحليين، فيأتي إلى الدارة الكثير من الوفود الديبلوماسية والشخصيات المهمة، مثل ملك إسبانيا خوان كارلوس، ووزير الثقافة المغربي وغيرهما، وهدفي الأسمى أن يكون الزائر هو الرسالة والصورة والإعلان لما شاهده في«الدارة».
- حصلت على كثير من الجوائز والدروع والتكريمات محلياً وعالمياً، ما هو أبرزها وآخرها؟
من الجميل أن يُكرم الإنسان في حياته، لكون ذلك يعني تقديراً لجهوده وإعطاءه الحافز لتقديم الأفضل، ولعل أكثر التكريمات أهمية تكريمي وترشيحي للحصول على وسام الملك عبدالعزيز، الذي توج رحلتي في حب الوطن، وقد تشرفت بتسلم هذا الوسام من يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، بعد أن ابتهجت بمكالمة الأمير متعب بن عبدالله ليبشرني بهذا التكريم وحصولي على الوسام، فشرف حصولي على هذا الوسام تقدير كبير لي ولإنجازاتي.
- جُل اهتماماتك ينصب نحو الأطفال وتحفيز ميولهم الفنية من خلال المسابقات التي تنظمها الدارة، خلال 18 مسابقة ما التطور الذي لحظته؟
الأطفال هم المستقبل، وهدفي من خلال المسابقات التي تنظمها «الدارة» تطوير حس الابتكار والفن في داخلهم وربطهم مع الماضي والتراث، من خلال انتقائي موضوعات تحرك في داخلهم رغبة البحث عن المعلومة، فتناولنا موضوعات مثل «الشَربة» و«الدلة» و«قناديل المساجد» و«السرج» و«السجاد»، وفي هذا العام كان «الدُف»، وقد جرت العادة على أن تستقطب «الدارة» المتسابقين من المدارس وترشِّح عدداً منهم، لكننا هذا العام قمنا بالاستعانة بالإنستغرام للتعريف بالمسابقة واستقطاب موهوبين أكثر، والحمد لله هناك تطور ملحوظ للاهتمام من قبل المدارس، وبالتحديد المدارس الحكومية في الآونة الأخيرة، كذلك أصبح أداء الأطفال وإبداعاتهم تتصاعد والحمد لله، وأهدف دائماً في مسابقاتي الى تكليف المتسابقين بالرسم داخل الدارة لإعطائي ما بداخلهم من دون أي تقليد أو استعانة بصور على شبكة الإنترنت.
- ألا يضايقك أن يعتبر الأهالي الفن والرسم نشاطاً فرعياً وغير مهم؟
في الحقيقة هذه هي النظرة السائدة، ونظرتي حول هذا الموضوع تكمن في ضرورة منح الطفل مساحة وفرصة للتعبير عن نفسه، فالفن والرسم ليسا مجرد هواية بقدر ما يساعدان على تنمية الشخصية وزيادة قدرة الأطفال وتوسيع مداركهم ومنحهم الدافع على التميز والعطاء الدراسي أيضاً، لذلك لا بد للأهالي والمدارس من توفير الأدوات لدعم مواهب أطفالهم وتشجيعهم عليها.
- أنت باحثة ومتعمّقة في الماضي، ورغم ذلك واكبت الحاضر لأجل المستقبل، ما أهمية دخولك عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؟
لدى «الدارة» موقع إلكتروني على الإنترنت وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأرى أن لذلك أهمية بالغة لتوسيع دائرة المستفيدين من «الدارة»، ومواكبة التطور من خلال مخاطبة هذا الجيل بلغته وبأسلوبه لكوني أهدف الى نقل الماضي والتراث لهم.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024