رسالة جدة
قد تتساءلون يا أحفادي لماذا أخاطبكم الآن؟
لا عجب يا أحبائي، ففي هذا الوقت رحل من كان سيشاركني في هذه الرسالة.
تركني ورحل لتحطمني الأيام والمصائب والمحن في غربة مُرّة، صعبة، مهينة، تركني وحيدة لأواجه كل ذلك بمرارة ولوعة ولكن وجود بناتي (ثروتي التي لا تثمن) الوفيات وأنتم ومحمد ولدي خفف الكثير الكثير.
إنني أهديكم عصارة تجارب مررت بها بل عشتها لتكون لكم دروساً في مسيرتكم في هذه الحياة.
إجعلوا إيمانكم بالله ورسوله قوياً متيناً، اعتمدوا مبادئ دينكم الإسلام وأركانه منهجاً في حياتكم.
أحبوا وطنكم وجاهدوا في سبيله وكونوا جنداً في وجه كل معتد.
أحبوا المال، ليجعلكم تعيشون أعزاء يحميكم من الحاجة إلى الغير ولا تجعلوا جمعه هدفكم وإنما كما قيل:
إجمع نقودك إن العز في المال
واستغنِ ما شئت عن عم وعن خال
تذكروا كلما أكرمكم الله أن هناك محتاجاً فلا تبخلوا
أكرموا أهلكم وتذكروا ما أمركم به الله، أمك، أمك، أمك، ثم أباك.
أحبائي
إجعلوا مسيرتكم في الحياة ترتكز على جهودكم وتعبكم واجتهادكم الشخصي فمن طلب العلا سهر الليالي.
لا تفرطوا في الوقت وتهدروه دون منفعة فالوقت من ذهب إن لم تقطعه قطعك.
أحبوا الحياة ولكن لا تجعلوا هذه المحبة تسوقكم إلى مباهجها الزائلة وإلى الفساد والمعاصي والرذائل. بل:
إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً
واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
إعلموا أن حريتكم تنتهي عند ابتداء حرية الآخرين.
كونوا أوفياء لعهودكم وقرارتكم واعطوا كل ذي حق حقه وابتعدوا عن استباحة الأعراض والتعدّي على حرمات الغير وتذكروا أن لديكم حرمات وأعراضاً واطلبوا الستر للجميع.
إحترموا الكبير والصغير وتواضعوا فمن تواضع لله رفعه.
إجعلوا رؤوسكم دائماً مرفوعة ليس تجبّراً أو تكبّراً أو تباهياً وإنما لشكر الله على ما أعطى.
واخفضوا رؤوسكم ليس ذلاً أو رياء، بل خشوعاً وتقوى.
لا تمدوا يدكم أبداً فمن مدّ يده لا يمدّ رجله.
كونوا متّحدين متعاونين وإذا اعترضت أحدكم مشكلة كونوا له سياجاً من الصون والمساعدة.
صحيح أن المعايير تغيّرت خاصة عند تقييم البشر، فالآن الإنسان يقيّم حسب ثروته وما يملك وليس لحسن أخلاقه واجتهاده وسيرته النقية وقد صدق من قال:
رأيتُ الناس قد ذهبوا
إلى من عنده ذهبُ
ومَنْ ما عنده ذهبُ
فعنه الناس قد ذهبوا
رأيتُ الناس قد مالوا
إلى من عنده مالُ
ومَنْ ما عنده مالُ
فعنه الناس قد مالوا
رأيتُ الناس منفضَّهْ
إلى من عنده فضةْ
ومَنْ ما عنده فضةْ
فعنه الناس منفضّةْ
أريد أن أسترسل في سرد الكثير ولكن ستقولون ثرثرة جدتي لا تنتهي.
أحبائي
لم نكن أنا وجدكم مثاليين فالكمال لله سبحانه وتعالى ولكن حياتنا كانت ترتكز على أسس لا تحيد عنها مهما كانت المغريات، الإيمان بالله ورسوله، الإخلاص للوطن، العنفوان، والكرامة، المحافظة على الشرف وعزة النفس وما كتابي (الدبلوماسية واجهة ومواجهة) إلا دليل على ذلك وقد تربت أمهاتكم وخالاتكم على هذه المبادئ وفي هذه البيئة ولكن لا تخلو الحياة من الحاسدين لأقول له:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وأخيراً وصيتي
أن تحافظوا على خالكم محمد الكبير في عمره والصغير في براءته وحبه الطاهر للجميع. إنه لا يحسن الدفاع عن نفسه من ضعاف النفوس. لقد جعله الله معاقاً كما تعرفون بسبب إصابته في السودان أثناء خدمة جدكم. أتركه بعهدتكم وحمايتكم.
سأترك لكم قصاصات فأجمعوها لتكون كتاباً ثانياً عن حياة جدتكم، مليئة بالتضحيات والمصاعب وإنما متوّجة بتاج البطولة والإخلاص والتضحية والعزّة والشرف.
وفي الختام: أدعو لكم بالصحة والسعادة والنجاح وأن تصبروا على المحن والمصاعب فالصبر مفتاح الفرج والله مع كل مظلوم وما ظالم إلا سيبلى بأظلم.
وأرجو من الله إن دمعت عيونكم يوماً ما ألا تكون إلا في رحاب الله، دموع تقوى وخشوع ومحبة وتوسل لله، إنه نِعم المولى ونِعم النصير.
جدتكم
عصمت حجار الملحوق
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024