'أحلم بزنزانة من كرز'
الكتاب: «أحلم بزنزانة من كرز»
الكاتب: سهى بشارة وكوزيت ابراهيم
الناشر: «دار الساقي»،2011
«أحلم بزنزانة من كرز»... من هي تلك التي تحلم؟ أو بمعنى أصحّ من هي التي تكتب؟ أيّ من المناضلتين أهدت حلمها الغريب هذا عنواناً للكتاب المشترك؟ أهي سهى بشارة ابنة العائلة الشيوعية التي حاولت اغتيال قائد «جيش لبنان الجنوبي» المعروف ب«قوّات لحد» وأمضت عشرة أعوام في معتقل الخيام، ستّة منها في حبس انفرادي؟
أم هي الصحافية كوزيت ابراهيم التي أمضت عاماً قبل أن يُفرج عنها مع باقي الأسرى يوم التحرير في 22 أيار/ مايو من العام 2000؟
الإجابة تبدو، وللوهلة الأولى، مُلتبسة في وجود نصوص متلاصقة لا تحمل توقيعاً باستثناء مقدّمة كوزيت ابراهيم من باريس. إلاّ أنّه نصّ بعد نصّ يبدأ القارئ وحده باكتشاف هوية الكاتبة التي تروي حكاياتها داخل المعتقل من خلال رموز محدّدة كاسم البلدة التي تنتمي إليها والتواريخ وعدد السنوات التي قضتها واسم العائلة أو الحزب الذي تنتمي إليه وما إلى ذلك. ولكن الغرابة تكمن في أنّ قارئ «أحلم بزنزانة من كرز» سرعان ما يتخطّى الاستفهام الذي طرحه حول هويّة المناضلة- الكاتبة ليغوص في عوالم الأنثى التي تسرد وتروي وتسطّر بطولات عبر «حكايا» بسيطة وتفاصيل دقيقة وطقوس روتينية تتكرّر على إيقاع رتيب داخل زنزانة هي أشبه ما تكون ب«القنّ» الذي يتسعّ بالكاد لدجاجة وفراخها.
وليس مستغرباً أن يكون عدم الفصل أو الانصهار في الأسلوب السردي مقصوداً هنا من كاتبتَي المؤلّف لإضفاء صفة العمومية على «الأنا»، وذلك بهدف إشعار القارئ أنّه لا يقف أمام سيرة مناضلة بعينها بل إنّ كلّ مقاومة اعتُقلت وعايشت تجربة الظلم داخل إحدى زنزانات معتقل الخيام الذي ظلّ رمزاً للاحتلال الإسرائيلي الغاصب طوال 22 عاماً في جنوب لبنان قد تكون هي التي تختبئ وراء الضمير المتكلّم الطاغي على نصوص الكتاب في شكل عام.
يحتوي الكتاب على صور للأشغال اليدوية المتنوعة التي تمّ إنجازها في المعتقل رغم عدم توافر أي مواد أوليّة فيه (قبل إدخال الخرز والإبر والخيوط إلى المعتقل من قبل الصليب الأحمر الدولي)، إذ كانت «السُبحة» تُصنع من بذور حبّات الزيتون التي تُقدّم مع وجبة الفطور و«الخيط» يؤمّن من الخيوط الموجودة في الفرش والأغطية المهترئة، كما أنّ إبرة التطريز صًنعت من أعواد «ربطة» الخبز البلاستيكية ومن ثمّ من دبوس الشعر الذي أُدخل خلسة إلى الزنزانة مع إحدى المعتقلات. وكانت هذه الأعمال الفنية الجميلة بتواضعها والكبيرة بمدلولاتها هي تكريس أنّ الفن هو ابن الحريّة، ولو لم تكن السيّدات المعتقلات أحراراً لما أبدعوا داخل زنزانات خالية من كلّ شيء إلاّ من رائحة العفن والرطوبة والموت. فنساء معتقل الخيام رفضن أن يحبسن أنفسهن داخل زنزانة النفس واخترن حريّة العقل والفكر ليؤيدن بذلك جبران خليل جبران الذي قال مرّة «إنّ السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جباناً»، فهدّمن جدار السجن الضيّق بخيالهن الرحب وحلمن ب«زنزانة من كرز» بكلّ ما يُمثلّه هذا الحلم من البساطة والترف.
ولا شكّ أنّ هذا الحلم يحمل تضميناً يتمثّل بتمسّك المناضلة الحالمة بعملها المقاوم الذي قادها إلى الزنزانة، إذ أنّها لم تتخيّل نفسها خارج القضبان ولم تتطلّع إلى أن تعيش خارج الزنزانة ولم يُسجّل اللاوعي المنعكس لديها عبر حلمها أيّ ندمٍ أو تحسّر، وإنما كلّ ما أرادته أن تكون زنزانتها «من كرز» لما تركته في نفسها حبّات الكرز القليلة اللذيذة التي اقتحمت زنزانتها: «كرز في الزنزانة الرقم سبعة التي بالكاد تتسّع لأمدّد فيها جسدي وأستطيع أن ألمس جداريها المتوازيين بيديّ في آن واحد، ولو فكروا أن يعطوني صندوقاً من الكرز لما وجدت له مكاناً أضعه فيها. لا يمنع أنني تمنيت لو تُملأ زنزانتي تلك كرزاً. عندما وصلتني مع طعام الغداء حبّات الكرز القليلة تلك، في عامي الثالث في ذاك المكان ارتسمت على وجهي ابتسامة كتلك التي ننهي بها ضحكاً كثيراً...».
ففي هذا الكتاب الخالي من ثقل الشعارات وصُوَر البطولات تبدو معتقلات سجن الخيام على بساطتهن وسجيتهن، إذ تنزع المناضلة منهم همومها الوطنية والقومية والحزبية وتُطلع القارئ على حقيقة مشاعرها وتفاصيل يومياتها كأنثى عادية تميل إلى الحبّ والحياة والجمال والترف. ففي نصّ «صبرا وشاتيلا... حبيبتي» تسمع سهى بشارة عبر زنزانتها خطوات صديقتها المعتقلة الفلسطينية كفاح التي تمشي ببطء قبيل الإفراج عنها في 3 آب/ أغسطس 1994 فتُسارع سهى بالقول: «لا تنظري إلى الوراء هيّا اخرجي. عودي إلى البيت، عودي وأنجبي أطفالاً، عاقبيهم إن كانوا غير مهذبين. وليكن لديك سرير بملاءات غالية وخلافات سخيفة مع الجارّة».
إنّ هذا الكتاب الأحمر الأنيق بأناقة فاكهة الكرز ولونها يبدو أنثوياً في شكله ومضمونه...
فصاحبتاه هما سهى وكوزيت، أمّا شخصياته الرئيسية فهنّ نساء خبرن تجربة الأسر المريرة تحت إشراف ميليشيا جنوب لبنان أمثال كفاح الشابة الصغيرة التي دفعت سهى للقول: «إمّا أن يحمل المرء السلاح في هذه السنّ الصغيرة أو أنّه لا يحمله أبداً»، وسمر صاحبة الصوت الجميل والضحكة العالية التي تصدح بأغنية «بتونّس بيك» كلّما أرادت إرسال إشارات معينة لزميلاتها في المعتقل، و«أم حبيب» التي اعتُقلت مع ولديها وغيرهن. ولكنّ هؤلاء النساء الواهنات المحتملات عذابات تتصدّع لها الجبال وليس الرجال فقط كالجلد والضرب والتعذيب بصعقات الكهرباء وعلاج «الأكزيما» بدواء الجرب والإقامة الفردية في سنتيمترات قليلة عظيمٌ عليها حتى أن تُسمّى بزنزانة، لا يُذكرن في إطار إبرازهنّ كبطلات قادمات من زمن القصص الخيالية وإنما للحديث عن قصصهنّ العاديّة التي تحوي مواقف الحياة المتناقضة من الخوف والقوّة والصمود والتراجع والبكاء والألم والأحلام والأمل...
إنّها قصص وتجارب واقعية عاشتها سهى وكوزيت والأخريات وقرّرن كتابتها على شكل «الأوراق الصغيرة اللاصقة التي نكتب عليها ملاحظات وأموراً يجب ألاّ ننساها»، ذلك لأنّه لم يتسنّ لهنّ تدوين مذكراتهن بالحفر على الجدران كما يفعل السجناء عادةً، كما أنّ هذه الجدران لم تعد موجودة أصلاً بعد تدمير المعتقل خلال عدوان تموز 2006.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024