تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

الدوحة عاصمة العرب الفتيّة

من جديد في الدوحة هذا العام. فما أكثر نشاطات هذه العاصمة الصاعدة بثقة قياسية، ثقافة وعمراناً. والحدث اليوم احتفال قطر بلبنان وثقافته على مدى أسبوع إسوة بالسودان والسعودية وسورية والعراق والهند وموريتانيا ... ولم يكن الإلتزام بفعاليات هذا الأسبوع - الذي تخلّله افتتاح متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني- محتملاً. فقد جسّد الأخير بقلعته المحصّنة بالحضارات رؤية أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني: «من الأهمية بمكان الإسراع بتطبيق الإستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي والتي نراها خطوة في الإتجاه الصحيح لتأكيد الإرادة الجماعية للأمة وسعيها للنهوض من جديد لإستئناف دورها الحضاري والثقافي للتواصل مع الحضارات الأخرى في وقت ظهرت فيه أفكار خاطئة تقول بحتمية الصراع بين الحضارات ونبذ الآخر وعزله. إننا ندعو إلى حوار بين مختلف الحضارات لأنه بغير ذلك الحوار لن تنعم الإنسانية بالأمن والأمان».

الثقافة اللبنانية «موضوعية» جداً في قطر
بعد استضافتها أسابيع ثقافية عربية وعالمية، احتضنت احتفالية «الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010» الأسبوع الثقافي اللبناني. فـ «لا يمكن أن تكتمل الثقافة العربية دون لبنان»، هذا ما يقوله وزير الثقافة والفنون والتراث القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري. فالشقيق الصغير وإن عانى تشققاً سياسياً ومعيشياً نسبياً ودورياً يبقى مبدعاً في جميع أحواله. وكان إبداعه موضوعياً جداً في افتتاح معرض الفنون التشكيلية «تحية من لبنان إلى قطر» الذي ضمّ 45 لوحة لعشرين فناناً لبنانياً ينتمون إلى الحركة التشكيلية الحديثة. لم تنفصل الثقافة عن جمالية المأساة العميقة، بحزنها وتجاوزها وبنقشها وشقائها وبسرياليتها وسرابها... صلاح صولي ولوحة «دون عنوان» تكدّست فيها سيارات بعضها فوق بعض مجسدةً سوء  فن «القيادة» اللبنانية، ويوسف عون ولوحته «فوضى الصمت» التي كثر الحديث عن عنوانها في الدواوين المضطربة حين تضيق العبارة. أما ديما دعد، رئيسة دائرة المعارض في وزارة الثقافة اللبنانية، فكلّلت القدس «عروس العروبة» بالسواد الوسطي المعجون برقش قاني يضيء وزرقة الإطار بخجل التشظي الذهبي الشاحب. أما رفيق مجذوب فيدوّن المغادرة بقسوة الواقع، «لا تنظر إلى الخلف» مصدّقة بأختام الرحيل المستديم.
ومن نفير فني شاهد بريشة إلى أوتار الأمس وملامسة الواقع، انتقل وزير الثقافة والفنون والتراث القطري الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري ونظيره اللبناني سليم وردة إلى مسرح قطر الوطني حيث تألق الموسيقي شربل روحانا. «عبّر عن وطنه بالعربي» واتّحد مع لوحة رفيق مجذوب بأغنيته «فيزا» التي استهلّها بحمد الله. وقد جاد روحانا بعوده (مؤلف منهج جديد للعزف على آلة العود من ثمانية أجزاء) وأنطوان خليفة (الكمان) وعبود السعدي (الباص) وعلي الخطيب (الرّق) وإيلي خوري (البزق) بإيقاعاتهم المشحونة بالحنين والمرصّعة بموشحات أندلسية وذكريات فيروزية.
وإتّسع مسرح قطر الوطني للتراث اللبناني في الليلة التالية، فقد تألق الفنان ناصر مخول الذي عزف على أدوات موسيقية خشبية من صنعه بسطور جبران خليل جبران  فيما «مثُلت الذكرى و«صدى السنين» مع أحمد شوقي، «يا جارة الوادي».... طنبور صيدا وشبّابة صور ومنجيرة النبطية وعنّيزة بيت الدين ومسحور عنجر ومزمار بعلبك وأُرغل زحلة وناي الأرز وبزق بيروت. أما فرقة الفنان يوسف المعقّر، فزفّت التراث بعنفوان وكان السيف والترس نجمين في فلك الفلكلور. وقد سرقت أزياء الفرقة الأضواء حتى من الإستعراض نفسه، الحرير القاني والذهبي الساطع مع دبكة مدينة الشمس بعلبك.
وتتالت العروض اللبنانية التي عصي عليها الإفلات من وهج فيروز النهائي. فمسرحية «بيتك يا ستّي» لفرقة «مسرح الدمى اللبناني» للمخرج كريم دكروب، استلهمت من أغنية فيروز «ستّي يا ستّي»، حزن وشوق «زيّون» لجدّتها وصوت الأمان المنصهر مع لون التين والزيتون و«ريحة الطيّون». الجدّة خلف الجدار الإسمنتي، في عالم منفصل تماماً عن واقع أحفادها الذين تذهلهم تفاحة ويجهلون كائناً يدعى عصفور يغرّد على شجرة مفقودة. إنذار بيئي أضاءه الفنان أحمد قعبور بطرافة الطفولة بسؤال «ساذج» بريء ومنطقي: «طالع عبالي إنسى حالي وصير نجوم، طالع عبالي يا سؤال تروح بعيد ...».
أما مسك الختام، فكان مع الغرّيدة غادة شبير التي تشبّثت كما كل لبناني تألق على مسرح قطر الوطني بفيروز. وقد «لفّ الوجد» الجالية اللبنانية الحاضرة بزخم في الليلة اللبنانية الأخيرة مع أغنية «يا حبيبي كلما هبّ الهوى» التي توقّدت بصوت شبير. ولم  تستثنِ الأخيرة الموشح الأندلسي الأشهر، «لما بدا يتثنى» الذي أسر أداؤه الحضور، كما شدت بصوت ثري روائع الفنان الراحل زكي ناصيف، «حلوة ويا نيالها» و«نقيلك أحلى زهرة». «ولو نعرف نصف أكثر»... وبما أنه «لا يمكن أن تكتمل الثقافة العربية دون لبنان»، فقد كشف الوزير القطري لـ «لها» أن المسرحية الغنائية الرحبانية «ملوك الطوائف» ستكون نجمة الشهر الأخير (العشرية الأولى) من ولاية الدوحة كعاصمة للثقافة العربية.

متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني قلعة محصّنة بالتاريخ ...
من المتحجرات والطوابع التي يسهل للأطفال جمعها إلى أوّل سيارة إسعاف تسير على العجلات ومحْمل عثماني كامل منسوج بخيوط الفضة المذهّبة والمطرّزة بكتابات «خط الثلث» (آية الكرسي)، شيّد رجل الأعمال القطري الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني متحفه في منطقة السامرية، على مسافة 22 كيلومترا من العاصمة الدوحة.
فقد ورث عن أبيه شغف اقتناء التحف النادرة، بعدما خبرت طفولته رحلات إلى أبرز المتاحف والمواقع الأثرية في دول الخليج والعالم. تدريجياً، تطوّر التاريخ وانبعث بحقباته داخل أروقة المتحف، الذي استوحي تصميمه من العمارة القطرية المتميّزة بالأبراج على زوايا المبنى الأربع. لكن المساحة كانت تضيق مع كل قطعة «يغتنمها» الشيخ فيصل، وتبلغ اليوم 1200 متر مربّع تستوعب أكثر من 15 ألف قطعة نادرة.
عام 1998، انتهى الشيخ فيصل من بناء متحفه الحاضر بعصوره في المجلس العالمي للمتاحف، وقد أعيد افتتاحه اليوم لـ «تطوير الفرص الثقافية المتاحة في قطر كمساهمة صغيرة مني لبلدنا الحبيب قطر»، هذا ما يقوله الشيخ فيصل بتواضع.
ويضم المتحف عملات من الحقبة الإسلامية وما قبلها والسيارات الكلاسيكية ولوحات يعود تاريخها إلى العصر الأموي، مروراً بالحقبات المختلفة حتى بدايات القرن العشرين. كما توثق بعض زوايا المتحف قصّة قطر، قوارب الغوص ومعدّات الصيد (الفرضة والريّان) وحاجيات البدو التي تؤرخ ماضي منطقة الخليج العربي. ويحضر الخط العربي  بعظمته مع الحرف المقدّس المرخرف بماء الذهب والزعفران، مخطوط شرح الزمخشري  (خط النستعليق) 1265 هجري ومخطوط كتاب الحواشي مسلم ثبوت الذي كتبه محبّت خان (خط النستعليق المتقن في الهند) ومخطوط القرآن الكريم العثماني بخط النسخ (تركيا، 1246 هجري)... فيما يتألق البرونز مع هاون سلجوقي (العراق، القرن 12 ميلادي) وختم يعود إلى الشيخ مزعل بن جابر بن مرادو أمير عربستان الملقّب بـ «عز السلطنة» آنذاك (1881-1897). ويضم المتحف مجموعة من المصوغات التي ابتكرتها حضارات ما قبل الإسلام خصوصاً البيزنطية. أما المنسوجات، فعصرها الذهبي ازدهر مع الحضارة الإسلامية عبر البيارق المطرّزة والأغطية السلطانية والأثواب المزيّنة بمفردات بيئية.
وللأسلحة الإسلامية المزخرفة بالآيات القرآنية فن قائم بحد ذاته، وقد شكل عرضها مراسم جمعت الشعوب التي تناحرت يوماً، السيف العربي المستقيم والضالع والمقوّس واليماني والحضرمي والعماني والصفوي والمغولي. أما العملات، فتداولها المتحف بوفرة، أولى القطع النقدية التي عرفها التاريخ ومسكوكات ما قبل الإسلام والدراهم الساسانية والدينار الذهبي والفلس النحاسي وعملات الحضارات الأفريقية... ويركن متحف الشيخ فيصل مجموعة من السيارات النادرة والكلاسيكية، أوّل سيارة بمحرّك بخاري انتهاء بسيارات أكثر حداثة من الثمانينات والدراجات النارية والشاحنات ولوحات تسجيل السيارات القديمة. متحف يشهد مئات الوقائع ويوثق حركة التاريخ مساراً ومصيراً وبحيادية، وقياساً بالأحداث يترفع هذا المتحف عن قيمة لعجز تثمينها. هنا تصفّح الحقبات بجولة داخل أروقة المتحف دون قراءة التاريخ... إن كان كذبة كبرى أو فرضية.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079