'درب وسنابل'... يختصر 64 سنة من حياة ديبلوماسي ناجح
«درب وسنابل» عنوان لافت اختاره فوزي صلّوخ لكتابه الصادر حديثاً عن دار المنهل اللبناني، إذ يشي بالكثير من الأمل والتفاؤل والجهد والطموح على العكس من مجمل كتب المذكرّات أو السير التي تحاول إظهار الوجه الأكثر بؤساً وقسوةً وألماً في حياة الكاتب حتى يخرج منها بطلاً خارقاً تمكّن من تجاوز ضراوة الظروف التي جابهته.
فالكاتب استثمر كلّ مخطوطاته القديمة وخطاباته ورسائله وصوره وأرشيفه الذي يختصر أربعة وستّين عاماً من العمل الجادّ والرصين في السلك الدبلوماسي وشرع بكتابة هذه المذكرّات التي قال فيها: «لم يخطر على بالي قط، ولم يدر بخلدي، عندما كنت أجمع نسخاً من تقاريري إلى وزارة الخارجية ومقالاتي في الصحف والمجلاّت ومداخلاتي في الندوات والمؤتمرات، إنّي سأعود إليها وأستعين بها في كتابة مذكراتي. وأكثر من ذلك أنني لم أجرؤ على التفكير في كتابة المذكرّات يوم تسلّمت مهام عملي في وزارة الخارجية والمغتربين، في أوائل العام 1960». ما يعني أنّ مذكرّاته كُتبت نتيجة احتفاظ الكاتب بكلّ أدواتها المُقنعة والموثّقة، وليس اعتماداً على الذاكرة فقط التي من شأنها «المبالغة» بهدف تضخيم الذات مرّة أو «التفادي» لتجنّب أمر ما.
من هنا يُشبّه بعض النقّاد كتابة السيرة والمذكرّات بالمرأة، فهي إمّا أن تكون جميلة وغير شريفة أو أن تكون شريفة وغير جميلة. ولكن هذه المذكرّات موقعّة بإسم دبلوماسي صادق وسياسي نزيه ورجل فكر متميّز طالما شُهِد له بالحكمة والإعتدال من جميع الأطراف حتى وقت ذروة الإنقسام الداخلي. وإذا كانت الحكمة المعروفة تقول: «لا تُصدّق الأقوال... فقط صدّق الأفعال»، فإنّ سيرة صلّوخ الحسنة وأفعاله الصادقة وعدم الجموح في أسلوبه السياسي تُحتّم علينا تصديق ما يقوله لتُصبح مذكرّاته بذلك شريفة في مضمونها وجميلة في لغتها الرشيقة وأسلوبها الأدبي الواضح والمباشر. هذا بالإضافة إلى أنّه حاول كتابة مذكرّاته وفقاً لمعايير هذا النوع الأدبي الجوهرية بعيداً عن الإثارة والتلفيق و«نفخ» الذات ودون إعطاء أهمية تُذكر لرغبات القارئ «الفضائحية». بل إنّه حاول قدر المستطاع الإلتزام بالمعايير الجمالية والأخلاقية والمعرفية «للمذكرّات».
ففي سرده للجزء الأكبر من حياته التي بدأها طفلاً في القماطية ومن ثمّ تلميذاً في الجامعة الأميركية ليختمها سفيراً في بلجيكا لغاية عام 1995، حرص صلّوخ على منح القارئ تنويراً إنسانياً وثقافياً من خلال تكويم المعلومات السياسية والتاريخية والجغرافية والإنسانية المهمّة عن الأزمنة والأمكنة التي عاش فيها، على اختلافها.
لذا، يبدو أنّ فوزي صلّوخ لم يستغّل فكرة كتابة المذكرّات كظاهرة معاصرة ولا كصناعة رابحة في عالم التأليف والنشر اليوم، بل كتبها استجابة للنزعة الأدبية التي تسكنه ربما، و«لأرشفة» مسيرته الطويلة في المجال الذي طالما وجد فيه حلم حياته الأبرز: «كان حلمي أن أعمل في السلك الدبلوماسي، وقد تحقّق هذا الحلم الجميل وكفى».
في العشرة فصول التي تكوّن هذا الكتاب الواقع في 495 صفحة، يروي صلّوخ وفق تسلسل زمني ومكاني منهجيين حكاية صعوده لينتهي عند النقطة المحورية «تقاعده عن العمل الدبلوماسي وعودته إلى لبنان». إلاّ أنّه يُشير في خاتمة كتابه إلى رغبته في وضع جزء ثانٍ يُكمل فيه ذاك الصعود الذي لم ينته إثر العودة والتقاعد كما هو سائد ليرصد مرحلة تسلّمه مهام وزارة الخارجية والمغتربين بتاريخ 19 تموز/ يوليو 2005 ولغاية 9 تشرين الثاني 2009، أي في أصعب الظروف وأحلكها. ارتأى فوزي صلّوخ وضع كتابه تحت عنوان «المذكرّات» وليس «السيرة الذاتية» رغم صعوبة الفصل بينهما، إلاّ أنّه أصاب في اختياره لهذا المصطلح لأنّ كتابه يُجيب بالدرجة الأولى على الشروط الأساسية للمذكرّات التي يُجمع النقّاد على أنها تُعنى بتسجيل الحياة العامّة بكلّ ما تحمله من وقائع وأحداث تاريخية وسياسية وعسكرية وثقافية أكثر من معاينتها للحياة الخاصة وسبر أغوار النفس الداخلية، وهذا ما تكرّس واضحاً في «درب وسنابل». وإنمّا هذا لم يلغ دور هذا الكتاب في كشف صورة فوزي صلّوخ الإنسان المحبّ والمتسامح والمنفتح على الآخر.
فهو في محنة الحرب الأهلية وفي خضّم الأزمة الطائفية المريرة التي كان يمرّ فيها لبنان، استفاد من موقعه كديبلوماسي ومن ثم كسفير في نيجيريا وعمل على تقريب الصلات بين اللبنانيين المسلمين والمسيحيين وساهم في أن يكون للجالية اللبنانية في إفريقيا دور في تهدئة النفوس والأوضاع في لبنان الذي كان ينزف دمعاً ودماً جرّاء تقاتل أبنائه. وفي الصفحة 200 يكتب: «دعوت عدداً من العائلات اللبنانية المسيحية بمناسبة عيد الفصح المبارك. وقد استغرب هؤلاء المدعوون هذه الدعوة، مع أنّهم فرحوا بها وتجاوبوا معها. لكن استغرابهم كان ناشئاً عن المناسبة وأنّها تحدث لأوّل مرّة. وقد تبع هذا الإستغراب استغرابان آخران الأوّل بمناسبة شهر رمضان إذ كنت أدعو عدداً من عائلات الجالية اللبنانية على مختلف طوائفهم إلى حفل إفطار، والثاني بمناسبة عيد الميلاد المجيد حيث كنت أقيم حفل عشاء يضمّ أركان الجالية على مختلف المذاهب والمشارب. لقد جعلت من هذه المناسبات تقليداً رافقني طوال عملي الدبلوماسي، ولم أتخلّ عنه حتى في أحلك الظروف التي كان يمرّ فيها لبنان.
وقد ظلّت أبواب مكاتب السفارة وسكنها مشرعة تستقبل الزائرين بموعد ومن دون موعد خلال السنوات الست التي قضيتها في لاغوس...» (ص200 ). كما تعرّفنا أيضاً عبر هذه المذكرّات إلى جانب آخر من شخصية صلّوخ المحبّ للمرأة والمقدّر لحقوقها ومكانتها ودورها في بناء مجتمع سليم. كما أنّه يعترف بالدور الكبير الذي لعبته المرأة في حياته المهنية من خلال مساندة زوجته هند التي نعتها ب«سيّدة الدار» مرّة و«شريكة حياتي» مرّات أخرى... كما أعاد نجاحه في عمله الدبلوماسي إليها عندما قال: «الدبلوماسي الناجح وراءه إمرأة ناجحة، رصينة، مثقفة، كريمة، مضيافة، فاعلة خير، محبّة، متواضعة، تعرف حدود حقوقها وواجباتها، مكمّلة لزوجها الدبلوماسي في خدمة الوطن والمواطنين... وإنّ لقرينتي هند دوراً فاعلاً في حياتي وعملي الدبلوماسيين وفي صنع هذه المذكرّات وأحداثها والتشجيع على كتابتها»...
«درب وسنابل» كتاب مذكرّات مفيد يُزاوج بين المصداقية والجمالية الأدبية ويكشف عن سيرة حياة أبطالها: «الطموح والجهد والصدق والأخلاق الحميدة»...
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024