تشيخوف على المسرح...
ليست روسيا وحدها المعنية بالإحتفال بذكرى ولادة مبدعها الكبير تشيخوف المئة والخمسين، إنما العالم كلّه يحتفي بهذا العملاق الذي يحضر يومياً في حياتنا من دون أن تكون هناك ضرورة لإقامة ذكرى وفاته أو ولادته. هذا لأنّ المبدع الحقيقي هو الذي يموت موتاً بطولياً، فلا يزيده غيابه إلاّ حضوراً أكثر قوّة وبريقاً. ويُعدّ تشيخوف من أولئك الذين لم تختفِ
صورتهم الفكرية والإنسانية في ركام النسيان، بل إنّ الأعوام والعقود التي مرّت كرّست إسم تشيخوف الذي رحل باكراً تاركاً للإنسانية جمعاء إرثاً أدبياً لا ينضب.
وتقديراً لعطاءات هذا الكاتب الذي استطاع أن يكون صورة موسكو والكرملين والساحة الحمراء في كلّ عمل فنّي خالد قدّمه، قرّرت روسيا الإحتفال بذكرى ولادة تشيخوف على مدى سنة كاملة تقوم خلالها بإعادة تقديم نصوصه المسرحية على الخشبة وإصدار طبعات جديدة من أعماله، فضلاً عن تحضير لقاءات وقراءات تخصّ أدبه الغنيّ في المسرح والرواية والقصّة القصيرة. وأبدى العالم كلّه رعايته لهذه الإحتفالية التي لا تخصّ شعباً معيناً بل تخصّ عالماً كاملاً محوره «الإنسان»، هذا لأنّ تشيخوف لم يكن يُصوّر الحياة أو المجتمعات التي تُحيط به فحسب وإنما كان يرسم حياة الإنسان في كلّ زمان ومكان. أمّا هدفه الأوّل من الكتابة فكان حثّ الناس على التأمّل العميق في تفاصيل حياتهم التافهة أحياناً والمملّة في أحيانٍ أخرى أيضاً لإيجاد حياة جديدة أفضل لهم. من هنا يقول تشيخوف: «لا يرتقي الإنسان إلاّ عندما يلمس بيده حقيقة الحياة التافهة التي يعيشها».
حياة تشيخوف: «الطب زوجتي والأدب عشيقتي»
ولد أنطون بافلوفيتش تشيخوف في ميناء محلي صغير على بحر أزوف يسمى تاجنروج جنوب روسيا عام ١٨٦٠، وكان الإبن الثالث بين ستّة أبناء لوالد قاسٍ وصفه تشيخوف في مذكرّاته بالقول: «بدأ والدي بتعليمي، أو بمعنى آخر بدأ يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري. وكان أوّل ما يخطر في بالي عندما أستيقظ في الصباح هو هل أنني سأُضرب اليوم؟» وفي استذكار طفولته كتب: «لم أنعم بأيّ طفولة في طفولتي».
عمل تشيخوف ليلاً في دكّان والده وكان يقضي لياليه بمراقبة الناس والمارّة الذين يقصدونه أحياناً ويُخبرونه قصصهم، فكان يُدوّنها في رأسه حتى أنّ أهالي القرى هؤلاء صاروا بعد ذلك أبطال قصصه القصيرة. ولكن إحساساً قوياً كان يُساوره بأنّه سيُصبح مهماً في حال غادر قريته الباردة والمملّة. وهذا ما حصل معه بعد أن انتقل إلى موسكو ودرس الطبّ في جامعاتها، وبدأ بالكتابة في بعض الصحف والمجلاّت بأسماء مستعارة. ولأنّ الكتابة ظلّت تكبر في نفسه، كتب أوّل أعماله المسرحية «ايفانوف» الذي لم يلق التجاوب الكبير من الصحافة، فغادر عام ١٨٩٠ إلى جزيرة ساخالين عن طريق سيبيريا حيث راح يعالج المرضى والمساجين الذين يعيشون ظروفاً قاسية، وهناك كتب «التراجيدي رغما عنه» و«عرس».
ومن ثمّ توالت أعماله في المسرح والقصّة القصيرة إلى أن أصبح سريعاً واحداً من أهمّ كتاب روسيا والعالم، كما أدخل القصّة القصيرة كنوع أدبي جديد في روسيا التي كانت تُعرف حينها بأنها «نجمة الرواية الطويلة» في وجود ثلّة من كبار الروائيين أمثال تولوستوي وغوغول ودوستويفسكي. أمّا خصائص كتاباته المسرحية والقصصية فتُختصر بالصدق والواقعية والبساطة والإيجاز، وهذا ما جعله أقرب إلى القرّاء الذين كانوا يجدون في أعماله انعكاساً لقصصهم وحيواتهم. من هنا وصفه ستانيسلافسكي: «على الرغم من أنّ تشيخوف يصوّر ظاهرياً الحياة اليومية العادية إلا أنه في الحقيقة لا يتناول الأمور العابرة أو المحدودة حين يطرح تلك القضايا التي تتعلق بالإنسان أينما كان. فالإنسان في الواقع هو الفكرة الروحية المهيمنة التي تتكرر في كل مسرحياته».
أمّا النجاح الكبير الذي حصده باكراً فلم يُغيّر في شخصيته ولم يلغِ بساطته وتواضعه، فكان طبيباً يُعالج الفقراء والمحتاجين مجاناً لأنّه لا ينظر إلى مهنته سوى أنّها خدمة إنسانية. وكان تشيخوف يقول في هذا المقام: «أشعر بتيقّظ ونشوة أكبر حين أدرك بأنني أمتلك مهنتين وليس مهنة واحدة. فالطب هو زوجتي الشرعية، أما الأدب فهو عشيقتي. وحين أملّ إحداهما فإنني أتوجه إلى الأخرى».
وكانت قصة «العروس» آخر ما كتب أنطون تشيخوف بعد مجموعة كبيرة من القصص التي لا تُنسى مثل «المرأة والكلب الصغير»، «الصيدلية»، «الخوف»، «مملكة النساء»... أما آخر مسرحياته فهي «بستان الكرز».
توفيّ أنطون تشيخوف عام ١٩٠٤ عن ٤٤ عاماً قضاها بين معالجة أبدان الناس من خلال مهنته كطبيب وبين معالجة أرواحهم وحيواتهم وأقدارهم في عمله ككاتب ومفكّر كبير.
من أعمال أنطون تشيخوف
في المسرح: «النورس»، «عمّي فانيا»، «الأخوات الثلاث»، «بستان الكرز»...
في القصة القصيرة: «الألم»، «الخوف»، «الزائر»، «نهاية ممثّل»، «الرهان»، «التلميذ»...
في الرواية: «الصيد المأساوي»، «السهوب».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024