زاهي وهبي في راقصيني قليلاً
الكتاب: «راقصيني قليلاً»
الشاعر: زاهي وهبي
الناشر: «الدار العربية للعلوم ناشرون» و«منشورات الإختلاف»، ٢٠٠٩
هو العاشق المتيّم والزوج المحّب والأب الحنون والصديق الوفيّ... هكذا يظهر الشاعر زاهي وهبي في ديوانه الجديد الصادر عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» و«منشورات الإختلاف» في سياق الإحتفال ب«بيروت عاصمة عالمية للكتاب». فالديوان الذي يحمل عنوان «راقصيني قليلاً» هو ردّ اعتبار لكلّ القيم الجميلة والمشاعر الصادقة التي نفقدها يوماً بعد يوم في زمن أقلّ ما يُقال عنه إنّه زمن الغياب، زمن يغيب فيه الوقت وبالتالي كلّ شيء آخر: «العشّاق يسقطون من الأغاني/يتبادلون الـ «SMS» وقُبل الوداع/ العشّاق على عجل.../لا وقت لرصيف يعانق المارّة، لنسمة تلفح وجنة الغريبة/ لا وقت للوقت/ الأيام قطار كهربائي سريع/ العشّاق يتعارفون على الـ Face Book/ يلتقون في تلفزيون الواقع».
الشاعر بأسلوب تهكمي يُعلن رفضه للإنصياع في حياة جامدة لا مشاعر فيها ولا أحاسيس تحت سياسة مفروضة علينا تُسمّى «العولمة». فهو بذلك يُعيد الإعتبار إلى الفطرة والطبيعة والذات، لذا نلحظ انحيازه الواضح في قصائده إلى الطبيعة، فنراه يتوحّد معها حتى يُخيّل إلينا أنّه هو جزء منها أو هي جزء منه. ففي «نجمة الضغينة» يصف نفسه بالطفل الذي أفزعته الغيوم والعاشق الذي أنبته الرعد، وفي قصيدة «لنغيّر الإيقاع» يدعو الريح إلى العشاء ويُراقصها كما يرى في نفسه الشمعة والفراشة والرماد والطين الحنون على باطن البلاد. إنّه يثور على هذا الزمن بكلّ ما يحمله من معانٍ لاإنسانية شاهراً أسلحته بثقة المحارب المنتصر، فيُجابه العنف بالرقص والقصف بالغناء والقمع بالحرية والحرب بالحب والجفاء بالوفاء والعولمة بالعودة إلى الفطرة...
الشاعر هنا يبدو مثقلاً بهموم هذه الحياة المدمّرة حقيقةً ومجازاً، فلا نراه يعمل على ترميم ما هو مُدمّر بل إنّه يزيد تفكيك الأشياء المفكّكة أصلاً من أجل إعادة تشكيلها بالصورة التي يراها الأمثل. لذلك نرى أنّه يتغزّل بالقُبح لا بالجمال وبالشيخوخة لا بالشباب، فالشاعر يستبق الزمان متخيّلاً زوجته بعد مضي الأعوام ليُقول إنّه سيراها غداً أجمل وسيُحبّها أكثر لأنّه لا يرى الأنوثة بالصورة المنمّطة عنها: «أنوثتك ليست شكلاً/ ولا فستان سهرة/ أنوثتك قلب يفيض».
يُقاطع الشاعر النظم الإجتماعية والسياسية الزائفة ليخلق لنفسه عالماً مغايراً يعلو فيه صوت الموسيقى وراية الحب: «لنرفع صوت الموسيقى/ أعلى من نجمة الحرب، من هدير الفولاذ» و«أعيريني خصرك/لأثير حنق الكمنجات/ لماذا أنفلونزا الطيور؟/ لمن جمرة الخبثاء؟/ لا إكراه في الحب/ لا ضرورة للدماء...».
إذاً، تحت كلّ الهدوء الذي يطغى على ديوان زاهي وهبي الجديد يختبئ صخبٌ كبير يتجلّى في تمرّد الشاعر على كلّ المعايير السائدة في زمن لا يُشبه الشاعر ولا يرضيه.
إلاّ أنّ وهبي لا يكتفي بالتطرّق إلى الموضوعات الكبرى والمشاكل الإنسانية الشائكة، بل إنّه يلبس رداء «الحكيم» لينشر حكمته بين الناس من أجل دفعهم باتجاه خلق عالم أفضل يُبنى على أساس الحب والتواضع والمُشاركة. فنراه في قصائد مثل «سرّة من عدن» و«أرمي صوتي، أرفع صوتك» ينشد ضرورة الإتصال مع الآخر، وفي «أكثر منك» يسخر من غرور الإنسان الذي يتكبّر على أخيه الإنسان وهو يعلم أنّه لن يخرق الأرض ولن يُخلّد في هذه الحياة: «من يُعمّر أكثر منك؟ ساعة اليد/ ساعة الحائط/ بدلة العرس أو بدلة الحداد/... من يُعمّر أكثر منك؟/ القصيدة التي تكتبها الآن/ القصيدة التي تقرؤها الآن.../ كلّ شيء يُعمّر أكثر منك تقريباً/ علام إذاً تتكبّر وتتجبّر/ تعلو فوق جاذبية التراب/ تشنّ الحروب والغزوات...».
ويظهر زاهي وهبي الوفيّ للفطرة الإنسانية العفوية وللمشاعر الحسيّة والعاطفية الحقيقية ولعائلته وزوجته وفيّاً أيضاً لأصدقائه الذين تذكّرهم في قصيدتين مؤثرّتين، الأولى كتبها على إثر تعرّض صديقه الكاتب بول شاوول لأزمة قلبية ووضعها تحت عنوان «سجائر بول شاوول» والثانية بعد رحيل محمود درويش الذي سبق أن كتب له قصيدة «تليق بك الحياة». وفي «أقلام محمود درويش» يتوجّه إلى الصديق الغائب والشاعر الحاضر ويرثيه قائلاً: «صعبٌ عليّ الغناء وحيداً/ صعبٌ عليّ البكاء/ دمعتي حجر/ وجهي سقط متاع/ لكن الورد في لغتي/ كذلك العشّاق/ أستعير من قصيدتي قمراً/ من امرأتي طرحة ومواعيد/ لأزفّك لغدك/ وما أدراني بما أدراك.../ ماذا كنت لتفعل لولا المجاز/ كيف كنت لتُرضي عاشقةً في مصر/ وأخرى في الحجاز/ ماذا لو لم تكن شاعراً/ أكنت عرّاف نفسك/ قارئ كفّك وكفّ البلاد...».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024