عندما تستجوب غادة السمّان...
الكتاب: «ستأتي الصبية لتعاتبك»
الكاتبة: غادة السمّان
الناشر: «منشورات غادة السمّان»، ٢٠٠٩
لا شكّ أن النظام الرأسمالي وسياسة العولمة جعلانا نعيش اليوم عصر الدعاية والتسويق حيث صارت الغلبة للكلام على حساب الأفعال، وباتت الإزدواجية سمة الوجوه والطباع والألسن... أمّا اللقاء بصاحب الحديث العذب والكلام الصريح والحُكم الصحيح فصار أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، إلاّ أنّ الكاتبة السورية غادة السمّان أبت إلاّ أن تخلق لكلّ محبيّها ومحبّي الأدب والفكر والكلام الجميل فرصة التمتّع في زمن الصخب والثرثرة والأقنعة بلحظات هادئة تسطو فيها اللغة الراقية على الركيكة والنبرة الواضحة على المرتبكة والفكرة العميقة على الساذجة والآراء الثورية على الخانعة والألوان النارية على الباهتة...
ففي كتاب «ستأتي الصبيّة لتعاتبك»، وهو الجزء السابع عشر من سلسلة «الأعمال غير الكاملة» والتي تضم كتابات لغادة السمّان لم يسبق أن نُشرت في كُتبها، تُعيد الكاتبة جمع الحوارات التي سبق أن أُجريت معها في أكثر من مجلّة وصحيفة من مختلف الدول العربية منذ بداياتها المبكرة وحتى قبل إصدارها لكتابها الأوّل: «عيناك قدري».
أهدت الكاتبة السورية، التي شغلت بأدبها وشخصها أقلام النقّاد وأذهان القرّاء، هذا الكتاب الذي وضعت له عنواناً فرعياً «بدايات زمن التمرّد» إلى الصبيّة التي كانتها يوماً، والتي تأتي باستمرار لتحاسبها كي لا تخون أحلامها وتمرّدها وجموحها. وتستهّل السمّان كتابها من خلال عرض جزء من أولى المقالات التي كُتبت عنها عام ١٩٦٠ في جريدة «الكفاح» تحت عنوان «من أخبارهن في دمشق»: «غادة السمّان... قاصّة جديدة بدأت تبرز في الأوساط الأدبية... أوّل قصّة كتبتها عنوانها «ذبابتان»... قال عنها أديبان معروفان: إنّها قصّة تدلّ على أصالة أدبية متمكنّة. غادة لم تنشر شيئاً حتى الآن». ومن ثمّ تستعرض الحوارات والمقابلات التي جرت بينها وبين رفاق القلم مثل غسّان كنفاني ومطاع صفدي وسرّي ياسين وناديا شعبان ورياض شرارة ومحمد بديع سربيه وياسين رفاعية ومفيد فوزي ومريم شقير أبو جودة وابتسام عبدالله وزينب حمّود وغيرهم...
وأدرجت كلّ هذه الحوارات تحت عنوان «استجواب»، إلاّ أنّها وضعت استجواب بيار أبي صعب لمجلّة «زوايا» عام ٢٠٠٢ بمثابة خاتمة الكتاب، إذ طلب منها الصحافي كتابة رسالة إلى غادة الصبيّة وفيها توجهت بصراحة وصدق إلى الشابة الصغيرة التي كانت بالقول: «(...) لا تزال صلتي بك يا غادة حميمة، فلم تكن مغامراتك العاطفية على كثرتها مفتاح عمرك، بل كانت الكتابة مغامرتك الحقيقية السريّة الداخلية (...) كنت تركضين إلى حياتك مفرطة جريئة، كنت تتعلمين كيف تعيشين. وأنا الآن أتعلّم كيف أموت، بالكتابة أيضاً، ولذا استطعنا البقاء صديقتين (...) عملت تحت إمرتك، وكلّما صدرت ترجمة لأحد أعمالي في لغة جديدة تسخرين مني وتقولين: تشرّفنا. بوسعهم الترجمة بعد موتك، أين كتابك الجديد التالي؟ وتُعيدينني إلى طاولة الكتابة. معك عرفت أنّ مأساة الأدباء ليست حقاً في فراق شبابهم، بل في عجز بعضهم عن ذلك. فماذا تُريدين مني الآن، بعدما تحولت من امرأة إلى رف في مكتبة بلغات عدّة؟ ألم يحن وقت رحيلك عنّي على قارة الذاكرة النائية، لأستمتع أخيراً بما حققته، ككلّ المحاربين القدماء الذين يحلمون بالتقاعد؟».
هذه الرسالة المؤثرة التي تعجّ بالمعاني الإنسانية والإبداعية ليست سوى انعكاساً للعنوان الرئيسي الذي اختارته السمّان لكتابها «ستأتي الصبية لتعاتبك» وتكريساً لتميّز شخصية غادة السمّان التي برزت منذ «عيناك قدري» (١٩٦٢) كأنثى ثائرة ومتمرّدة وموغلة بأنوثتها أيضاً. أمّا «منشورات غادة السمّان» التي تهتم دوماً بإعادة نشر كتب السمّان وسلسلة «الأعمال غير الكاملة» فتستحق فعلاً الإشادة الصادقة بعيداً عن معاني المديح والمغالاة الزائفة لأنّها تُقدّم خدمة حقيقية إلى كلّ الوطن العربي بأجياله الصاعدة وقرّائه المخضرمين فرصة الإطلاع على أهم التحف الفنية التي تُزيّن خزائن غادة السمّان الأدبية الثرية والتوغّل في عالم هذه الشخصية الغنية التي دخلت ذاكرة الأدب العربي من خلال أجمل الأعمال الروائية وأهمها.
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024