'في البدء كان المثنى'
يُعيد كتاب الناقدة المعروفة خالدة سعيد «في البدء كان المثنى» فتح قضية المرأة ووجودها من جديد بعد أن توقفّت نسبياً الأقلام التي فاض حبرها خلال القرن الماضي في رصدها من خلال الكتب والروايات والأبحاث والمقالات... حتى أنّ الكاتبة تعلّق في الفصل الثاني من الكتاب «المرأة العربية: كائن بغيره لا بذاته» على هذه المسألة باعتبار أنّ هناك من سيتساءل عن سبب اختيار مسألة «وضع المرأة» وقد قد فات زمن البحث فيه بعدما كان موضوع عصر النهضة الأثير وظلّ قرناً كاملاً على طاولة بحثهم. لذا تستبق الكاتبة أسئلة القرّاء والنقاد وتجيب بأنّه «يُمكن أن يصطدم البحث في وضع المرأة بعدّة اعتراضات... على هذا يُمكن الردّ بأنّه ما لم تتحقّق للمرأة المساواة التامّة على الصعيدين القانوني والواقعي، وما لم يتحرّر الناس (رجالاً ونساءً) من الأفكار المسبقة عن المرأة(...)، وما لم تُصبح البنى الإجتماعية مهيأة لانطلاق شخصية المرأة وتفتحّها في مناخ من الحريّة ومن احترام الشخص الإنساني، بعيداً عن كلّ تمييز واضطهاد بسبب الجنس أو العرق كما جاء في بيان حقوق الإنسان، ما لم يتحقّق هذا كلّه، ستبقى هذه القضية مفتوحة».
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ كتاب خالدة سعيد الصادر حديثاً عن «دار الساقي» لا يطرح موضوع المرأة في الشكل النظري المتعارف عليه، وإنما يُقدّم عملاً نقدياً منهجياً يبحث في وضع المرأة داخل مجتمعها العربي وكيفية تطور وضعها في العالم وبحسب التغيرات السياسية والإجتماعية. ففي مدخل الكتاب الواقع في ٢٧٦ صفحة من القطع الكبير تحدّد سعيد محاور كتابها وخطط دراستها النقدية هذه حول وضع المرأة المتدني، فنراها تشرح الأسباب والخلفيات والنتائج بنبرة جديّة لا تخلو من الجرأة والجسارة.
إنّها تبدأ بكشف التفوّق التاريخي للرجل من خلال رصد ظاهرة تحكّم المذكّر بالمؤنّث الموجودة في اللغات قبل الأديان والقوانين، وتُسمّيها ب«إرهاب المذكّر الذي يستبدّ بالمؤنّث». وتُدخل الكاتبة (المُشكّكة أصلاً في صحة القيم والقوانين التي أبرمها الذكور) كلّ الأفكار المسبقة تحت مبضع التشريح، فتُحلّل النصوص التأسيسية للأديان والأحاديث المتوارثة والروايات والأساطير دون أن توفّر أي حجة أو مثال علمي واضح يدعم رأيها ويُعزّزه. فتعود مثلاً إلى نصوص الأناجيل لتُضيء على الفوارق الجوهرية بين مواقف المسيح من النساء وموقف الرُسل(في المسيحية) ثمّ اللاهوتيين الذين أتوا بعده. ومن ثمّ تستشهد ببنت الشاطئ عندما ردّت في كتابها على عباس محمود العقّاد: «لا اختصاص للمرأة بالخطيئة ولا بالنار في النصّ القرآني، بل لا وجود لاسم حوّاء في القرآن الكريم».
وكذلك تُفنّد خالدة سعيد القوانين الدولية التي ساهمت في إضعاف دور المرأة وثقلها والإنتقاص من أهمية وجودها وبالتالي حقوقها. فتشير إلى الجرم الذي مارسته الأنظمة السياسية والملكية الأوروبية والثورة الفرنسية أيضاً في حق المرأة لتدوّن ملاحظة مهمة تكمن في أنّ الوضع المُهمّش الذي عاشته وتعيشه المرأة لم يكن منحصراً في درجة التخلّف والتقدّم العلميين كما أنّه لم يكن تابعاً فقط لخصوصية الدين.
وتستعرض تأكيداً على ذلك مُقاربات حول وضع المرأة في مختلف العصور والحضارات، فتقول على سبيل المثال لا الحصر «مكانة النساء عند عرب الجاهلية (من بدو وحضر) كانت أرفع بما لا يُقاس من وضع النساء المعاصرات لهنّ في بلدان أعظم حضارة كالهند والصين وفارس وبيزنطة، كما كانت أرفع حقوقيّاً ومكانة قياساً إلى وضع النساء في ذروة العصر العباسي باستثناءات قليلة تمثّلت في أمهات الخلفاء، وكذلك قياساً إلى ذروة العصر العثماني، يوم كانت دولة الخلافة العثمانية واحدة من أعظم دول ذلك العهد».
وكذلك تصف الكاتبة كيف أنّ النظام الرأسمالي شجّع على تكريس صورة المرأة- الجارية أو المرأة- السلعة أو المرأة الآلة الجنسية وكيفية تسهيل وسائل الإعلام لهذا النوع من الإستغلال تحت غطاء مزيّف اسمه «تحرير المرأة».
تستهلّ سعيد فصول كتابها الستة بفصل خاص عن قاسم أمين الذي دعا إلى تحرير المرأة بهدف تحرير الإنسان والذي قرّر في أصعب الأوقات وأحلكها الخوض في معركة من شأنها تحسين وضع المرأة وتطويره مستضيئاً بالعقل والعلم والتاريخ. فتستعيد ست مقالات تُضيء فكر أمين وفلسفته ومنهجه في إدارة معركته من خلال إقامة التوازن بين العلم والدين فتقول: «إنّ قاسم أمين الذي يُعالج موضوعاته معالجة علمية، يحرص باستمرار على أن تكون نتائجه مقبولة من وجهة النظر الدينية، فلا يقع في تناقض مع الدين ولا ترتفع في وجه دعوته الإعتراضات التقليدية متذرّعة بالدين». وفي الفصول الثلاثة الأخيرة تناولت الكاتبة دراسات حول تجارب نساء متميزات ولامعات في مجال الأدب والشعر والفن والنحت من أمثال لور مغيزل وفاطمة المرنيسي وسعاد الحكيم وروز غريّب ومي غصّوب وأندريه شديد وناديا تويني وسحر خليفة...
ورغم أنّ الكتاب يبدو من خلال العرض السريع لفصوله مجرّد احتفاء بالمرأة وإنجازاتها وخصوصية تجربتها، إنّما هو في الواقع ليس سوى دراسة نقدية معمقة وموضوعية عن واقع المرأة العربية بعيداً عن النزعة «النسوية». فالمسألة هي مجرّد إعادة طرح صورة الإنسانية الأصلية التي وُجدت بعد لقاء الجنسين معاً. والهدف الجوهري من الكتاب يتكرّس جليّاً من خلال العنوان الرئيسي الذي يرمي إلى أنّ الخالق أنصف المرأة عندما أوجدها معه وجعلها شريكة الرجل الأساسية.... وجميعاً يُدرك حقيقة أنّه «في البدء كان المثنى».
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024