الشاعر طلال حيدر بقصيدته العابرة... كالطيور
القصيدة هي الوعي الذي يرسم جمال الإنسان والحياة. ومهما تنوع الشعر، وتبلورت القصيدة واتجهت، شكلاً ومضموناً، تبقى منارة يهتدي بها كل إنسان، إلى نفسه وإلى العالم. فكيف إذا كانت القصيدة نابعة من أعماق العيش والروح؟ وكيف إذا كان الشعر هو اللغة-المرآة للإنسان؟
الشاعر اللبناني طلال حيدر الذي كتب الشعر بالمحكية اللبنانية ووصل بها الى أوسع مدى، هو واحد من الشعراء الذين أغنوا القصيدة باللغة والصورة والمعنى والدلالة. فمعظم ما كتبه من قصائد بالمحكية ذاع صيته وانتشر في مساحة الحياة ولم يستقر في خصوصية أخيرة، إنما استمرت قصائده وتواصلت ووصلت الى أوسع مدى، وكأنها لم تكن للقراءة فقط. وإن كانت قراءتها محفوفة بالمخاطر الجميلة، لكن هذه القصائد تحركت وتمركزت في الجوهر، في العمق الإنساني، في الذوق الرفيع، في أصواتٍ ساحرة مثل صوت السيدة فيروز التي غنتّ أجمل القصائد التي كتبها طلال حيدر، وقصيدة «وحدن» التي لحّنها زياد الرحباني، أو قصيدة «يا راعي القصب» وسواها... أو ما حمله صوت الفنان مارسيل خليفة من قصائد كثيرة للشاعر، وقصيدة «قومي طلعي عالبال» التي ما زالت تتردّد على مسامع الجمهور. كذلك الفنان الكبير وديع الصافي والفنانات ماجدة الرومي وجاهدة وهبي وأميمة الخليل وسواهم، أنشدوا من قصائد حيدر، وكانت هذه القصائد بمثابة اللحظة التي تنشد الاستقرار النفسي والجمالي للإنسان. كما كتب الشاعر مسرحيات غنائية مثل مسرحية «فرسان القمر» لفرقة كركلا... ويطول الكلام على إنجازات القصيدة التي كتبها طلال حيدر بالمحكية اللبنانية، وهي بحق جديرة بالذوق الرفيع الذي يخاطب الزمن بكل تنوعاته، فيكفي أن نذكر ما كتبه في إحدى قصائده حتى نهدأ ونسترسل في الخيال، ونمارس الدهشة: «هيّ/متل شي خط بريشة قصب/وهو/متل حرف العرب/مرفوع بالضمّه/منصوب بالفتحة/وبالفتحة هرب/بس يكترو بباله/بيصير واو ونون/وبس يسكن بحاله/بيصير همزه/أو بيصير سكون...».
شاعرنا الذي أصدر العديد من الكتب الشعرية، ومنها» آن الأوان» و»سرّ الزمان» وسواهما من كنوز الشعر، يتحدث عن الشعر ويقول:
● «الشعر هو الحياة، وهو النغمة التي تُطرب الروح وتعطي العمر مذاق السعادة. الشعر مجد الإنسان والحياة، ويبقى هو اللحظة التي تمنح صاحبها خصوصية لا يمكن الوصول إليها بسهولة. الشعر اليوم وغداً كما كان سابقاً، هو الفرحة الكبرى والسعادة التي تعطي الكثير للحياة نفسها وتجعلها أكثر حضوراً في البهجة. الشعر هو الإنسان».
- وماذا يقول الشاعر اليوم عن القصيدة بالمحكية اللبنانية؟
«المحكية هي الكلام الذي نرسم به الحياة كما نحسّها، وتبقى المحكية هي اللغة الناطقة باسم الأشياء، وهي وعاء الكلام والشعور الذي يمكننا من خلاله احتواء الحياة أكثر. المحكية اللبنانية هي اللغة التي نطل منها على العالم ونرى معها وبها أكثر. المحكية اللبنانية بخير والحمد لله».
- لماذا اختار الشاعر الكتابة بالمحكية؟
لم أختر المحكية، بل هي التي اختارتني. أنا أكتب القصيدة، وليس ضرورياً أن نتوقف عند شكل القصيدة، المهم أن نعرف كيف ندخل الى القصيدة، وحين ندخل لا يهم التوصيف أو حصر الصورة بسؤال اللغة والشكل. القصيدة قصيدة، كيفما كُتبت وبأي شكل ظهرت، المهم أن تولد القصيدة والباقي تفاصيل. كتابة القصيدة أهم من كل شيء، فالقصيدة هي التي تخلق اللغة والشكل، وكل قصيدة تخلق لغتها معها.
- ألا ترى أن المحكية هي الأقدر على القصيدة وإخراجها الى حيّز الشعر؟
قلت دائماً إن القصيدة هي التي تلد اللغة. هناك شعر وقصيدة، ومن ثم يمكن التحدّث عن اللغة التي نكتب بها. كل الأهمية تعود الى القصيدة، لأنها تخرج من الروح، من أعماق الذات والأحاسيس التي تتحرك في جوانية الحياة والإنسان. وحين تكون هذه الأحاسيس فوّارة أو مشتعلة أو هادئة أو متألقة، فهي تؤسّس للشكل والمجرى الذي تسير فيه ومن خلاله. القصيدة لا تحتاج الى لغة بمقدار ما أنها تبتكر اللغة. وكلما تأجّجت نار القصيدة، كانت أكثر قدرة على بلورة اللغة وسحبها الى القامة أو الهيكل أو الإطار.
- ولكن رغم ما تفضّلت به، تبقى المحكية أكثر انتشاراً ووصولاً الى الشرائح البشرية. ألا يدل هذا على قدرة المحكية على الشعر والشاعرية أكثر من سواها، وأقصد اللغة الفصحى؟
لا شك في أن المحكية حاضرة أكثر في المتداول، وهي تحمل الكثير من بذور القصيدة والشعر. ولكن لكل محكية أو عامية خصوصية داخل الشعر والشاعرية، ورغم ذلك لا يمكن مقارنتها بالفصحى أو باللغة الأخرى. لكل قصيدة خصوصيتها وهمومها وجماليتها ومقاربتها مع الحياة، وبالتالي تنتج القصيدة إطارها وفق معاييرها الخاصة. ومن هنا لا تجوز المقارنة بين لغة وأخرى ضمن إطار الشعر والقصيدة.
- هل كتبت شعراً بالفصحى؟
نعم كتبت بالفصحى، ولي قصائد باللغة الفصحى، ولكن المحكية اللبنانية تغلب على كتاباتي، وهذا يعود الى علاقتي بالقصيدة التي قادتني الى المحكية.
- كتبت الحياة البسيطة في أشعارك، كما كتبت الأفكار التي تخاطب الزمن والإنسان والمرأة... ماذا تقول قصيدتك اليوم؟
كتبت الكثير عن الحياة والإنسان والمكان والزمان، وما زلت أكتب عن الحياة بكل ما تحوي من أزمنة وأمكنة وناس. الكتابة عندي هي نشاط يُساهم في رسم الصورة على أصولها. وهذه الركائز في الكتابة والقصيدة قائمة ومستمرة، وتأخذ أشكالاً وألواناً في مسيرتها المتنامية، وفي كل مرحلة تتحرك الكلمات وفق أصول معناها وتسعى للاستقرار في مساحة المعنى الجديد والمتجدد... قصيدتي هي حالي وأحوالي ومكاني وزماني وناسي وعادات أهلي ومساحة إقامة لكل أسئلتي وأفراحي وأحزاني. قصيدتي هي بحر حياتي التي أسبح فيها وأغوص في أعماقها وأنتشل منها كل جديد وكل ما يُساهم في بناء الوعي الذي لا يمكن حصر حدوده أبداً. القصيدة بالنسبة إليّ هي الصدق في الحياة للوصول الى ما هو أبعد وأعمق وأجمل وأرقّ وأرقى.
- كتبت المرأة وتغزّلت بها، ماذا تعني لك المرأة؟
المرأة هي الحياة، وهي القصيدة، وهي الزمن الذي يمكننا التعرّف من خلاله على الحياة أكثر فأكثر. المرأة في قصيدتي هي عنوان الفرح والوجود، وهي في الأصل الملاذ الذي يعطينا السعادة حين ننشدها أو نستحضرها في أوقاتنا، علماً أنها هي التي تستحضرنا كلما أوغلنا في استحضارها أو الوصول إليها.
- هل تتميز القصيدة إذا خاطبت المرأة؟
المرأة والقصيدة يتناوبان على التميّز، فكيف نفرّق بينهما؟ المرأة قصيدة، والقصيدة امرأة.
- كيف تفسّر حضور قصيدتك في الأغنية، خصوصاً أن أجمل أغاني السيدة فيروز ومارسيل خليفة وسواهما كانت من كلماتك؟
لا يمكن القصيدة أن تقف عند حدود كتابتها فقط، بل هي مستمرة في الصوت واللحن. وحين يُعانق اللحن قصيدتي، فهذا يؤكد أنها قصيدة مقطوفة من أرض الحياة.
- من هو أهم شاعر بالمحكية اليوم؟
عندما يولد شاعر في الحياة، تتغيّر الدنيا وتتحول الحياة باتجاه خاص وخصب.
- يعني...
الشعراء قلّة، وحتماً هناك أهم شاعر.
- وماذا عن الحب في حياة الشاعر وقصائده؟
الحب هو الأساس في كل فعل ونشاط نقوم به في هذه الحياة، وإذا تغير المشهد وذهب الحب الى غير زمان، تصير الحياة غير زمان وغير مكان.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024