تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مئة وثمانون غروباً

الكاتب: حسن داوود، 

الناشر: دار الساقي ٢٠٠٩، 

الكتاب: «مئة وثمانون غروباً»


شخصيات تعيش على هامش الحياة
حسن داوود... إسمٌ لم يعد يرمز إلى أحد الروائيين الذين يُجسّدون الولادة الثانية للرواية اللبنانية التي كُتبت وانتشرت أثناء الحرب وبعدها فحسب، بل أصبح مرادفاً للأسلوب الكتابي الشاق الذي لا يستسيغه البعض باعتباره أسلوباً فاقداً للعفوية والجاذبية، بيد أنّ البعض الآخر يرى فيه أسلوباً إبداعياً نادراً ومميزاً. وإذا كنّا بين هذا أو ذاك يبقى حسن داوود «الروائي- الحرفي»، الذي ينحت رواياته نحتاً بالإزمير والشاكوش، صاحب الأعمال الفريدة التي تُقدّم إلى القارئ وكأنها تحفة هندسية من صُنع فنان ماهر.


في روايته الأخيرة «مئة وثمانون غروباً» الصادرة عن «دار الساقي»، اعتمد داوود تلك «النبرة الشاقة» التي ميّزته منذ روايته الأولى «بناية ماتيلد» ولكن بطريقة أكثر رشاقة وانسيابية من أعماله السابقة.
تبدو الرواية، من الخارج، بأنّ لا قصة فيها ولا أحداث. فالمكان (الزهرانية) يُمثّل المحور الأساسي الذي تدور حوله كل حيثيات الرواية. أمّا الأحداث فهي في الشخصيات الرئيسة نفسها، في عوالمها الداخلية، في حيواتها المتشابهة، في عزلتها وفراغها، في رتابة أيامها ومللها، في أحزانها وسلبياتها التي خلّفتها الحرب... ورغم أنّ الكاتب لم يذكر كلمة «حرب» سوى في الفصلين الأخيرين من روايته إلاّ أنّه نقل صورتها أو في معنى أدّق خلفياتها منذ الصفحات الأولى، وذلك  من خلال حديث الشخصيات وأفعالها وأفكارها التي تدلّ على شلل عام جرّاء شلل الحياة الإقتصادية والإجتماعية التي أنتجتها الحرب.

تروي «مئة وثمانون غروباً» حكاية مجموعة من الأشخاص الذين يعيشون في منطقة ما- «الزهرانية»- حيث التنوّع الطائفي، يعيشون معاً مسلمين ومسيحيين. أبطال الرواية، على تنوّعهم، يعيشون حياة على هامش الحياة. شخصيات داوود أخذها من قاع المجتمع: سلمى هي الفتاة الأميّة التي تعمد إلى إغواء الشباب، وليد وأخوه صاحبا محلّ ألعاب بسيط وتيسير بائع عصافير، أمّا طوني وجوزيف وميخا فهم مجموعة من الشباب المنحرفين الذين لا شغل لهم سوى الوقوف على عمود الكهرباء لمراقبة سلمى أو النزول إلى المسبح من أجل مغازلة الفتيات.

أبطال الرواية يندرجون ضمن قائمة «البطل- المضاد». هم يُجسدّون بغالبيتهم شخصيات غريبة، فمنهم الأحمق ومنهم اللامبالي ومنهم المنحرف. حين يقول الراوي في الفصل الأول: «لم يكن يغضب أبي حين أهرب من المدرسة، ولم يكن يفعل مثلما يفعل الآباء الآخرون حين يُعلمه مدير المدرسة أو ناظرها أنني لم أكن اليوم بين زملائي»، لهذا مثلاً دلالة ضمنية على لامبالاة هذه الشخصيات التي تعيش في ما يُشبه العزلة داخل «الزهرانية». إنها شخصيات ذات مشاعر باردة (لا تغضب، لا تحزن، لا تبكي). وحتى من اختار الخروج من «الزهرانية» كسلمى التي سافرت إلى الدنمارك ظلّت تدفع ثمن غلطتها في «الزهرانية»، وكأنّ شبح هذه الأخيرة لا يُفارق من تنفّس هواءها إطلاقاً.

أمّا اختيار «البطل المضاد» فهو ليس بالأمر الجديد بالنسبة إلى حسن داوود الذي قدّم شخصية المعوّق جسدياً في «غناء البطريق»، والمرأة التي قضت فترة في غيبوبتها الطويلة في «ماكياج خفيف لسهرة الليلة»... وقد برع الكاتب في تسليط الضوء على هذه النماذج التي قلّما تجد اهتماماً في مجتمعاتها، وذلك على طريقة الكاتب المسرحي المعروف بيكيت الذي لا يُعير صوته لأيّ من شخصياته المعوّقة جسدياً أو عقلياً ويترك لها حرية التعبير عن عالمها الخاص وألمها الكامن داخلها بلسانها وأسلوبها الهُزئي أحياناً.

في روايته الجديدة اختار داوود إذاً تقديم  رواية ينسجم شكلها ومضمونها، فجاء مبنى الرواية في خدمة معناها. لذا نجد أنّ تكرار الجمل ذاتها أكثر من مرّة على لسان الراوي نفسه ليس بالصورة المجانية، بل إنه ليس سوى ترجمة لحالة التكرار والملل التي تعيشها تلك الشخصيات. فالأخ الثخين (كما يُسمّى في الرواية) لا يتوانى عن تكرار جملة «بعد عشرين سنة على وصولي إلى الزهرانية»، وسلمى تعيد لولبياً الجملة ذاتها «لا أشتاق إلى الزهرانية»، أمّا تيسير فيقول مراراً وتكراراً «لا أكلّم أحداً عن سلمى»، ورغم ذلك يقصّ تفاصيل علاقته مع سلمى على مسامع إمرأة كانت تشتري منه الطيور التي يبيعها. الأمر الذي يدلّ على عبثية الكلام الذي تتلّفظ به شخصيات الرواية وكذلك على عبثية حياتهم. ف«العبثية» تُشكّل لبّ الرواية وجوهرها. ورغم أنّ رواية داوود تبدو هادئة من حيث مسار الأحداث إلاّ أنّها في الواقع مليئة بالصخب نتيجة الهجوم الذي يشنّه الكاتب بطريقة غير مباشرة على عبثية الحرب التي لا تُخلّف وراءها سوى الدمار النفسي الذي لا يمكن أن يُعمَّر أبداً. وهنا تكمن مهارة الكاتب الذي نراه متخفياً طوال الرواية ولا يتدخل ليخلط صوته بصوت إحدى شخصياته، ولا يهدي إليها أيّاً من ثقافته أو معارفه، ورغم ذلك يُوصل إلى  الناس نبرته الحادّة والساخرة أيضاً ضدّ الحروب بكلّ مخلّفاتها.
فيذكّرنا أسلوب حسن داوود في روايته الجديدة «مئة وثمانون غروباً» بأسلوب ألبير كامو في روايته الشهيرة «الغريب»، إذ يقتفي الحياة المملّة لشخصياته بأدق تفاصيلها ويعرض الحركات اليومية الميكانيكية (النزول إلى المسبح، الوقوف على عمود الكهرباء، مراقبة سلمى وتيسير، مرور سيارة المرسيدس البيضاء...) دون أن ينقل إلى القارئ ذاك الإحساس بالملل وإن لمرّة واحدة، لا بل ينجح في شحذ حماسه واهتمامه بتلك التفاصيل الصغيرة على رغم سخافتها وبهتانها. وعلى طريقة فولتير وكامو يُركّز داوود على «الخواء الإنساني» بأسلوب ساخر ولاذع إلى حدّ الشعور برغبة ما في الضحك من فرط المأساة.

في هذه الرواية هناك أكثر من راوٍ يشدّ طرف السرد، فتتناوب بذلك الشخصيات الثلاث الرئيسة على سرد أحداث معينة يتكرّر بعضها على ألسنة الرواة الذين خصّص الكاتب لكلّ واحد منهم أكثر من فصل ليقوموا بما يُشبه مناجاة النفس أو Soliloque  كما هو معروف بالمصطلح الأدبي الفرنسي. تبدأ الرواية مع راوٍ يتساءل كيف أنّه لم يلحظ أنّ لا مقبرة في المنطقة الساحلية التي أتى إليها منذ عشرين عاماً، من هنا يُمكن للقارئ منذ الأسطر الأولى أن يشعر بالعبثية التي تُحيط بحياة تلك الشخصية ومن ثم تتعزّز لدينا هذه الفكرة بعدما يقوم الراوي باسترجاع الماضي عن طريق استذكار بعض الأحداث أو الشخصيات التي نتعرّف إليها وإلى بعض تفاصيل حياتها التي تبدو أكثر هامشية من حياته. في الفصل الثالث «نافذة إلى الدنمارك» يتغيّر نفس الراوي، ورغم أنّها لا تُعلن عن اسمها إلاّ أنّ القارئ يفهم أنّها سلمى التي تعرّفنا إليها من خلال الراوي الأول.

وفي الفصل الرابع «حديقة أبي» يشّك القارئ في أنّ الراوي هو تيسير الذي سمعنا عنه مطوّلاً في الفصول السابقة وبعد صفحات قليلة نتأكّد من أنّ الراوي هو نفسه تيسير، صاحب الجسم العريض والقدرات العقلية المحدودة. لكن المُلفت أنّ كلّ شخصيات الرواية- حتى الثانوية منها- عُرّف عنها بالأسماء باستثناء الراوي الذي افتتح الرواية واختتمها، «أخو وليد» أو «الأخ الثخين» كما يُناديه بعض شباب الزهرانية. وربما عدم تسمية هذه الشخصية جاء من أجل تمييزه، أمّا إعطائه صفة الثخين من قبل حمَقى أو منحرفين، فهذا يدلّ على أنّه لا يُشبههم وربما يكون أفضل منهم لولا أنّ الظروف العبثية جمعته معهم في ذاك المكان. والجدير ذكره أنّ كلمات هذه الرواية ليست عشوائية، إذ اختيرت كلّ واحدة منها طوال ٢٨٦ صفحة من أجل أداء وظيفة معينة، فالكلمات رمزية، والجمل تحتوي على أكثر من معنى (ظاهري وضمني).

إلى جانب ذلك نرى الكثير من الصور الواقعية التي ترتفع نحو الرمز، ففي الصفحة ١٢٩ يقول الراوي: «نترك مساحة خالية بين اللعبة واللعبة... ونترك تلك الرفوف خالية...»، وكأنّ الكاتب أراد من خلال هذا المشهد التلميح إلى ذاك المناخ المُشبع بالخلاء والفراغ والإنتظار. وتكرار عبارة «أتسلّى بنفض الغبار عن اللعب بمنفضة الريش» ليست سوى تأكيد على نفس الفكرة السابقة والناتجة عن خطوات الزمن التي تبدو ثقيلة ولا تمرّ بخفة. كما أنّ صورة «العصافير داخل الأقفاص» التي تتكرّر وكأنّها لازمة في حديث تيسير ليست سوى دلالة رمزية لتوكيد فكرة العزلة التي تعيشها الشخصيات داخل الزهرانية من دون أي طموح أو هدف يُذكر. وتُعتبر هذه الكلمات والصور الرمزية بمثابة تقنية ذكية جداً اعتمدها الكاتب من أجل إشراك القارئ في تحليل الأحداث والمشاهد والشخصيات. كما أنّ اهتمام الروائي بتصوير حركات الجسد لدى شخصياته أكثر من أفعالهم يُشير إلى فكرة «الفراغ» التي تتخبّط فيها الشخصيات «نتر يده، رفع اصبعه، كوّرت شفتيها...»، هذا بالإضافة إلى أنّه تكنيك يعتمده المسرحيين أكثر من الروائيين. كما أنّ نهاية الرواية وخصوصاً المشهد الذي يقتل فيه تيسير ميخا بالحجر تبدو أيضاً مسرحية ومُفاجئة وتوضح بشدّة «الفكرة- الثيمة» في الرواية ألا وهي «العبثية».

وبعد الإنتهاء من الرواية التي تقع في ٢٨٦ صفحة من القطع الكبير لا يتحرّر القارئ من مهمة التحليل التي أوكلها إليه الكاتب منذ البداية، إذ يدخل معركة أشرس مع نفسه بهدف تفكيك شيفرة العنوان الذي يبدو أغرب كلّما اقتربنا من النهاية. «مئة وثمانون» هو الرقم الهندسي الشهير في خطّه الأفقي يدّل على التغيير تماماً ك«ثلاثمائة وستون»، إلاّ أنّ هذا لا يتحقّق إلاّ عندما يكون منوطاً بكلمة «درجة»، أمّا «الغروب» الذي يتخّذ شكلاً أفقياً أيضاً فله دلالة على فكرة الحتمية أو المأساة المتجددة دوماً. من هنا يمكننا أن نلمس رمزية العنوان «مئة وثمانون غروباً» والذي يُشير إلى فكرة الرتابة والتكرار وحتمية الموت والأوضاع المأساوية جرّاء الحرب التي تشلّ كلّ أنواع الحركة والتقدّم والتغيير. والنهاية الرتيبة التي تُقفل بها الرواية تُكرّس فكرة الملل الذي لا أمل في أن ينكسر جداره تماماً كما أنّه لا يُمكن للغروب أن يتوقف عن الهجوم على دنيانا بعد كل شروق. «مئة وثمانون غروباً» إذاً ليس سوى عمل أدبي يرسم «العبثية» بريشة سوداء. أمّا تقنية كتابتها، فجعلت منها عمارة روائية من الطراز الأول.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077