تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

الحوار الأخير مع الأديبة إميلي نصر الله... رحلت وتركت «طيور أيلول» وحيدةً

غيّب الموت الكاتبة الأديبة إميلي نصر الله، ويأتي خبر غيابها ليرسم صورتها من جديد، وليرفع عناوين حضورها الإبداعية عالياً. الكاتبة الروائية والقاصّة والشاعرة التي حكت وخبرت واختبرت حكايات الإنسان في عيشه المتنوع، تغادر الحياة وتترك أثراً طيباً، يتجلّى صافياً في صمتها الأبدي.


عاشت إميلي 87 عاماً أمضت معظمها في كنف الكتابة والإبداع. خاضت غمار كتابة الرواية والقصّة والنثر الأدبي على أكمل وجه، وأنتجت عشرات الكتب الناطقة بالوعي المعرفي والهاجس الإبداعي، وفي روايتها الشهيرة «طيور أيلول» رفعت المرآة الأنصع في وجه الزمن لتعكس مسيرتها الكتابية، فأعطتها حيز الوعي اليومي المكثف، وغاصت في تفاصيل حياة الإنسان وما يمثله ويعيشه في مكان الحضور والغياب.

وإضافة الى أعمالها الروائية والقصصية الأخرى، حققت إميلي حضوراً في الكتابة الصحافية، وسخّرت كتاباتها لطرح سؤال الحياة، مسبوقاً بأجوبة العيش الكريم والممتع.

حملت الغائبة الكلمات مثل مصباح وطافت في ليل الحكاية، في عالم الكتابة. فرواياتها وكتاباتها الكثيرة والمتنوعة تشهد على خصوصية وقدرة ولغة متناسلة في ذاتها، وفي مكانها وزمانها، وتتشابك مع وعي الإنسان والمعرفة والحياة. غالبية كتاباتها تستغرق في مناخات الجمال الذي يرسم معالم المكان، ومسافة الزمان الممتد بين حاضر ومستقبل وما بينهما. استغراقها صوفي ونابع من قلب ممتلئ بالمحبة والسعادة. وهي قبل كل شيء، شاعرة تضخ الرواية بالمفردات المرهفة.

مواقف وآراء وانطباعات كثيرة طبعت حياة الراحلة، وكانت خير دليل ومعنى على عافية الإبداع والثقافة. وكنتُ قد حاورتها في مراحل ومناسبات كثيرة، وكان لي الفخر بأن حاورتها قبل سنة، وحدّثتني عن الحياة والأمل والإنسان والوطن بكثير من الإصرار والحب. حينذاك نُشر الحوار هنا، في «لها»، ونقطف من هذا الحوار ما يذكّرنا بالراحلة ونعاود نشره، علّ استحضار الغائبة يتجلّى أكثر، فماذا قالت الأديبة الراحلة في الحوار الأخير معها؟


- الكاتبة إميلي نصر الله روائية وشاعرة تستغرق في جماليات المكان استغراقاً صوفياً، مساحته القلب المنصهر في وجدان متحرك وفاعل، ما سر هذا العبق السحري في كتاباتك الروائية، وما سر كلامك الدافئ؟
لا بد من الكتابة، بالنسبة إليّ. لا بد من الكلمات المفتوحة على جمالية الحياة. الكتابة لدي هي السحر، سحر الوجود كما أنها سر يحفظ هذا السحر. أرى الكتابة حركة جمالية بامتياز، تعطي الزمن مسافته الطويلة، المزدانة بوردة مستمرة على مر الفصول. 
أنا روائية أكتب بروح شفافة وأناقة صافية، وأعتمد على لغة هادئة مألوفة لا تعرف التغريب ولا التكلّف، وتمضي إلى جمالها على جناح العفوية والثقافة المرتكزة على موهبة صافية وعميقة. وربما ما تذكره في سؤالك هو أمر قائم منذ وعيي الأول، حيث كانت البداية مع الكلمة. ودائماً تكون البداية هي الفعل الأجمل في حياة الإنسان، فكيف الحال مع الكاتب أو الكاتبة؟ نعم الكتابة هي زاد وطاقة وقوة لحياة المبدع، وإذا ضعفت هذه الطاقة أو كلّت، هلك الكاتب، وما أصعب هذا الهلاك.

- أين هي الكاتبة إميلي نصر الله اليوم؟ ماذا تقولين في روايتك، وإلى أين وصلت كلماتك بعد هذا العمر الجميل؟
الكتابة ذروة الحياة. الرواية التي أكتبها هي نشاط روحي بامتياز لا يفارقني أبداً، بل يساعدني على الأمل. لذلك أتواصل مع الكلمة والكتابة بدون توقف، وأستعد دائماً للجديد في الكتابة. ورغم كل هذا النشاط الروحي المتوقد في الكتابة، أجدني لا أزال عند نقطة البدء في محاولة الكتابة. البداية لا تتوقف، وتجعلني أنظر الى الأمام بوضوح، إلى المسافة الممتدة في كل اتجاه وفي كل مكان.
أتلفّت حولي دائماً، وأحاول أن أسير بمحاذاة خطّ واضح رسمته لنفسي في مستهل حياتي الأدبية، وأعتمد عليه بشكل أساس. هو أحياناً يلازمني، وفي بعض الأوقات يغادرني، ويجعلني في حيرة وقلق. وكم أراني تائهة في بحار تأمّلاتي وتطلعاتي، ومع نظراتي التي تملأ حضوري وشرودي، وأقف دائماً أمام مرآة ذاتي لتصفية الحسابات مع كل كلمة أو معنى يراودني. حساباتي كثيرة مع الكلمات، وكلما راقبت كلماتي، أجد فيها ما كنت قد أضعته أو نسيته في أرض المعنى والزمان.

- كتبتِ الحكاية المفتوحة، وتكتبين الرواية منذ عقود، هل حققتْ التجربة الروائية هدفها في حياتك؟
الكتابة هي كل المتعة. مهما شعرنا بلذة الكتابة، تبقى اللذة أقل ونحتاج إليها أكثر. الكتابة هي أساس الفعل والوعي والحياة التي عرفناها. لذا تبقى الرواية التي أكتبها هي المسافة المشوقة التي أسير على هديها. تبقى الرواية هاجسي ما دام القلم يطاوعني، والتوق إلى فتح أبواب المجهول يحثّني على المضيّ قدماً. روايتي مدخلي الى عالم جميل لا أحب مفارقته أبداً. ربما لم أشبع من القول بعد، لذلك أرى متعة الكتابة له بقية، وعليّ مواصلتها حتى الرمق الأخير.

- إميلي الكاتبة القلقة والمثابرة على سؤال الزمن والحياة، هل ازداد قلقها اليوم؟
القلق لا يتوقف، هو مثل نبض القلب. أكثر ما يقلقني أن يحين موعد الرحيل قبل أن أروي حكايتي الأخيرة. هذا هو قلقي الأكبر وسؤالي الدائم لنفسي. ولكن الأمل أكبر، وكلما ازداد القلق تضاعف الأمل، وهذا سر الزمن الذي فتح بابه لكلماتي.

- ما جدوى الكتابة، ولماذا تواصلين الكتابة؟
هل من جدوى للكتابة؟ هل من جدوى لكل شيء نعرفه أو نريد أن نعرفه؟ لا أفهم السؤال ومعناه، ولا أريد أن أعرف إلا ما أعرفه عن علاقتي بالكتابة. كل ما يمكنني قوله إن رأيي وحساباتي وأفكاري تختلف، والمتعة الأهم والجدوى الأسمى هما ذاك الشعور بالرضى الذاتي عندما يحين موعد المحاسبة. الجدوى في الكتابة تعادل الكتابة نفسها بما تحمل من مخزون وعي يتوغل في المتعة الكبيرة، متعة الحياة وما يليها.

الجدوى كل الجدوى تكمن في الكتابة... ألا يكفي أن الكتابة تضعك على شرفة يمكنك من خلالها رؤية الحياة بكل ألوانها وأشكالها؟

- الحب حاضر ومستوطن في كتاباتك، ماذا عن هذا الحب الذي يبدو صافياً ومذهّباً في كلماتك؟ كيف تنظرين إلى الحب وإلى أين أوصلك؟
دعني أستحضر ما قلته في روايتي «طيور أيلول». رسمت حواراً يدور بين بطلتَيْ الرواية: توجّه «مرسال» سؤالاً إلى صديقتها «منى»: ولكنْ هل أحببت يا منى؟
فتردّ عليها بسؤال: أنا، هل أحببت؟ أنا، هل عشت لحظة من دون حب؟ يا لمرسال الطيبة!... وعندما تفرغ من هذا السؤال تردّ عليها بالقول: نعم، لقد أحببت كثيراً، يا مرسال، وكان الحبّ مصدر قوتي التي تُعجبك. إن مَعاصر العنب تعجّ بالحياة في فصل الخريف، إنما للحب معصرة دائمة في قلبـي.
لكن كنا نختلف في أسلوب الحب يا «مرسال»، و«منى» هي أنا في تلك الرواية. ويمكن جوابك على هذا السؤال أن يكبر في تفاصيل الرواية.

- كيف تعيشين حياتك اليوم؟ هل تنصرفين إلى القضايا اليومية انصرافاً كلياً، ويكون ذلك على حساب العمل الإبداعي؟
حياتي كما عشتها بحلوها ومرّها كانت عملاً مفتوحاً إلى ما لا نهاية. فقد جئت من الضيعة، من القرية، من خلفيات قروية، حيث لا يتوقف العمل في البيت أو في الخارج. وبقيت هذه عادتي بعد أن انصرفت إلى الكتابة والعمل الصحافي، ولم أنقطع عن القيام بواجباتي المنزلية والعائلية، وهي تلتهم نسبة كبيرة من الوقت. لكن، في الكتابة لا شيء يضيع أو يُهدر، بل يتحول إذا شئنا ونوينا إلى مصدر لتغذية القصة أو الرواية، والتي لا يجوز أن تنقطع عن الحياة، أو عن التجربة العملية والإنسانية. ومن هذا المنطلق استطعت المزاوجة والمواءمة بين الحياة العامة والكتابة. بصراحة، أجد متعة كبيرة في ترجمة الحياة العامة في قالب روائي وما شابه من أشكال الكتابة. الحياة جميلة كيفما نظرنا إليها. سنرى ما يسعدنا، فلا تيأس أيها الإنسان.

 - ماذا عن الأمومة في حياتك الإبداعية، أنتِ الأم المثالية بامتياز التي تدير شؤون العائلة الكبيرة...
الأمومة لا تقل أهميةً عن الكتابة في حياتي. الأمومة قالت لي الكثير الكثير. ثم لا تنسَ أنني أم، وجدّة في هذه المرحلة من العمر، لكن لا أعتقد بأنني مثالية، إنما أسعى في كل خطوة إلى تجاوز الأخطاء والهفوات، ومحاسبة الذات. أنا ناقدة صارمة لنفسي.

- أليست الأمومة نعمة كبيرة للمرأة؟
حتماً، الأمومة هي فعل الحياة النقي والجميل الناصع بالحب.
لا شك في أن الأمومة هي إحدى النِّعم التي جاد بها الخالق على الأنثى، وأحياناً أقول بين الجدّ والهزل: يا ليت هذا العالم الذي كان ولا يزال يتخبّط في مشاكله، وفي مقدّمها العنف، يا ليته يحكم بقلب الأم، وليس فقط بمنطق الرجال ومطامحهم. حضرت الأم في كتاباتي كما هي، كما أراها وأحسّها وأعرفها. وأعترف اليوم بأنني أقدّم منطق الأمومة على سائر الأحكام والنظريات، في الكتابة كما في شؤون الحياة. الأمومة هي حقاً احتضان العالم، أي احتضان الحياة. الأمومة هي خير للحياة.

- هل تهتمين بالسياسة؟
لا أهتم بالسياسة أبداً. السياسة عالم لا يقاربني ولا أقاربه. لي عالمي الخاص، وأبقى الى جانب أهلي من الغلابة والكادحين.

- هل تتوقفين عند تجربتك الإبداعية وبداياتها؟ وماذا تقولين أمام مرآة التجربة؟
المرآة كبيرة، ودائماً ما أنظر إليها بشغف. من الطبيعي أن أعود إلى تجربتي وأراجعها، ولكنني لست نادمة على أي خطوة خطوتها في حياتي أو تجربتي الإبداعية، فقد كنت أنقاد إلى ما يمليه علـيّ الحدس والعقل. ولا أقول إن الطريق كان ممهداً، إذ كانت حياتي صراعاً متواصلاً. المهم هو أنني راضية ومقتنعة وسعيدة جداً بتجربتي. القناعة أمر يصب مباشرة في قلب المتعة، متعة التجربة والكتابة.

- ألا يزال إصرارك على الكتابة كما هو، أم تغير وخفّ وهجه؟ هل أنت مستمرة في الكتابة وإلى متى؟
دعني أقول ما هو ثابت في شعوري وأحاسيسي، إذا كان في مقدور الإنسان التوقف عن تناول الطعام والشراب طوال حياته، فسيكون في إمكاني التوقف عن الكتابة... طالما أن حياتي مستمرة، سأبقى فاعلة والقلم ينبض بين يدي. لا يمكن الكتابة أن تتوقف طالما أنني على قيد الحياة. الكتابة ليست ملزمة بنقطة أخيرة، في حياتي على الأقل.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079