تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

اختصاصي علم نفس الطفل والمراهق

«ربما علينا استشارة طبيب نفسي». هذه العبارة يردّدها الأهل الذي يعانون مشكلات مع أبنائهم وبناتهم لا سيّما أولئك الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن مساعدة ابنهم( أو ابنتهم) بالتخلص من مشاعر الألم، فيغرقون في شعورهم بالذنب.
ماذا ينتظر الأهل من الاختصاصي النفسي؟ متى عليهم استشارة اختصاصي نفسي؟ وما هي الحلول المقترحة؟
في البداية يجب أن يدرك الأهل ويقتنعوا أن المعالج الأول للأبناء هم أنفسهم. فحبهم لأبنائهم والاهتمام بهم والاستماع إليهم ومنحهم شعور الأمان واحتوائهم هي الطريقة الأولى و المثلى للعلاج النفسي.
الطفل ليس كائنًا من كوكب آخر، بل هو كيان إنساني، وشخص معرّض للنجاح والفشل ولديه هموم وقلق  ومخاوف. كل هذه المشاعر طبيعية، فهي جزء من الحياة ومن التكوين النفسي للإنسان عمومًا. وعلى الأهل أن يكونوا متأكدين أنه منذ الابتسامة الأولى للرضيع إلى أن يصل مرحلة المراهقة الثائرة، يحمل الطفل في داخله ويعبّر بطريقته عن قلق الأهل أنفسهم، إضافة إلى قلقه الخاص.

-  متى يجب استشارة اختصاصي نفسي؟
يتأثر الطفل أحيانًا بقلق الأهل وصراعاتهم الشخصية وهموم العائلة مما يؤدي إلى تطور أعراض مشكلة نفسية. وقد يصل الأمر إلى جدار مسدود بعدما أصبح التواصل بين الأهل والطفل منقطعًا ويشل الشعور بالذنب حياة العائلة. لذا فعندما يشعر الأهل بالعجز وبأنهم غير قادرين على مساعدة ابنهم في التخلص من آلامه عليهم ألا يتردّدوا في استشارة اختصاصي نفسي. فمن الطبيعي أن يمرّ الطفل بلحظات صعبة، هذا جزء من الحياة. فهو يواجه صعابًا مدرسية، وأحيانًا يريد تغيير ديكور غرفته بما لا يتلاءم مع ذوق أهله، وأحيانًا يشعر بالانهيار أو بالتفاؤل، وأحيانًا أخرى يشعر برغبته في الوحدة والانطواء على نفسه. وكل هذه المشاعر المتناقضة وغيرها طبيعية ومؤشر لصحة نفسية جيدة، فهو كائن حي يتفاعل مع الأحداث بطرقه الخاصة في التعبير.
وفي المقابل، إذا ازدادت هذه التناقضات بشكل لافت، ولاحظ الأهل أن شعورًا معينًا أثّر في كل تصرّفات الطفل، ورصدوا خللاً في سلوكه عليهم استشارة اختصاصي. فمثلاً إذا كان الطفل يشعر بالخوف في بعض المواقف فهذا ليس شعورًا مرضيًا، ولكن إذا تحوّل خوفه إلى فوبيا فهذا مؤشر لعدم توازن، وإذا كان الطفل يحب أن يرتب أغراضه في شكل منظم، فهذا أمر جيد. أما إذا كان لا يتحمّل أن  يلمس أحد أغراضه أو يغير مكانها ويسبب هذا له قلقًا فهذا مؤشر لاضطراب لديه يجب معالجته.
ورغم أن شعور الطفل  بالحزن ومواجهة اضطرابات في النوم بعد حدوث وفاة أو انفصال أمر طبيعي خلال فترة معيّنة، فإن هناك أعراضًا مرضية على الأهل التنبّه لها. وهي:
تغير كبير في التصرّف:
إذا أصبح الطفل فجأة أكثر هدوءًا بينما كان في السابق كثير الحركة، أو العكس، وإذا أصبح يتصرف بشكل عنيف، وإذا تدنت علاماته المدرسية بشكل مفاجئ، فهذه إشارات لأعراض اضطراب نفسي.
اضطرابات غذائية:
مهما كانت سن الطفل فإن رفض الطعام أو التهام الطعام بشكل مبالغ فيه، مؤشر لاضطراب نفسي لا يجوز التهاون به.
وأخيرًا إذا شعر الأهل بأن التواصل مع طفلهم أصبح منقطعًا، والثقة بينهم وبينه لم تعد موجودة، عليهم استشارة شخص حيادي وقادر على مراقبة أفعاله.

- هل هناك سن محددة لاستشارة اختصاصي نفسي؟
ليست هناك سن محددة لاستشارة اختصاصي نفسي، فلكل  مرحلة من مراحل العمر معالج نفسي. فللطفولة اختصاصي وللمراهقة اختصاصي.... مثلاً الرضيع الذي يتجشأ بكثرة أو الذي يواجه صعابًا أثناء إرضاعه، وعندما تستبعد كل الأسباب الفيزيائية، فإنه من الممكن وجود مشكلة نفسية متعلّقة بالأم. فالطفل يشعر بأنه المسؤول عن هموم أهله، لأن الأم تشعر بالقلق وتنقله إلى طفلها أثناء الرضاعة عن غير قصد. لذا عليها في البداية استشارة طبيب الأطفال ومن ثم اختصاصي في علم نفس الطفل إذا نصحها الطبيب بذلك. فالأم التي تشعر بالطمأنينة تساعد طفلها في التخلص من توتره.


ويمكن أن نحدد مراحل عدة من تطور الطفل التي يمكن أن ترافقها اضطرابات نفسية

  • المولود: عندما يولد الطفل تكون كل أعضائه الفيزيائية مكتملة، ولكن قدراته الذهنية في حاجة إلى البناء والتطوّر. ففي الشهور الأولى يسمع الطفل ويندمج مع والديه، فهو يشبه لاقط العاطفة، و يشعر بقلق والديه أو سعادتهما. وتشكل السعادة والحب مصدر طاقته، فمن خلال حب والديه واهتمامهما به يبني الطفل قواه العقلية ويطوّرها.
  • في الشهر الثامن عشر: حتى هذه السن يكون جسم الطفل مندمجًا بوالديه، وبعد ذلك يبدأ بالتمييز بينه وبينهما، فيصبح كائنًا صغيرًا مستقلاً. ويمكن القول إن الشهر الثامن عشر هو مرحلة التغيرات الكبرى في حياة الرضيع، ففي هذه السن تبدأ محاولاته الأولى في المشي، وبالتالي الخروج من الاندماج الكلي مع والديه. و يصبح سيد جسمه، وقد يتخلّى عن حفاضه، وبعدها يبدأ الانفصال عن والديه مكانيًا كالذهاب إلى الحضانة، ويصبح كائنًا اجتماعيًا، ويدخل في فضائه الخاص به.
  • مرحلة التعبير: لا يقتصر إدراك الطفل على تمييز جسمه عن غيره، بل يجعل منه أداة للابتكار والتعبير. إنها مرحلة تعلّم القراءة والكتابة. 
  •  مرحلة المراهقة: تشكل المراهقة المرحلة المفتاح وجسر العبور من الطفولة إلى سن الرشد، ويتعلّم خلالها الاستقلالية وتحديد هويته والتفكير في مستقبله...

    كل هذه المراحل أساسية في بناء الطفل النفسي والذهني وتطوره. لذا فالطفل في حاجة إلى دعم والديه لكي يشبّ في شكل آمن. ولكن إذا كان الأهل يواجهون صعابًا عليهم استشارة اختصاصي نفسي لمساعدتهم ومساعدة أبنائهم في تخطي المواقف الصعبة.

-  من في إمكانه إرشاد الأهل إلى الاختصاصي النفسي المناسب؟
عندما يلاحظ الوالدان صعوبة نفسية يمر بها طفلهما يمكنهما أن يسألا طبيب العائلة أو طبيب الأطفال. فهو قادر على إرشاد الأهل إلى الاختصاصي النفسي المناسب لسن الطفل. كما يمكن الوالدين سؤال أصدقائهما أو المحيطين بهما، لأنه من المؤكد أنهما ليسا وحدهما من يتعرّض أبناؤهما لصعاب نفسية. كما يمكن الوالدين أن يسألا المسؤولة الاجتماعية في المدرسة، علمًا أن معظم المدارس يتوافر فيها اليوم اختصاصي نفسي يتابع أحوال التلامذة النفسية ومشكلاتهم.

-  كيف يمكن إقناع الطفل بالذهاب إلى معالج نفسي؟
عمومًا يقبل الأطفال الصغار لقاء الاختصاصي النفسي. في حين لا يكون إقناع المراهق بهذا الأمر سهلاً، خصوصًا إذا طلبه منه الأهل. فمن المعلوم أن المراهقة هي المرحلة التي يميل خلالها المراهق إلى الاستقلالية وغالبًا يرفض كل ما يطلبه منه أهله خصوصًا إذا كان يمر بفترة صراع معهم. لذا فإن فكرة الذهاب إلى معالج  نفسي قد يرفضها لأنها فقط اقتراح من والديه. وهذه هي الصعوبة. لذا من الضروري التفسير للمراهق أن المعالج النفسي هو شخص حيادي، ولا يبوح بأسرار العمل لأي كان، وبأنه يكون معالجه الشخصي وليس متواطئًا مع والديه. وعندما يصر المراهق على رفضه الذهاب إلى اختصاصي نفسي يمكن الأهل الطلب من أحد أفراد العائلة أو أحد أصدقاء ابنهم إقناعه بذلك.

-  من هو الاختصاصي النفسي الجيّد؟
من الضروري أن يشعر المراهق بالثقة بمعالجه النفسي عندما يلتقيه، فإذا لم يشعر بالراحة معه فلا داعي لإكمال العلاج عنده، وينبغي البحث فورًا عن معالج آخر يستطيع التقرّب من المراهق ويسترعي انتباهه ويبدأ العمل معه بشكل سريع.
وفي المقابل، على الأهل أن يدركوا أن المعالج النفسي هو لابنهم، فعيادة المعالج هي مكان خاص به. ولكن هذا لا يمنع أن يكون الأهل على دراية بالتقدّم الذي يحرزه المراهق في علاجه النفسي. وعليهم الاحتفاظ بتدخلهم وأسئلتهم إلى ما بعد انتهاء الجلسة. وقد يصعب على الأهل تقبّل ذلك ولكن وقت الانفصال ربما حان، فالمراهق أصبح سيّد نفسه.

-  ما هو دور اختصاصي علم نفس الطفل؟
دوره مساعدة الطفل في الانفصال عن مشكلات أهله. فمن المعلوم أن الأطفال يفكرون على هذا النحو، فهم يظنون أنهم المسؤولون عن المشكلات الموجودة في العائلة، وفي الوقت نفسه لديهم مشكلاتهم الخاصة، وقلق كبير،مما يسبب لهم صعابًا  مدرسية أو مشكلات مع أصدقائهم، إضافة إلى أنهم يحملون عبء مشكلات أهلهم. وهذا يثقلهم بالهموم والقلق مما يؤدي إلى وضع يجدون فيه أنفسهم أمام جدار مسدود. لذا تظهر على الطفل أعراض أو تصرّفات غير متزنة ومقلقة لأهله. في هذه الحالة على الأهل استشارة إختصاصي.

-  ما هو دور الأهل في العلاج النفسي؟
للأهل دور أساسي في العلاج. فالعلاج النفسي دوره معرفة أسباب المشكلة وتحديدها والعمل على حلّها بمساعدة الأهل. فلكي يكبر الطفل في صحة جيدة يحتاج إلى حماية أهله ودعهم وإلى أن يكونوا مرجعه، وإلى حدود ونقاط محددة، فهذا يساعده في بناء شخصيته وتكوين هويته، وبالتالي في أن يصبح راشدًا سوّيًا. فإذا كان الطفل يعيش وسط أهل تخلوا عن وظيفتهم الأبوية، أي يتصرّفون كما لو أن ابنهم هو المسؤول عنهم أو يطلبون رأيه في أخذ القرارات المصيرية أو كانوا مترددّين في كل ما يقومون به، فإن الطفل يشعر بالإرهاق وينتابه الكثير من القلق وبالتالي يعاني اضطرابات نفسية. لذا على الأهل أن يضطلعوا بدورهم الحقيقي بتوفير الحب والحنان والشعور بالأمان لأبنائهم.


إبني يريد الذهاب إلى السماء
!

يظهر ابني( 6 سنوات)رغبة في الذهاب إلى السماء. وعندما أسأله عن السبب، يجيبني: «كي أرتاح». قبل أسابيع توفيت جدته، وشرحنا له أنها أصبحت عجوزاً وذهبت إلى السماء حيث ستشعر بالراحة. وأخشى أننا حين وصفنا له السماء على أنها المكان الجميل الذي نذهب إليه حين نموت جعلناه يتمنى الموت! كيف يمكن أن نجعله يتخلى عن هذه الفكرة؟

مهى- بيروت

المشكلة التي تطرحينها هي نموذج عن تفكير الطفل في سن ما بين الأربع والست سنوات. ففي هذه المرحلة تكون قدرات الطفل على فهم الرموز والأفكار الغيبية والمفاهيم المجردّة غير كاملة، لذا نجده يفسر كل ما نقوله له في شكل حرفي فعندما نقول له: «صعدت جدتك إلى السماء» سيفهم أن جدته فعلاً صعدت بإرادتها وعلى قدميها إلى السماء ولن يفهم أن روحها انتقلت إلى هناك.
وعليك أن تحاولي معرفة ما يريد إخبارك به منذ أسابيع، وأظن أنه في الإمكان إلغاء فرضية محتملة وهي الانتحار، وهذا التصرف نادر جداً لدى الأطفال. ومن المحتمل أن ابنك يكرر كلماتك وعن طريق التقليد فإن مفهوم الصعود إلى السماء أمر جديد عليه بالنسبة إليه وغريب في الوقت نفسه. لذا فإن تفسيرات إضافية تساعده على إيضاح الفكرة في رأسه.
فضلاُ عن ذلك هناك أمران آخران يمكن بلورتهما في رغبة ابنك في الموت. فربما هو يقول أنه يريد الصعود إلى السماء بسبب حزنه  وشوقه إلى جدته خصوصاً أنها اختفت فجأة ومن المؤكد أنه لم يستطع فهم هذا الانفصال. إذا كان هذا هو السبب ففي إمكانك مساعدته على التعبير عما يشعر به تجاه الموت أو تشجعيه على رسم صورة تعكس مشاعره. ومن المفيد أيضاً أن تحددي له ماذا كنت تعنين حين قلت له «صعدت إلى السماء»، بأن تكوني أقل تجريداً في وصفك. ويمكنك إذا لزم الأمر أن تصحبيه ووالده إلى مقبرة جدته ليضع الزهور ويصلي على روحها، وتأكدي أنه سيتكيف مع الفكرة في شكل جيد، فهذه الزيارة ستسمح له بأن يتعرف إلى مكان واقعي وملموس يجعله يفهم معنى الموت.
وهناك أيضاً احتمال آخر هو أن ابنك يحدثك عن أمور تحصل في حياته، فربما لسبب أو لآخر يكون في حاجة إلى الطمأنينة والأمان. بالإضافة إلى موت جدته، فإن هناك أحداثاً أخرى في حياته تجعله قلقاً ومتوتراً وتعباً إلى درجة تجعله يشعر في حاجة إلى الراحة، مثلا ربما تسبب له المدرسة أو الأصدقاء أو لعبته أو خلافات عائلية هذا التوتر. لذا حاولي أن تحددي السبب الذي يجعله متوتراً كي تساعديه على التخلص منه.

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080