التوحّد اضطراب صامت وهذه هي أعراضه
عندما أخبرتني اختصاصية طب الأعصاب عند الأطفال أن ابني مصاب بـ«التوحّد» Autism لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. فطفلي الذي حملت به تسعة شهور، وانتظرته بفارغ الصبر، وحلمت بكلماته الأولى يناديني «ماما» وخطواته الأولى وهو يتعثر، تصورت ابتسامته بعد كل وجبة طعام وفي كل مرة أحضنه... لن يعرفني! إنه غائب في عالمه الذي لم أستطع ولن أستطيع أن أغوص فيه.
لم أكن أدري أن طفلي الجميل مصاب بهذا الاضطراب الصامت إلا عندما بلغ السنتين. رغم أنني كنت ألاحظ أن اكتسابه للمهارات والتصرفات متأخر عن باقي أقرانه، لكنني لم أتوقع أن هذه الإصابة التي وُلدت معه سوف تمنعنا من التواصل».
ما هذا التوحّد الذي بدأت نسبته تزداد في عالم الأطفال، خصوصًا الأولاد؟ وما هي أسبابه؟ ولماذا نسبة الإصابة به عند الذكور أعلى من الإناث؟ وهل يمكن الشفاء منه؟عن هذه الأسئلة وغيرها تجيب الاختصاصية في التقويم التربوي الدكتورة لمى بنداق.
- ما هو اضطراب التوحّد؟
كلمة «توحّد» مترجمة عن اليونانية وتعني العزلة أو الانعزال، والجمعية الأميركية للطب النفسي قدمت تعريفًا من حيث المعايير في التشخيص ورد في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، الطبعة الخامسة الصادرة في حزيران/يونيو 2013، وهو: قصور نوعي في التفاعل الاجتماعي، وقصور نوعي في التواصل واللغة، ويتميّز بالسلوكيات النمطية وممارسة الأنشطة والاهتمامات المحدودة.
والدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-V أدرج التوحّد في باب اضطرابات التطوّر العصبي Neurodevelopmental Disorders حيث يظهر قبل سنّ الثالثة، ويتمثل بعدم تطوّر اللغة، وبخلل في التواصل الكلامي وغير الكلامي، وحركات متكرّرة، وتصرفات محدودة، وعدم القدرة على الانخراط بالمجتمع. والبنات اللواتي يصبن بالتوّحد أكثر عرضةً لظهور تخلف عقلي شديد.
- ما هي نسب انتشار اضطراب التوحّد؟
تقدّر نسبة الإصابة بالتوحّد ما بين 2-5 حالة من كل 10000 ولادة في الولايات المتحدة الأميركية. ولا تتوافر إحصائيات دقيقة عن عدد المصابين في الدول العربية. ويعرف أن اضطراب التوحّد يصيب الذكور أكثر من الإناث بمعدل 1 إلى 1، وهي إعاقة تصيب الأسر من كل الطبقات الاجتماعية ومن مختلف الأجناس والأعراق.
- كيف يتم تشخيص اضطراب التوحّد؟
لا اختبارات طبية لتشخيص حالات التوحّد، ويعتمد التشخيص الدقيق الوحيد على الملاحظة المباشرة لسلوك الفرد وعلاقاته بالآخرين ومعدلات نموّه. وغالبًا ما نرى الأم قادرة على تحديد وجود مشكلة في التواصل لدى الطفل منذ شهوره الأولى.
- ما هي أسباب اضطراب التوحّد؟
لا يمكننا القول إنه مرض وراثي، لأنه أيضًا يرتبط بالعامل البيئي. فقد يكون الطفل حاملاً للجين المسبّب للمرض، ثم يتعرض أولاً لبيئة تشجّع ظهور أعراض المرض، ويرتبط التوحّد بعدد من الجينات وليس جينًا واحدًا، وهذه بعض النظريات التي توصلت إليها الأبحاث عن أسباب مرض التوحّد:
• لوحظ أن معظم الأطفال الذين يعانون التوحّد لديهم حساسية من مادة الكازين (وهي موجودة في اللبن وحليب الأبقار والماعز)، وكذلك الغلوتين وهي مادة بروتينية موجودة في القمح والشعير والشوفان.
• عندما يأخذ الطفل المضاد الحيوي، يؤدي ذلك إلى القضاء على البكتيريا الضارة والنافعة أيضًا في الوقت نفسه، وإلى تكاثر الفطريات التي تقوم بدورها في إفراز المواد الكيميائية.
• لقاح الحصبة، والحصبة الألمانية، والنكاف (أبو كعب). إذ لوحظ أن الأطفال المصابين بالتوحّد يعانون اضطرابات في جهاز المناعة مقارنةً بالأطفال الآخرين، وهذه اللقاحات تزيد الخلل، وبعض الدراسات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية أثبتت أن هناك علاقة بين الإصابة بالتوحّد وهذه اللقاحات.
• عند احتساب كمية الزئبق التي تصل للطفل من طريق إعطائه اللقاحات، تبين أنها أعلى بكثير من النسبة المسموح بها وفق لوائح منظمة الأغذية العالمية والأدوية الأميركية. وهذه النسبة تعتبر سامّة وضارة بصحة الطفل، ويُعتقد أنها قد تكون من الأسباب التي تؤدي إلى التوحّد.
- ما هي دلائل وجود حالة اضطراب التوحّد؟
ظهور ستة أعراض على الأقل وبشكل مستمر، من الأعراض الآتية:
• ظهور ملحوظ لقصور أو خلل نوعي في قدرات التفاعل الاجتماعي من خلال اثنين على الأقل من الأعراض الآتية:
• قصور واضح في استعمال صور متعدّدة من التواصل غير اللفظي مثل تلاقي العينين أو تعابير الوجه أو حركات وأوضاع الجسم في المواقف الاجتماعية والاتصال مع الآخرين.
• الفشل في تكوين علاقات مع الأقران تتناسب مع العمر.
• قصور في القدرة على المشاركة العفوية مع الآخرين في الأنشطة الترفيهية أو الهوايات أو إنجاز أعمال مشتركة.
• غياب المشاركة الوجدانية أو الانفعالية أو التعبير عن المشاعر مع الآخرين.
• قصور كيفي في القدرة على التواصل اللفظي، وغير اللفظي كما يظهر من الأعراض الآتية:
• تأخّر أو غياب تام في نمو القدرة على التواصل بالكلام (التخاطب) وحده (بدون مبادرة أو مساندة أي نوع من أنواع التواصل غير اللفظي للتعويض عن قصور اللغة).
• بالنسبة إلى الأطفال القادرين على التخاطب، وجود قصور في القدرة على المبادرة بالحديث مع الشخص الآخر وعلى مواصلة هذا الحديث.
• التكرار والنمطية في استخدام اللغة، واستعمال مفردات غير مفهومة أو مقبولة.
• غياب القدرة على المشاركة في اللعب التخيّلي أو الإيهامي والتقليد الاجتماعي الذي يتناسب مع العمر ومرحلة النمو.
• اقتصار نشاطات الطفل على عدد محدود من السلوكيات النمطية كما يكشف عنها واحد على الأقل من الأعراض الآتية:
• استغراق أو اندماج كلي في واحد أو أكثر من الأنشطة أو الاهتمامات النمطية الشاذة من حيث طبيعتها أو شدّتها.
• الجمود وعدم المرونة الواضح في الالتزام والالتصاق بسلوكيات ونشاطات روتينية أو طقوس لا جدوى منها .
• حركات نمطية تُمارس بتكرار وغير هادفة مثل طقطقة الأصابع أو ثني الجذع إلى الأمام والخلف أو حركة الذراعين أو اليدين.
• انشغال بأجزاء أو أدوات أو أجسام مع استمرار اللعب بها لمدة طويلة .
- كيف يمكن علاج اضطراب التوحّد؟
لا علاج طبياً لاضطراب التوحّد، وثمة حالات نجد فيها أن بعض الأطفال المصابين باضطراب التوحّد يعانون حساسية من أطعمة معينة. وهذا يتطلب غذاءً خاصاً. أمّا العلاج التربوي السلوكي فهو ضروري في حالة وجود طفل يعاني التوحّد.
وهذا يتضمن التدخل المبكر والتأهيل بواسطة الاختصاصيين بدءًا بالتشخيص الطبي والأكاديمي، ويكون بواسطة الأطباء واختصاصيي التقويم النفسي التربوي، مرورًا باختصاصيي تقويم النطق واللغة ومعالجي النفس- حركي، وصولاً إلى المربّين التقويميين للعمل الفردي أو الجماعي مع الطفل. وفي معظم الحالات، يطلب مساندة العلاج النفسي للأهل وللطفل بحسب حالته.
وأهم البرامج التربوية والتأهيلية المتبعة للأولاد الذين يعانون التوحّد، نجد:
• برنامج علاج وتربية الأطفال المصابين بالتوحّد ومشكلات التواصل
Treatment and Education of Autistic and Related Communication Handicapped Children (TEACCH)
• برنامج التحليل السلوكي التطبيقي Applied Behavioral Analysis (ABA)
• برنامج التواصل من خلال تبادل الصور (البكس) Picture Exchange Communication System (PECS)
• العلاج بالحياة اليومية (مدرسة هيغاشي) التدريب في المجموعة
Daily Life Therapy the Higashi Approach: Training in a Group
• برنامج «ليب» للأطفال الذين يعانون التوحّد
Learning Experiences an Alternative Programming (LEAP)
• برنامج «صن رايز» Son Rise
• نظام التعليم المبكر في هاواي Hawaii Early (Learning Profile HELP)
هل يمكننا القول إن الذين يعانون اضطراب التوحّد لا يستطيعون أن يصبحوا أعضاء فاعلين وعاملين في المجتمع؟
كلا، لأننا لا نستطيع التنبؤ بمدى تطورهم، ولهذا ندعو الى التدخل المبكر لبلوغ أقصى ما يمكن الوصول إليه. وللمثال، هناك الكثير من المبدعين في مجالات عدة يعانون التوحّد واستطاعوا أن يصبحوا أعضاء فاعلين وعاملين في مجتمعاتهم، ومثال على ذلك Birger Sellin وهو أول كاتب ألماني يعاني التوحّد وأصدر أول كتبه بعنوان «لا أريد أن أبقى في داخل جسدي بعد الآن، رسائل من عقل يعاني التوحّد»، وقد تُرجم إلى العديد من اللغات... و Satoshi Tajiri الياباني الذي اخترع وصمّم شخصية «بوكيمون» الكرتونية وكان يعاني متلازمة «الأسبرغر» Asperger syndrome، وقد أُلغيت هذه التسمية ليحلّ بدلاً منها مصطلح «اضطراب التوحّد».
- كيف يمكن مساعدة الطفل المُصاب باضطراب التوحّد لتسهيل روتينه اليومي؟
• الحذر من التكلم معه بعبارات تتضمن أكثر من معنى
الأطفال الذين يعانون اضطراب التوحّد غالبًا ما يفهمون الأمور حرفيًا، لذا يجب تفادي التكلم معهم بعبارات تتضمن أكثر من معنى، والتي يمكن أن تؤدي إلى مشاكل في الفهم. فمثلاً عندما تقول الأم: قوي كالأسد، فهذه عبارة تشكل قلقاً كبيرًا للطفل المصاب.
ومع ذلك، إذا أخذت الأم الوقت لشرح معنى التعبير للطفل، فمن المرجّح أن يفهم. وهكذا في المرة المقبلة في إمكانه فك شفرة المعنى الحقيقي لهذا التعبير.
• مفهوم الزمن
يصعب على الأطفال الذين يعانون اضطراب التوحّد، إدراك المفاهيم المجرّدة، ولا سيّما مفهوم الزمن. ومن أجل مساعدتهم في فهمها، يجب إعطاؤهم إشارات بصرية، مثل جهاز التوقيت، تحديد الوقت، الساعة الرملية... أو ببساطة إعلامهم بمسار اليوم أو النشاط.
وهذا سوف يساعدهم على فهم معنى الوقت وسيكون له تأثير إيجابي في تقليص شعورهم بالقلق. وعلى الأم أيضًا تجنب كلمات مثل: في بعض الأحيان أو الآن فقط.
هذه العبارات غالبًا لا يكون لها معنى بالنسبة إلى الطفل المُصاب باضطرابات طيف التوحّد. لذا على الأم أن تكون دقيقة ومحددة، في معنى الوقت بشكل صوري، مثلاً وضع روزنامة زمنية، رسم جدول زمني... وهذا سوف يساعده كثيرًا في فهم المعنى المجرّد للوقت.
• تحديد والحد من اجتياح الأحاسيس
يخشى الطفل المُصاب باضطراب التوحّد الأحاسيس القوية، مثل الضجيج والضوء القوي، والأصوات المرتفعة المفاجئة، والملابس المربكة، فهي تزعجه جدًا إلى حد الغضب.
لذا يمكن الأهل القيام بالكثير من الأمور للحد من الأحاسيس غير السارة التي يتعرض لها. ويكون ذلك عبر توفير بيئة هادئة ومواتية للتعلم، ارتداء ملابس مريحة، تجنيبه روائح العطور القوية، والأمكنة التي فيها حشود كثيرة...
• احترام إيقاعه
قد يستغرق إنجاز مهمة ما بالنسة إلى طفل مصاب باضطراب طيف التوحّد وقتًا طويلاً مقارنةً بطفل في مثل سنّه لا يعاني أي صعوبة. لذا، من المهم منحه الوقت الإضافي الذي يحتاج إليه لإنجاز مهمة ما.
فمن الضروري احترام إيقاع الطفل المصاب باضطراب التوحّد. ففي بعض الأحيان، يحتاج إلى وقت طويل لفهم المطلوب منه، وكذلك يستغرق وقتًا أطول من غيره في إنجاز المهمة، فإيقاعه يختلف عن الآخرين. لذا، على الأهل التكيف مع هذه المسألة واحترام إيقاعه.
• توفير أدوات مختلفة
تعتبر نقاط المرجع البصرية مهمة جدًا بالنسبة إلى الأطفال الذين يعانون اضطراب طيف التوحّد. فهي تساعدهم على فهمٍ أفضل لبيئتهم وكذلك ما هو متوقع منهم. وقد ثبت أن لدى هؤلاء الأطفال مهارات بصرية جيدة جدًا.
والتعليمات الشفوية سيكون لها تأثير أكبر بكثير إذا كانت مدعومة بصور أو صورة مكتوبة. نحن جميعًا نعمل مع الإشارات البصرية. تخيّلوا كيف ستكون حركة المرور من دون توقف في زاوية الشارع، فإنه سيكون معقداً للغاية!
لمساعدة الطفل الذي يعاني اضطراب التوحّد، يجب استعمال الصور التوضيحية، فعادة ما تكون في غاية الفعالية.
وهي الأداة التي يمكن استعمالها لمساعدته على فهمٍ أفضل لبيئته. وبالإضافة إلى ذلك، فإنها فعّالة في ما يتعلق بالمطلوب منه وما يتوقعه منه الأهل. باختصار، الصور التوضيحية هي وسيلة جيدة للاتصال بالأطفال المصابين باضطراب طيف التوحّد.
• توفير الوسائل التي تعزز التفاعل مع محيطه
قد يواجه الطفل الذي يعاني اضطراب التوحّد صعوبة في فك القواعد الاجتماعية، وفهم مشاعره ومشاعر الآخرين. وبالتالي فإن التفاعل مع أقرانه الذين هم في سنّه أكثر صعوبة. وهذه بعض الوسائل التي تساعده في التفاعل مع الآخرين:
• البدء بالألعاب المتوازية
إذا كان الطفل غير قادر على المشاركة في مباريات الفريق أو العمل الجماعي من تلقاء نفسه، يمكن الأم دعوته إلى مشاركتهم بلحظات ليكون قريبًا من أقرانه. مثلاً تشجيعهم أثناء اللعب.
• تشجيع الألعاب التفاعلية
تشجيع الطفل المصاب باضطراب التوحّد على المشاركة في نشاطات المجموعات الصغيرة، وإعطاؤه الفرصة لتجربة تفاعلات صغيرة النطاق حتى يتمكن من تذوق طعم النجاح ويشعر بالمتعة، والتركيز على المناطق التي يتفوق فيها، خلال النشاطات الجماعية، بغية جعل الوصول إلى التحدّي مجزيًا.
• تعزيز الصداقات الثنائية
يمكن الأم تشجيع الصداقة الثنائية مع الأخذ في الاعتبار قدرات الطفل واهتماماته.
• إبلاغ المحيط الموجود فيه
من المهم أن يعرف الأشخاص المحيطون بالطفل المُصاب باضطراب طيف التوحّد بمشكلته، فذلك غالبًا ما يؤدي إلى التسامح معه وتفهّم تصرفاته، وبالتأكيد يسهّل عليه التعامل مع الآخرين.
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024