ذراع، ساق، مفصل...
عندما يتعرّض الإنسان لحادث مريع، قد يخسر الكثير، وإن نجا بحياته! ففقدان عضو في الجسم، أمر فظيع ومؤسف.
لكن، بفعل تطوّر الطبّ والجراحة والعلم، بات من الممكن التعويض قدر المستطاع عن «الخسارة»، عبر الإستعانة بأعضاء صناعية بديلة من شأنها أن تُعيد الشكل الخارجيّ الطبيعيّ والمقبول للمرء، لكن الأهمّ أنها تقوم بوظائف الجزء المفقود.
فلا يبقى الإنسان بعضو مبتور أو مشوّه أو محروق! وإلى جانب الأثر العلاجي المهم الذي تلعبه هذه الأعضاء الصناعية فإنها تحقّق فوائد نفسية عظيمة في إعادة تأهيل المريض وتمكينه من ممارسة حياته دون أن يشعر بأنه مختلف عن الآخرين في شيء.
فالأعضاء الصناعية الحديثة تكاد لا تفرَّق عن العضو الطبيعيّ، بفعل الإحترافية الكبرى في تصنيعها وكفاءة الإختصاصيين.
ومن المرجّح أن يكون لها دور كبير في إعادة إنخراط الشخص «المريض» في روتين الحياة العادية، ذلك أنّ المرء لا يحبّ أن يشعر بالنقص الجسديّ أو بالعجز لإتمام حاجاته الخاصة. وقد جاء مبدأ تطوير الأعضاء الصناعية ليخدم هذا الهدف.
الجراحة التعويضية هي أحد فروع الطب الذي يعنى بتوفير الأعضاء الصناعية للجسم. يحل الجزء الصناعي الذي يسمى بديلاً، مكان الجزء المفقود من الجسم نتيجة لإصابة، أو مرض، أو لنقص منذ الولادة.
ويؤدي الجزء البديل واحداً أو أكثر من ثلاثة أغراض أساسية: فيقوم بوظائف الجزء المفقود على أفضل وجه بقدر الإمكان، ويوفر مساندة بنيوية لبقية الأنسجة، كما يحسّن مظهر الشخص.
من جهة أخرى، قد يشعر المريض بالغبن واليأس، كونه فقد جزءاً أساسياً من تكوينه، فلا بدّ من المتابعة النفسية، لإعادة الأمل إلى الحياة، وحتى يتقبّل فكرة الطرف الصناعي الذي سوف يلازمه كجزء من جسمه، ليتمكّن من متابعة حياته وروتينه والإنخراط في المجتمع.
يشرح السيد إيلي نجّار، إختصاصيّ الأطراف الصناعية والأجهزة التقويمية Prosthetist-Orthotist، عن تطور الأطراف الصناعية، وما يتضمنه هذا الاختصاص.
كما تفسّر الإختصاصيّة في علم النفس سحر عبيد عن الشقّ النفسيّ والأثر المترتّب على «المريض» الذي يفقد عضواً طبيعياً ويستعين بالعضو الصناعيّ، مفصّلةً مراحل رفضه ومن ثمّ تأقلمه مع وضعه الجديد.
لمحة تاريخية
يقول نجّار: «إنّ فكرة الأطراف الصناعية بدأت منذ القدم مع القراصنة. و قد عرفت الإنتشار بعد الحرب العالمية الثانية.
وكانت مادة الخشب أول مادة أولية استُخدمت، فقد كانت تحفر جذوع الأشجار بأشكال أنبوبية أو مربّعة، ومن ثم بدأت فكرة الطرف المتحرك ذات المفصل حيث تمكّن المصاب من تحريك بسيط للطرف العلوي أو السفلي.
ويشمل ذلك الكف، اليد، مفصل الحوض، الكاحل والركبة».
بدأت صناعة الأطراف تتطوّر بشكل سريع في منتصف السبعينات من القرن الماضي، حيث قامت البلدان الصناعية بتطوير هذه الفكرة وهذه الصناعة. وقد حلتّ مادة البلاستيك بدلاً من المادة الخشبية لخفّة وزنها وسهولة تصنيعها من حيث الشكل والميكانيكية.
يتابع نجّار: «في منتصف الثمانينات و التسعينات، بدأ تصنيع المفاصل الميكانيكية والهيدروليكية، ثم ظهر المفصل الإلكتروني مع ظهور أجهزة الكمبيوتر، وخاصة مفصل الركبة الذي يؤدي مهمة المفصل كما لو كان مفصلاً طبيعياً.
أما اليوم فلا تزال هذه الصناعات تواكب التطور والتقدم. فالمراكز اللبنانية مثلاً تستورد معظم المواد الأولية لتصنيع الأطراف الصناعية من الخارج، و منها الركبة الميكانيكية أو الهيدروليكية، بعد تصنيعها بحسب المقاسات والمواصفات وفق حاجة كل مريض».
أعضاء صناعية
يقول نجّار عن ميدان عمله: «يشمل هذا الإختصاص الأجهزة التقويمية التي تساعد في معالجة الجزء المتضرر من الجسم بسبب حادث ما أوبسبب شلل دماغي أو شلل نصفي أو شلل رباعي أو تشوه خلقيّ عند الولادة.
وقد يشمل هذا أجهزة للأطراف السفلية أو العلوية، وأجهزة لمعالجة إعوجاج العمود الفقري في فترة النمو عند الاطفال». كما تشمل هذه المهنة صناعة الأحذية الطبية والضبانات الطبية للمساعدة في تقويم وضعية القدم وحركتها.
إختيار نوع الطرف
إنّ إختيار نوع الطرف الصناعي، يعتمد على مقاسات وخصائص كلّ حالة بمفردها، آخذاً في الإعتبار السن و البنية و المهنة ( مراهق - متقدم في السن - رياضي - مزارع - رب عمل...). و يتم التعاون بين الإختصاصيّ و المريض للتحضير النفسي والشرح المفصّل للمريض ليتمكن من تقبل حالته الجديدة.
يقول نجّار: «بعد عملية البتر، يركّب للمريض طرف صناعي تجريبيّ، مهمته تخفيف الورم و تقوية العضلات للطرف المبتور و تأهيله لوضع طرف صناعي نهائي.
و يرافق ذلك التمارين المطلوبة و التحضير النفسي ليكون المريض مؤهلاً لوضع الطرف». فللتدريب الجسدي و النفسي من قبل الإختصاصيين، دورا أساسيّ في قبول الطرف الصناعي وإعادة المريض إلى المجتمع وتأقلمه مع البيئة المحيطة به ليصبح عضواً فعّالاً في المجتمع.
عمليّة التأهيل
من الضروريّ معرفة أنّ الأطراف الصناعية والأجهزة الطبّيّة المساعدة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعناصر عملية التأهيل الأخرى التي تشمل العلاج الطبيعي والعلاج الوظيفي والإرشاد والدعم النفسي.
فالعلاج الطبيعي يقوم بإعداد المريض لإستقبال الأطراف الصناعية والأجهزة الطبيّة المساعدة، من خلال تخفيف الألم وتقوية العضلات وتحسين التوازن عن طريق التمارين العلاجية والعلاج اليدوي والكهربائي بالإضافة إلى العلاج المائي.
أما العلاج الوظيفي فدوره لا يقل أهمية عن العلاج الطبيعي في عملية إعداد المريض لإستقبال الأطراف الصناعية، بالإضافة إلى تدريب المريض على إستخدامها بالشكل الصحيح، ذلك أنّ الإستخدام الخاطئ يؤدي إلى نتائج عكسية ومضاعفات جانبية أخرى.
تفسّر عبيد: «من جهته، يقوم الإرشاد والدعم النفسي في مساعدة المريض على تقبل الأطراف الصناعية وتوضيح أهمية التعاون مع إختصاصيّ التأهيل للوصول إلى أعلى درجات الاستقلالية والعلاج.
ويعمل المرشد النفسي كحلقة وصل بين المريض وإختصاصيّ التأهيل».
مساعدة نفسيّة
تشدّد عبيد على «وجوب المتابعة النفسية للمريض لأنها كفيلة بمساعدته على إزالة العوائق النفسية والصعوبات التي تحول دون الإنخراط في المجتمع والإندماج في الحياة اليومية. كما تزيد ثقة الشخص بإعتماده على ذاته وتقبّل حالته الجديدة والتأقلم مع العضو الصناعي.
فالإختصاصيّ النفسي يعمل على رفع المعنويات والثقة بالنفس، كما يدرس الآثار النفسية التي يمكن ترقّبها حتى يستطيع الإحاطة بالفرد من كل الجوانب ومساعدته في المرحلة الصعبة ليتخطاها بأقلّ ضرر نفسيّ ممكن».
تتابع: «لا بدّ من الإشارة إلى أن الشخص الذي فقد عضواً حيوياً من جسمه، سوف يعاني لا محالة من حالة يأس أو ضياع أو رفض للواقع الأليم في البداية. وقد لا يتقبّل فكرة إستخدام العضو الصناعي.
لذلك، يجب تفهّم وضعه ومحاولة مساعدته تدريجياً في قبول العضو أولاً، وفي إعادة الإنخراط في المجتمع والخروج بين الناس ومعاودة الحياة اليومية».
ذلك أنّ شعور عدم الإنتماء وشعور الشفقة من الآخرين قد يدفعان به إلى الإنزواء. ومن هذا المنطلق، يجب العمل على تعزيز الثقة بالنفس والتركيز على المقدرة من خلال الشخصية والذكاء والمهنية وما يمكن أن يضيفه هذا الفرد في المجال العائلي أو الإجتماعي أو حتى المهني.
نصائح
بادئ ذي بدء، إنّ حياة الشخص الذي فقد يداً أو رجلاً أو ما شابه سوف تتغيّر لا محالة. لذلك، وبحسب نصيحة علم النفس، ترى عبيد أنه «على الأهل والمحيط أن يتأقلموا أيضاً مع الواقع الجديد! فلا يجوز أن يشعر المريض بنظرات الشفقة والإحسان التي من شأنها أن تزيد الطين بلّة.
وإنما يجب أن يتعاونوا معه لتسهيل إنتقاله إلى المرحلة المقبلة بسلاسة وعقلانية. إضافةً إلى ذلك، لا بدّ من تثقيف المجتمع العامل على أنّ الشخص الذي يستعين بعضو صناعيّ هو قادر على الإنتاج، فلا يجوز تصنيفه على أنه «معوّق» أو الإستغناء عن خدماته في العمل، إذا لم يكن يتعارض مع وضعه الجديد».
وفي النهاية، كلّنا عُرضة لحوادث مؤسفة في حياتنا، ولكن يبقى الأهمّ هو تأقلمنا مع كلّ طارئ بطريقة تتيح لنا فرصة العيش بكرامة وإحترام وتصالح مع الذات.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024