طفلات مطلّقات.. مأساة رغم أنف القانون!
رغم أنف القانون الذي لا يسمح بتزويج الفتاة قبل أن تكمل الـ 18 عاماً، هناك آباء يضحّون بطفولة بناتهم من أجل زواج سريع، لتصبح القاصر زوجة تحمل وتنجب وهي ما زالت في عمر الطفولة.
والنتيجة في الغالب طلاق سريع، وهو ما أدى الى ظهور نسب كبيرة من الطفلات المطلّقات في مجتمعاتنا العربية، بل ومنهن أمهات أيضاً.
في مصر، ورغم تحديد القانون الحد الأدنى لسن الزواج بـ18 عاماً، يشكل زواج القاصرات 15 في المئة من نسبة المتزوجات، هذا ما أكدته دراسة اجتماعية حديثة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية، والتي كشفت أيضاً أن زواج القاصرات يزيد من ارتفاع نسبة الطلاق المبكر.
6 أشهر زواج
هذا ما حدث فعلاً مع أميرة ابنة الـ17 عاماً، بحيث لم تُكمل الأشهر الستة في منزل الزوجية، لتعود إلى بيت أبيها مطلّقة وحاملاً بطفل.
أميرة من بدو شمال سيناء، وهي محافظة تقع على الحدود مع قطاع غزة، وتقضي فيها عادات البدو وتقاليدهم بضرورة تزويج الفتيات باكراً، لذا خُطبت أميرة لأحد أبناء الجيران حين كان عمرها 14 عاماً، وتزوجت مع بلوغها سن الـ15، وتقول: «نحن ستة أشقاء، خمس بنات وصبي واحد هو الأصغر بيننا وعمره ست سنوات، وبغض الطرف عن أنني تزوجت في العمر الطبيعي الذي تتزوج فيه الفتيات في قبائلنا، كنت أطمح الى استكمال تعليمي المتوسط، لكن تعذّر عليّ ذلك بسبب العادات والتقاليد، حتى لا يُطلق عليَّ لقب «عانس»، كما كان عليّ أن أقبل بالزيجة حتى أخفف العبء عن كاهل أبي، كما أخبرتني والدتي».
وتتابع: «عندما تزوجنا، كان زوجي في العشرين من عمره، ورغم تقاربنا في السن، لم أعرف معه معنى الحب والسكن والمودة، بل على العكس، كان يضربني ويهينني منذ الأسابيع الأولى لزواجنا، وكانت البداية عندما أخبرني أن أمه ستأتي لتناول الغداء معنا، لكنها حضرت باكراً الى منزلنا، ولم أكن بعد قد شرعت في إعداد الطعام، فأخذ يعنّفني ويشتمني بأقظع الألفاظ، ويضربني بقسوة، من دون أخبر أهلي بشيء».
لم تقوَ أميرة على الكشف عن إهانة زوجها وضربه لها إلا عندما أصابها نزيف في إحدى المرات وهي حامل، وتحكي: «أخبرت أبي بأنني أريد الطلاق بسبب ضرب زوجي المبرح لي، وأنني أخاف على الجنين، ففي آخر مرة تعرضت لنزيف حاد بعدما ضربني هو وأمه، التي كانت تغار مني عليه وكأنني ضرّتها، ومن هنا ثار غضبي في بيت أهلي، لكن زوجي رفض الطلاق، وكان العائق الأكبر بالنسبة إليّ أن الزواج عرفي وموثّق بعقد نصّه محامٍ، لأن القانون المصري يمنع زواج القاصرات، كما أن الزواج العرفي في عاداتنا ليس عيباً أو حراماً ما دام مُشهراً، لكن المشكلة الكبرى كانت في أن إثبات الزواج في المحكمة ورفع دعوى للطلاق قد استغرقا حوالى العام، وهو وقت أجده طويلاً».
وتنهي أميرة حديثها قائلة: «أعمل حالياً في إحدى الجمعيات الأهلية، وأطرّز العباءات البدوية التي تُباع في المدن الكبرى، مثل القاهرة، أو يتم تصديرها، وذلك من أجل تأمين نفقات العيش لي ولابني الرضيع، فتجربة الزواج بالنسبة إليّ كانت مُرّة».
اختلاف ثقافي
أما فيروز، فتزوجت في الـ16 من عمرها، وكانت يومها في الصف الثاني الثانوي، وتحكي قصتها قائلة: «رغم أننا نعيش في القاهرة، لكن أصولنا الريفية ما زالت تفرض علينا الزواج في سن صغيرة، وكلما كانت الفتاة صغيرة، كان فارق السن بينها وبين طفلها الأول قليلاً، مما يشكل مصدر فخر للعروس وأسرتها، وبالتالي عندما تقدم لي العريس لم تدم خطبتي أكثر من ثلاثة أشهر وتزوجنا سريعاً».
وتضيف: «تحايلاً على القانون، تزوجت من طريق مأذون لم يوثّق الزواج رسمياً في سجلات الدولة، على أمل أن يتم تسجيله عندما أبلغ الـ18 عاماً، لكن مشكلتي الأساسية كانت في اختلاف الثقافة بيني وبين زوجي، فقد تزوجنا سريعاً وانشغلنا في تحضير الشقة أثناء فترة الخطوبة القصيرة، وبعد الزواج اكتشفت أنه ينتمي إلى فصيل سياسي مُدرج في قوائم الإرهاب في الدولة، هذا فضلاً عن قسوة معاملته لي، مما فاقم الخلافات بيننا، والتي تطورت إلى الضرب والإهانة، فطلّقني بعد ثلاثة أشهر من الزواج، وعدت إلى منزل أبي وأنا حامل في الشهر الثاني».
فيروز تستكمل حالياً تعليمها الثانوي، وتدرس في المنزل، وتقول: «أُصبت باكتئاب شديد أثناء الحمل، فلم أكن أعلم كيف سأواجه الحياة وأنا مسؤولة عن طفل، وتعرضت أيضاً لاكتئاب ما بعد الولادة، خاصة أنني كنت أخشى على ابنتي من أن تواجه مصيري نفسه في الزواج المبكر، فذهبت الى طبيب نفسي، وبعد تلقيّ عدداً من جلسات العلاج، استقرت حالتي النفسية، عندها قررت استكمال تعليمي لكي أربّي ابنتي على ثقافة مختلفة عن ثقافة أهلي، التي جعلتني أمّاً مطلّقة وأنا ما زلت طفلة وفق قانون الدولة».
مجتمع خارج الدولة
«تواجه الأمهات القاصرات المطلّقات مشاكل قانونية عدة، أهمها اختلاط الأنساب»، هذا ما تؤكده المحامية عزة سليمان، رئيسة مركز قضايا المرأة، وتقول: «تزويج القاصرات هو مجتمع خارج الدولة تماماً، إذ تفشل الدولة وقوانينها في فرض السيطرة عليه».
وتشير عزة إلى أن اختلاط الأنساب هو الأكثر خطورة في تزويج القاصرات، قائلة: «التحايل على القانون يكون بالتزويج العرفي أو الشفهي، ومع حدوث خلاف بين زوج البنت وأبي الزوجة ووصول الأمر إلى الطلاق، قبل أن تضع الفتاة القاصر مولودها، والتي لم يوثّق زواجها، يبدأ الزوج في التلاعب والضغط والتهديد بعدم نسب الطفل إليه، فتتصاعد وتيرة الخلافات ويزداد أبو الزوجة عناداً، ويهدد بدوره زوج ابنته بحرمانه من الطفل، ويستمر الطرفان في المشاكل حتى يسجل أبو الزوجة المولود باسمه، فيصبح بذلك شقيق الفتاة رسمياً، رغم كونه ابنها، ومن هنا تواجه الفتاة مشكلة اختلاط الأنساب كنوع من عقاب الزوج، كذلك تعاني الأم القاصر المطلّقة من سقوط قيد طفلها لفترة، حيث إن من الصعب تسجيل الطفل لأم لم تبلغ الـ18 عاماً، وهنا يُسجل الطفل كساقط قيد لكن بعمر أقل، مما يعرّضها لمشاكل أكبر حين دخوله الى المدرسة، لكن الطامة الكبرى تكون في عدم تمكن الطفل من الحصول على اللقاحات الصحية الحكومية، مثل شلل الأطفال، فتتكبد الأم القاصر المطلّقة خسائر مادية في تطعيم الطفل في العيادات الخاصة».
وتفيد المحامية عزة سليمان بأن القاصر تفقد بعد تطليقها أي حقوق مالية من نفقة وخلافه، وحتى مع رفع العديد من القضايا، والتي تخسرها في النهاية، يبقى المكسب الوحيد لها هو تمكنها من خلال القانون من إثبات نسب الطفل الى الأب.
وبناء عليه، تنتقد رئيسة مركز قضايا المرأة، مقولة «القانون لا يحمي المغفلين»، مؤكدةً أن تلك المقولة تشجع على هضم حقوق الجهلاء والفقراء، لكن على الدولة توعيتهم بتلك الحقوق التي يكفلها لهم القانون، وبناء عليه، ما زالت حقوق المرأة في حاجة ماسة إلى سن القوانين الصارمة، لا سيما في ما يتعلق بقضية القاصرات، بالإضافة إلى تفعيل تلك القوانين من أجل تغيير مفاهيم المجتمع لها.
عمل إجرامي
أما النائبة البرلمانية الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر، فتقول: «مسألة تزويج الأطفال عمل إجرامي، بسبب تحميل القاصر ما لا تقوى عليه في عملية الزواج، وما يترتب عنها من مسؤولية زوج وبيت أطفال، فالأهل لا يدركون مدى الإجرام عندما يوافقون على هذا النوع من الزواج، لذا يجب التشدّد في القوانين لردع هؤلاء السفهاء، الذين لا ينظرون بحكمة إلى أطفالهم».
وتضيف: «يعمد البعض الى تزويج الأطفال من دون أن يحسبوا الأضرار النفسية والاجتماعية عليهم، متذرعين بأن الرسول تزوج السيدة عائشة وكان عمرها تسع سنوات، لكن هذا هراء، وتم التحقق من الأمر، فالسيدة عائشة لم تتزوج الرسول مقارنةً بالمرحلة العمرية بينها وبين السيدة أسماء إلا عندما كان عمرها يراوح بين 16 و18 سنة، فتزويج الأطفال استشهاداً بالرسول ما هو إلا هوس في نفوس هؤلاء الرجال، الذين يهوون زواج الأطفال، فهم يستندون الى هذا النوع من الروايات ليشرّعوا رغباتهم الإجرامية».
وتلقي النائبة البرلمانية باللوم على الآباء في ما يصل إليه حال الفتيات القاصرات المطلّقات، وتقول: «هؤلاء لا يراعون فارق الزمن، فجدّاتنا كان نضجهن الجسدي منذ 100 سنة أفضل مما نحن عليه الآن، ولم يدخلن مدارس أو يتعلمن، وكان يتم تأهيلهن منذ طفولتهن ليتحملن مسؤولية الزواج المبكر بدنياً ونفسياً، ولأداء مهمة الأمومة، أما الآن فالظروف اختلفت، وما من طفلة يمكنها تحمل مسؤولية الزواج والإنجاب».
أمراض نفسية
في الجانب النفسي، يؤكد الدكتور أحمد عبدالله، أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق، أنه يجب في المقام الأول تحديد المشكلة لمعرفة كيفية علاجها، فهناك بعض الآباء يدّعون بأن تزويج القاصرات يأتي كنوع من الخوف على الفتيات وسترهن باكراً لإشباع رغباتهن الطبيعية، وهنا يمثّل الإنجاب المبكر المشكلة الكبرى حيث يشكّل خطراً على صحة القاصر، وفق تأكيدات الأطباء، كما أن الإنجاب قرار، وعلى الزوجين التخطيط له جيداً والاتفاق على الموعد المناسب، وهنا تلعب التوعية دوراً كبيراً لدى جميع الأطراف من أهل وأزواج.
ويتابع أستاذ الطب النفسي: «لكن تزويج القاصر دون رغبتها مع مرورها بتجربة الحمل والولادة والطلاق، يجعلها عرضة لمختلف أعراض الاكتئاب من قلق وتوتر وتفكير في الانتحار أيضاً، فتدخل الفتاة في دوامة تجعلها تكره طفلها وتصبح أكثر عنفاً في تعامله معه ومع المحيطين بها، وهنا يجب أن تخضع لجلسات من العلاج النفسي».
اعتبارات ثقافية
أما الدكتورة مديحة الصفتي، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية، فترى أن تزويج القاصرات خرق للقانون، لكنه خاضع لاعتبارات ثقافية غريبة وعادات وتقاليد وظروف فقر واحتياج مادي... وكلها لا تعترف بالقوانين. وتوضح: «الكارثة التي لا يعيها الأهل، أن الطفلة التي يتم تزويجها باكراً لا تكون مؤهلة لممارسة الحياة الزوجية، وقد أثبتت الإحصاءات أنهن سجّلن المعدلات الأعلى في الطلاق، لتعود القاصر إلى منزل أبيها وهي تحمل طفلاً فتُضاعف العبء المادي عليه من جديد، وكذلك العبء الاجتماعي بعدما أصبحت تحمل وصمة الطلاق، فتسارع الأسرة الى تزويجها مرة أخرى، لتتخلص من العبء المادي والعار الاجتماعي، من دون أن يدرك الآباء أنهم بذلك ينتهكون طفولة ابنتهم مرتين، فتكبر دوامة المشاكل الاجتماعية التي تخرّج للمجتمع أجيالاً جديدة من أطفال الشوارع.
القانون
رغم أن قانون الطفل الرقم 126 لعام 2008، تنص مادته الرقم 31 مكرر على أنه: «لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة، ويشترط للتوثيق أن يخضع الراغبَين في الزواج للفحص الطبي للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر في صحة كل منهما أو في صحة نسلهما، ويُعاقب تأديبياً كل من وثّق زواجاً بالمخالفة لأحكام هذه المادة»، إلا أن المأذون يوثّق الزواج العرفي بعد بلوغ الفتاة الـ18 عاماً، ويشترك مع الأهل في جريمة تزويج القاصرات من دون أن يتعرض لأي مساءلة قانونية.
أرقام مخيفة
أكدت دراسة حديثة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية، أن عدد زيجات القاصرات التي تمت في 2006 هو حوالى 153 ألف زيجة، تمثل نحو 29 في المئة من إجمالي حالات الزواج في ذلك العام. وأشارت بيانات التعداد العام للسكان للعام نفسه إلى أن حوالى 11 في المئة من الإناث في الفئة العمرية (16- 19 سنة) متزوجات حالياً أو سبق لهن الزواج.
وطالبت الدراسة برفع الوعي وإدماج الفتيات في التعليم وسوق العمل، مما يرفع عن كاهل الدولة العديد من الأعباء المترتبة عن الزواج المبكر، ولفتت إلى أن تأخر سن الزواج منتشر بكثرة بين السيدات المتعلمات، كما تتراجع الرغبة في الزواج المبكر بدخول المرأة إلى سوق العمل.
أسعار
لتزويج القاصرات في مصر بورصة أسعار معروفة في القرى والنجوع التي تشتهر بذلك، فعقد التزويج العرفي لدى المحامي، يراوح سعره من 1600 إلى 2500 جنيه، أما المأذون الذي يمنح الزوجين وثيقة زواج غير موثقة في السجلات الرسمية، على أن يتم تسجيلها بعد بلوغ الفتاة السن القانونية، فيتقاضى ما بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف جنيه.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024