بلغراد تفتح أبوابها للسياحة
إلى بلغراد، عاصمة صربيا، توجّهنا في رحلة سياحية. لم نكن ضمن مجموعة، بحيث لا تُتاح لنا الراحة الدائمة، ويصعب علينا تمضية الوقت كما يروق لنا في بعض الأماكن... لذا، انطلقنا برفقة صديقين واستمتعنا بأجمل الأوقات، وعدنا مع حنين لا يزال يسكننا ويشوّقنا للقيام برحلة مماثلة!
تحتلّ بلغراد المرتبة الخامسة في لائحة الأمان العالمي، وهذا ما أكدته لنا صديقة كانت قد انتقلت مع طفليها وزوجها للعيش في بلغراد، حيث مقر عمله الحالي.
ساعتان ونصف الساعة تفصل بيروت عن بلغراد. كان سائق سيارة الأجرة التابعة للفندق الذي سننزل فيه في انتظارنا. كان ينتظر والبسمة تملأ وجهه بينما يرفع لوحة صغيرة عليها أسماؤنا. استقبلنا كما لو أنه يعرفنا من قبل. وبعد أن أمضينا إجازتنا في هذا البلد الجميل، أدركنا كم أن شعبه مضياف ويُكرم السيّاح.
دقائق قليلة وصلنا بعدها إلى فندق «قسطنطين ذه غريت» حيث العصرية تسم ديكوراته، بدءاً من مدخله، مروراً بصالونات الاستقبال التي تميّزت بألوان البيج والغريج والأزرق، وصولاً إلى غرف نومه الشاسعة وجناح الاجتماعات.
في العاصمة بلغراد
بدأنا يومنا الأول في بلغراد باكتشاف معالمها سيراً على الأقدام، لنعيش تجربة التعرّف الى مدينة تنفض عنها غبار حرب وتفتح أبوابها رويداً رويداً للسياحة العالمية، وهي تُعرف كخامس دولة مصنّفة في الأمان.
وعبر الأروقة المخصصة للمشاة التي تبدو مهملةً إلا من النظافة، توجّهنا إلى ساحة البرلمان، الذي يكلّل قببه القرميد الأخضر، ويقابله مركز البريد ومبنى البلدية الذي تطوّقه حدائق غنّاء. ومن ثم تابعنا المسير نحو الساحات الأخرى لنكتشف معالم هذه المدينة... وفي الأثناء، دخلنا غابة بلغراد الكبيرة، حيث الممرات ومتحف وغرف صغيرة خشبية ومطاعم تدعونا للدخول.
لكن أكثر ما لفت انتباهنا هو كثرة عدد الكلاب التي كانت ترافق المشاة من حولنا! وبعد نهار طويل والتعرف إلى معالم المدينة وتنشّق هوائها العليل، كانت الاستراحة ليلاً في أحد المقاهي على ضفاف نهر «سابا»، حيث عزفت لنا فرقة موسيقية أجمل الأنغام ترحيباً بقدومنا.
في اليوم التالي، كان اللقاء في ساحة البرلمان حيث ركبنا باصاً سياحياً مخصّصاً للنزهات، للتعرف عن كثب على أروقة البلدة واكتشاف معالمها التاريخية والسياحية... ليعود بنا الباص الى نقطة الانطلاق. بعدها تنقلّنا في الشوارع سيراً على الأقدام، وقد استوقفتنا أكشاك لبيع الكتب أيقظت فينا الحنين إلى الكتب التي أصبحت مغيّبة إلى حد ما في يومنا هذا.
برك مياه ونوافير اصطناعية وحدائق أشجارها باسقة سحرت عيوننا بينما كنا نستريح في أحد المقاهي ونتناول أطيب المأكولات.
ولكم استرعى انتباهنا اهتمام الصرب بالسيّاح، فلا يتردد أحدهم في تقديم المساعدة في حال طُلب منه ذلك، كما يرشد السائح الى المكان الذي يبغي زيارته، وقد يبحث أحياناً في هاتفه المحمول للتأكد من الموقع المقصود.
كثيرة هي الحدائق التي تدعوك للدخول إليها والتنزّه في أرجائها وتنشّق نسائمها، وكذلك الساحات التي تتوزع فيها المقاهي والمتاجر، وتتوسط العاصمة بقسميها: بلغراد القديمة حيث الأبنية التاريخية الموغلة في القدم، وبلغراد الجديدة حيث الأبنية المرتفعة ومراكز التسوّق الحديثة. لكن ما يميّز هذه العاصمة هو نهرها «سابا»، والذي يلتقي مع نهر الدانوب ليشكّلا نقطة جذب للسيّاح. ويضم هذا النهر أكبر جزيرة للبط، حيث يتجاوز عدد البط فيها الـ 700 ألف!
على ضفاف نهر «سابا»
ولأن بلغراد مشهورة بالحياة الليلية الصاخبة، سهرنا في الليلة التالية على ضفاف نهر «سابا»، التي تمتد عليها المطاعم العادية، أو العائمة تحملها مراكب تنعكس أنوارها على صفحة المياه في مشهد رومانسي ولا أجمل... وقد تُقام عليها المناسبات وحفلات الزفاف.
وفي الأفق تتراقص قوارب أشكالها مختلفة، وتبدو كأنها تدعو السائح للقيام برحلة والاستمتاع بزُرقة المياه نهاراً أو مراقبة نجوم السماء ليلاً، وذلك ضمن أوقات محددة.
جسور خمسة تمتد فوق هذا النهر وتُسهّل الانتقال بين ضفّتيه. ويُعدّ مشروع «ووتر فرونت» من الأبنية الأكثر ارتفاعاً على ضفافه، وهو لا يزال قيد الإنشاء وسينتهي بناؤه قريباً.
بوتانيكال غاردن... حديقة نباتية
في صباح اليوم التالي، توجهنا إلى «بوتانيكال غاردن»، وهي حديقة نباتية تأسست عام 1874، ويقصدها سنوياً أكثر من 60 ألف زائر، وتعدّ ثاني أكبر مركز للسياحة في بلغراد.
بطاقات الدخول يتمّ شراؤها من غرفة كبيرة عند باب الحديقة الرئيس المشغول بزخرفة حديدية. انطلقنا في رحاب الحديقة حيث كل نبتة أو شجرة تحمل اسمها في بطاقة مرفوعة أمامها.
يتوسط الحديقة بناء مصمّم من حديد وزجاج في شكل قصر ويضم في داخله كل الشتول والأشجار المستوردة من اليابان والصين والهند وغيرها، وتتخلله أروقة ضيقة لما تزخر به من شتول زراعية.
وفي جانب آخر، تمتد الممرات التي تظللها أشجار وارفة لتقودنا نحو غرف بلاستيكية كبيرة، نوافذها شفافة بما يتيح استراق النظر إلى داخلها، حيث شاشة كبيرة وكراسٍ وطاولات خاصة بطلاب الجامعات.
كما استوقفنا أحد الطلاب الجامعيين وهو يجلس إلى جانب «برغولا»، وأشار إلينا بأنها مركز خاص للدراسات الزراعية التي تقدّمها جامعات بلغراد.
شارع المشاة «سكادارليا»
وللسهر أيضاً عنوان مميز للاستمتاع بأجمل الأوقات في بلغراد. لذا، وبدعوة من صديقة لبنانية تعيش وعائلتها في هذه المدينة، توجهنا إلى شارع «سكادارليا»، أو «سكادارليها»، وهو شارع مخصّص للمشاة، وكان قديماً مركزاً لاستقطاب الأدباء والشعراء والموسيقيين.
في هذا الشارع تتمركز الأبنية التراثية القديمة، أرضه مرصوفة بحصى بحرية ملساء، وشرفات منازله تزدان بأصص الزهور، وتتدلى على جدرانها العرائش، فبدت لنا كـ«عروس» في أبهى طلّتها.
وتتوزع على طول الشارع منحوتات من البرونز لعظماء تكريماً لأعمالهم. كانت ليلة من ليالي العمر، إذ لا يمكن نسيان رائحة الزهور التي تفوح في المكان، ولا حتى أنغام الموسيقى التي تعزفها فرق تتنقل بين الطاولات التي يجلس إليها روّاد المقاهي.
صرح «مار سابا»
من يقصد بلغراد، يجب ألا تفوته زيارة أكبر صرح ديني في البلقان: دير «مار سابا». يعود إنشاء هذا الدير إلى عام 1175، وانتهت الأعمال فيه من الخارج عام 1989، واليوم تلفّه الحدائق من كل الجهات. هنا كان اللقاء مميزاً لما يزخر به هذا الصرح من أعمال فنية، في الداخل والخارج على حدّ سواء. ويُتوقّع إنجاز الأعمال أواخر هذا العام.
وحين انتقلنا إلى الفندق عصراً، استوقفنا بناء كبير كان قد تعرّض للقصف من جانب حلف «الناتو»، وقد حرصت الدولة الصربية على الاهتمام به وعدم ترميمه، ليبقى شاهداً على بشاعة الحروب وضراوتها!
«كاليمغدان»
في صباح اليوم الثالث، قررنا الذهاب إلى «كاليمغدان»، وهي من أكثر المناطق استقطاباً للسيّاح، حيث توجد أكبر حديقة في بلغراد، وتضم القلعة التاريخية وحديقة حيوانات تحوي الأسد الأبيض الذي يندر وجوده في العالم، ونواديَ وملاعب رياضية ومتحفاً حربياً يشتمل على قطع حربية.
وتُقام في رحاب هذه الحديقة الخضراء معارض ونشاطات مختلفة. وعند أعلى نقطة في القلعة، يتوافد السيّاح ليلتقطوا صوراً حيث يلتقي نهرا سابا والدانوب.
الحديقة مساحتها كبيرة جداً، لذا كان لا بد لنا من أن نستقلّ قطاراً صغيراً يجوب أرجاءها للتنزه فيها، وهو في خدمة الزوّار على مدار الساعة.
اخترقنا أسوار القلعة العالية وتفقّدنا متحف الأسلحة والآليات، واستوقفنا القطار لدقائق معدودة كي نتشارك مع عدد كبير من السيّاح رؤية التقاء النهرين وما يحوطهما من مناظر خلابة! وقد أكدت لنا إحدى المسؤولات في القطار أن هذا المكان عرف العديد من الزيجات، اعتقاداً بأن من يتزوج هنا فلا يفترق عن شريك حياته إلى الأبد.
أكملنا النزهة ووصلنا الى مدينة ملاهٍ للأطفال، وإلى جانبها «زو»، أي حديقة الحيوانات حيث كان لقاؤنا الأول بالفيَلة، والنمر البنغالي، والأسد الأبيض المهدّد بالانقراض، وغيرها من أنواع الحيوانات. وتابعنا المسير لتصدمنا كثرة البيوت المفتوحة لحيوانات مفترسة مربوطة بأسلاك حديدية تفادياً لإلحاق الأذى بالسيّاح.
لأكثر من ساعتين شاركنا الحيوانات مراكز إقامتها، فبدت كأنها تريد من يواسيها في أمكنتها المقفلة، أو تنشد مجيء ضيوف لتستعرض لهم حركاتها البهلوانية.
الطبق الصربي
بعدها، انطلقنا نحو ضفاف نهر السابا القريب من هذه المنطقة، حيث تناولنا في مطعم محاذٍ له الطبق الصربي التقليدي، والذي يتكون من اللحم المطبوخ مع البطاطا بالمنكّهات في قدر من الفخار، ويعاد إدخاله الى فرن كبير يعمل على الفحم، ويُغطى بقشدة الحليب ويُزيّن سطحه ببعض الفاكهة ليصبح جاهزاً للتقديم.
لا شك في أنه طبق لذيذ، لكنه غنيّ بالسعرات الحرارية، لذا يُنصح بتناوله شتاءً!
لا يزال أهل بلغراد يعتمدون على الزراعة الطبيعية الخالية من المبيدات. لذا تناولنا في كل مطعم دخلناه أطيب المأكولات الصحيّة، وتلذّذنا بطعم الخبز، كما كانت كمية الطعام والحلوى التي تقدّم في كل وجبة تكفي لإطعام شخصين... وكل ذلك لقاء مبلغ زهيد لا يتعدى العشرين دولاراً!
منطقة الـ «زيمون»
حضرت الى الفندق صديقة صربية واصطحبتنا في زيارة إلى منطقة الـ «زيمون» القريبة من بلغراد، والتي تشتهر أيضاً بمقاهيها المنتشرة على ضفاف النهر، ومظلاّتها ذات الأقمشة الملوّنة، وأحواض الزهور والسلال والأجران القديمة... فراق لنا الجلوس في مطعم بمحاذاة نهر السابا، والاستمتاع بشرب العصير الطبيعي قبل تناول طعام الغداء في مطعم عائم على نهر «السافا» تزيّنه الورود معلنةً عن إقامة حفل زفاف أسطوري!
بحيرة «أدا»
وبتشجيع من الصديقة اللبنانية التي تعيش وعائلتها في بلغراد، زرنا بحيرة «أدا» التي تكثر فيها النشاطات الرياضية المنوّعة، بخاصة الـ»رافتينغ».
لكن بلوغ هذه البحيرة لم يكن سهلاً لأن الطرقات أُقفلت أمام الباصات والسيارات بسبب تظاهرات انطلقت بالتزامن مع توجّهنا الى هذا المكان صباحاً. وكان يصعب علينا السير على الأقدام، فهو يتطلب وقتاً وجهداً، لكن لطف أحد الأشخاص الصربيين واهتمامه بنا خفّفا من معاناتنا، إذ نصحنا بأخذ تاكسي من مكان بعيد من ساحة التظاهرات للوصول إلى هذه البحيرة.
نقلنا التاكسي الى الشارع المحاذي لمطعم كانت الصديقة الصربية قد نصحتنا بتناول الطعام فيه، ومن ثم صعدنا قطاراً للقيام بنزهة في البحيرة.
والجدير ذكره أن في هذه البحيرة قطارين، أحدهما أحمر اللون والثاني أزرق بحري، لكننا استقللنا القطار الأول الذي جال بنا بمحاذاة ضفاف البحيرة حيث شاهدنا الملاعب الرياضية، ونافورة مياه طبيعية يمكن رؤيتها من جهة معينة وهي تشكل نقطة جذب للسيّاح. وفي وسط البحيرة، التقينا عدداً من الأشخاص الذين يمارسون رياضة «الرافتينغ».
كان هطول الأمطار متوقعاً عند الساعة الواحدة ظهراً، لكن لمدة قصيرة لا تتعدى الساعة، وهذا ما حصل فعلاً حين انتقلنا الى مطعم لتناول الغداء فهبّت ريح باردة مصحوبة بأمطار غزيرة، وكانت دهشتنا كبيرة! كل المظلات تطايرت من أمكنتها، وهرع الجميع الى الداخل ينتظرون انحسار العاصفة، وما هي إلا ساعة حتى هدأت العاصفة وعدنا الى الفندق استعداداً للرجوع الى ديارنا...
في اليوم الأخير، وقبل المغادرة كان لا بد من زيارة مطعم «كروزو» الكائن في الطبقة الـ11 من بناء يتوسط بلغراد، لنشاهد من خلال واجهاته الزجاجية الساحات الكبيرة والأسواق التجارية التي تشهد على تاريخ عريق.
عند غروب الشمس، قصدنا نهر «السابا» لنُبحر على متن باخرة ونعيش لحظات لا تنسى تحت الأضواء المنبثقة من جسوره والأبنية التي تلفّ النهر.
وبعد أن أمضينا إجازة ممتعة في بلغراد، وقبل المغادرة، شعرنا بحنين يسكننا للعودة مرة أخرى الى هذا البلد المميز وعيش مغامرة جديدة!
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024