المسرحي جواد الأسدي يتنقل في الفضاء العربي الرحب
يحضر ويغيب... ثم يحضر كثيراً في بيروت. يتجول في المدن العربية والعالمية، مع مسرحه النقّال. جواد الأسدي مخرج ومؤلف مسرحي عراقي، ويعيش متنقلاً بين المدن العربية، من بيروت إلى بغداد ودمشق ومراكش... عام 2004 حاز جائزة الأمير «كلاوس» للمسرح، وكان قد عمل مع المسرح الوطني الفلسطيني، ولاحقًا مع المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وأخرج الكثير من الأعمال المسرحية، وكان أكثرها شهرةً: «رأس المملوك جابر» عن مسرحية لسعد الله ونوس، «تقاسيم على العنبر» المستوحاة من نصوص تشيخوف، و«حمام بغدادي» التي نالت شهرةً عالميّة. وفي بيروت أسّس مسرح «بابل» الذي حرّك وجه المدينة وجذب الجمهور الى خشبته.
سؤال كبير يُطرح اليوم: ألا يزال المسرح العربي في تألقه؟ ماذا بقي من جيل كبار المسرح العربي اليوم؟ لمَ كل هذا التراجع في المشهد المسرحي العربي؟ ومَنْ بقي من أهل المسرح يصدح في ظل هذا الانحدار والخراب والمشهد العبثي الذي نعيشه في هذا الزمن؟
يقول جواد الأسدي: «المسرح اليوم ليس في مجده طبعاً... للأسف الشديد، أصبحنا نعيش في عصر تطغى فيه سلطة الجهل والحروب العبثية، ومن الطبيعي أن تأتي النتيجة كارثية على مختلف الفنون والثقافات. فالمسرح يترنح بين دول الجهل والأميّة والظلامية، وبين انسحاب أدوات التعبير إلى ما يشبه التعاسة، حيث المجون وكرنفالات المسرح الذي يكرّس الضحك الفارغ والإشارات المبتذلة مع جمهور مقهور. ولم يعد هذا الجمهور يهتم إلا بما تبقّى له من رغبة التنفيس عما يعيشه من أهوال وكوارث. بدا واضحاً غياب الإبداع المسرحي. لقد انتهى عصر تشيخوف والتشيخوفيين وبيكت والبيكتيين ليحلّ محله مسرح «الفاست فود». تحول المشهد وانقلب كلياً. بات المرح اليوم حلقة مفرغة، وخشبة ركيكة هزيلة تكاد تنكسر في أي لحظة خواء. أما ما تبقى من مسرحيين كبار فإنهم يمضغون ألسنتهم ونصوصهم وإخراجاتهم على منصّات العزلة والوحشة. لقد خرج الكبار الى العتمة الداكنة، لا أحد يراهم أو يسمعهم. أين هم الكبار اليوم في المسرح العربي؟!».
مسرح بابل:
وعن مسرح «بابل» الذي أسّسه في بيروت، يقول الأسدي: «مسرح بابل البيروتي الذي أسّسته (روحاً، ومادةً، ومدرسةً مسرحية رصينة) أصبح اليوم على مشارف نهايته، والأسباب واضحة لا تحتاج الى نقاش أو تفسير».
ويضيف قائلاً: «إن ما يحدث من تفلّت وإقفال للمسرح يعكس هذا الجهل الكبير في واقع الحياة والثقافة. للأسف، مع المجتمعات الغريزية التي تشبه مجتمعاتنا ليس من مؤسسات ثقافية حقيقية تحمي الثقافة، ولا جمهور معرفياً يحمي المسارح كما هي الحال في الغرب، لذلك بقى مسرح «بابل» وحيداً، لا يلقى اهتماماً من الدولة ولا من الجمهور. فالدولة تتعامل مع المسرح باعتباره هامشياً، ولا تقدّم له أي دعم، والجمهور بجهله يكرّس الانحياز الى مجانية العروض المسطحة. ومع ذلك، بقيت أجرُّ مسرح «بابل» كما لو أنني حصان يجرّ عربات من حديد نحو قمة جبل بلوغه مستحيل... إن ما قمت وأقوم به في هذا المجال هو بحد ذاته مغامرة كبيرة لا تخلو من متعة. إنها سيزيفية مسرحية عالية الوجع والمتعة، لا يمكنني التفلت منها، مهما تطلب الأمر من تعب وإصرار».
وحين سألناه عن مستقبل الفن المسرحي في هذا الجو المحموم، في ظل العرض العبثي الدموي المستمر على مسرح الزمن الذي نحياه في الشرق والغرب، وهل العالم يعيش اليوم «مسرحية الجنون والموت والخراب»؟... لم يتردد الأسدي في الإجابة، وأكد قائلاً: «كان مسرح التنوير يلوح بيديه طوال عمر مديد، هو سنوات الاشتغال على الولع والشغف المسرحي منذ أكاديمية الفنون الجميلة عندما كنا فتياناً مسكونين بأمل فذ ونزاع مع الجهل والتخلف والقهر... كان مشهداً صادقاً في الوعي والطموح. أما اليوم، ومن منظار الفاصل الزمني، تبدو كل تلك الإشارات واليوتوبيا وقد انهارت واضمحلت، أو سقطت مثل أوراق الخريف، ليحل مكانها نزاع آخر، وصراع وجودي جديد عنيف عنوانه مقاومة الظلاميين والجهلة الذين سيطروا على المشهد وهم يجرجرون شعوبنا وأهلنا إلى مأتم البهائم. إن اللغة التي تحمل مفردات السبي والاغتصاب والقتل بمهنية واحترافية عالية، إنما هي الكارثة بحد ذاتها. وهنا وقع الفن في مأزق جديد نصاً وتمثيلاً وإخراجاً».
مسرحية تعيش في الوجدان:
«حمام بغدادي» من روائع المسرح الأسدي، أعاد إليها الروح والنبض، ولا ينفك عن مواصلة عرضها... وعن رائعته هذه يقول: «لا تزال مسرحية «حمام بغدادي» تنبض بالحياة وتعيش في الوجدان، خصوصاً أنها تلامس الهم العراقي والعربي من حيث الجوع الى الحياة الكريمة ونبذ الألم المرمي على الناس قسراً. لقد اشتغلت في هذه الإعادة مع ممثلَين عراقيين يعانيان الوجع العراقي الذي يريد النص أن يتنفسه باللهجة العامية العراقية. إن مهمة المسرح الأولى هي طرح الأسئلة وفتح باب الذاكرة وتحفيز العقول على إدراك كل ما يمكن وحتى المستحيل. فمن هذا المنطلق سعيت في «حمام بغدادي» الى تحفيز الوعي الإنساني أكثر، لمعرفة في أي مرحلة أصبحنا اليوم. وكذلك فعلت وسأفعل مع أعمالي المسرحية المقبلة».
يمثل جواد الأسدي حالة مسرحية إبداعية متمردة، ويجسد هذه الحالة بنبض أصيل ونشاط زاخر وفكر رصين. هي رؤية هادئة ثاقبة يمكنه من خلالها تحقيق جوهر العمل والفعل بما يرضي رغبة جامحة في نفسه وواقعه ومجتمعه... وعن هذا التمرد يقول: «إن ما أفعله في المسرح هو محاولة مستمرة لا يمكنني إلا التوغل في مفاصلها، وذلك من أجل اكتشاف أنوار وجماليات ضوء في المسافتين العامة والخاصة. أحاول باستمرار بناء أمكنة سينوغرافية مختلفة لا تتكرر ولا تقع في فخ الشكل الواحد. لذا، أزيح الواقع المرئي الذي أدمن الناس مشاهدته إلى واقع مشهدي كما لو أنهم يرونه جديداً حراً فيه لَبْس جمالي محبب. بهذا المعنى، أبحث عن لحظات أكثر سطوعاً وإشراقاً وسحراً في الحياة. ويبقى المسرح هو اللغة والشكل والمكان والمعبر الأساس لتحقيق كل هذا النشاط الإبداعي».
اللغة منبع الثراء الإنساني:
من المحاولات الفريدة في المسرح الأسدي، تلك الأعمال التي ميزت مسرحه، إذ عمل على تفاصيل وخصوصيات جمّة يقول عنها: «لقد اشتغلت على اللغات كمنبع للثراء الإنساني. لذلك، وفي التمارين الخاصة للممثلين الإسبان الذين أشركتهم في أعمالي، جرّبت أن أرمي إيقاع اللغة الإسبانية في النبع اللغوي العربي، الأمر الذي قادني الى اكتشاف إشارات ومنحنيات لغوية إسبانية باتجاه الإيقاع العربي. ثم وبعد شهور من التمارين، آخيت بين إيقاع اللغتين لتبدوا كما لو أنهما من طينة إنسانية واحدة. ولم تتوقف التجربة عند هذا الحد من التواصل والغوص في التجريب والابتكار المسرحي، فثمة أعمال أخرى تندرج في السياق نفسه، نفذتها وسأنفذها».
ربما لا فارق بين جواد الأسدي المخرج المسرحي، وجواد المؤلف. هكذا تبدو شخصيته في حضرة أعماله المسرحية. وحين سألناه ماذا يريد المخرج جواد الأسدي من المؤلف جواد الأسدي، ردّ قائلاً: «يريد جواد الأسدي المخرج في نزاعه الأبدي معه ككاتب أن يجد المظلة المسرحية لعرض مسرحي بصري حداثي بعيداً من آفة السرد. ويريد الكاتب الذي يسكنني أن يكون خادماً للمخرج، خصوصاً في التصدي للواقع العراقي كما هي الحال في «حمام بغدادي». لذلك فإن التمارين اليومية مع الممثلين تفتح الأبواب دوماً لإطاحة النص لمصلحة الإخراج والتمثيل».
يرسم جواد الأسدي صورة الحياة على خشبة المسرح، وله مع كل مدينة مسرح وحكاية. فقد سكنتْ المدن عقله وقلبه وروحه، ورغبته جامحة في الكتابة المسرحية كما في الإخراج، ولهذا النشاط بقية تغور في أعماق ذاته وأرضه وعالمه، وعن ذلك يقول: «الرحلة طويلة، والطموح كبير. صحيح أنني أستمر في المحاولة، لكنني أسّست في رحلتي المدينية مساراتي انطلاقاً من أن العراق المحمول في رحمي سيبقى كذلك الى الأبد. ودائماً أجد نفسي في مهب الاحتمالات الصافية، وأجد الذرائع المقنعة لهجرتي القسرية بأنني مخلص للأمكنة التي يثمر فيها عملي بشراً وعروضاً ونصوصاً وربما مسرّات. سأظل في مساحة مفتوحة، في مسافة تطل على مسافات لا تنتهي».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024