المخرج السعودي بدر الحمود: هذه اللحظات التي أتمنى أن تتكرر ولن تتكرر!
بصوت متهدّج تحدّث عن والده الذي توفي منذ فترة، والغصّة لا تزال في قلبه. يعترف بأن حالات الفراق المتنوعة في فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد» نابعة من تجربة شخصية، ويشير إلى أنه كان يتعب كثيراً بعد أن يترك مكتبه ليرتاح من عناء الكتابة.
لم يكن فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد» تجربة عادية في حياة المخرج السعودي بدر الحمود، إنما استحق عنه جوائز عدة كان آخرها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان بيروت الدولي للسينما.
هو نادم على تلك اللحظات التي لم يكن قريباً فيها من والده، تلك اللحظات التي لن تتكرر، لكنه يقرّ أن الماضي جزء أساس من القرارات التي تخطّ مستقبلنا. عن «فضيلة أن تكون لا أحد» والماضي والكتاب، يحدّثنا بدر الحمود في هذا الحوار...
- تقدّم اليوم فيلماً كل ثلاث سنوات بعدما كنت تطرح فيلماً كل سنة، ما الأسباب؟
في البداية، نكون نضجّ بالطاقة والحيوية، ويدفعنا الشغف لخوض التجارب، كما أن التجرّد من حس المسؤولية يدفعنا للقيام بخطوات عبثية، وهذا أجمل ما يميز البدايات. فالعبث مهم أحياناً إذ يخوّلنا استكشاف بعض المجالات في السينما، فنخطئ ونتعلم من تجاربنا من دون أن يدرك أحد أننا أخطأنا.
هذه هي الأسباب التي دفعتني لأن أصوّر فيلماً كل سنة. لكن في ما بعد باتت الأمور أكثر جديّةً، وتفرغت للعمل في هذا المجال وأصبح مصدر دخل لي، وقررت أن أقدّم فيلماً يشارك في المهرجانات العالمية. أول فيلم أنتجته كان عنوانه «سكراب»، ولم أكن راضياً عنه، لكنه كان يسير في الاتجاه الصحيح بعيداً من محاولات الأفلام المخصصة لـ»يوتيوب»، ومع ذلك فاز في مهرجان الخليج السينمائي في دبي، وأيضاً في مهرجان بيروت السينمائي عام 2013.
- هل «سكراب» من تأليفك؟ وما القضية التي يتناولها؟
«سكراب» كان محاولتي الأولى في الكتابة، وهو يسلّط الضوء على التحديات التي تواجهها المرأة العاملة من خلال قصة واقعية قرأتُ أحداثها في قُصاصة جريدة. كانت المرأة تعمل مع ابنتها في جمع قطع «السكراب»، وهي قطع معدنية خردة، وتملك سيارة «بيك أب» تضع هذه القطع فيها وتبيعها.
كان عملها في غاية الصعوبة إذ تتعرض للكثير من المضايقات القانونية، لأن المرأة كانت ممنوعة آنذاك من قيادة السيارة، لكن بعد صدور قرار ملكي أخيراً، والذي سُمح بموجبه للمرأة بقيادة السيارة، بات هذا الأمر من الماضي. «سكراب» يوثّق لفترة تاريخية كانت تعيشها المرأة.
- ما هي «فضيلة أن تكون لا أحد»؟
نعيش اليوم في عصر «السوشيال ميديا» و»الأنا» المتضخمة، فالجميع يحاول أن يصنع من نفسه رمزاً، كما أن تحقيق الشهرة بات سهلاً، فما إن يُقدَّم عمل غريب حتى يصبح صاحبه مشهوراً في اليوم التالي.
«فضيلة أن تكون لا أحد» هو رد فعل على الشغف الحاصل تجاه تضخيم الـEgo، إذ يؤطّر الفرد نفسه في شخصية محددة يصنعها هو ويقاتل من أجلها، بينما تقضي الفضيلة بأن يتخلّى عن هذه الشخصية ويستغل الفرص لعيش حيوات أخرى.
- ألا تعتقد أن الفرد يفقد هويته إذا عاش حياة هي ليست حياته؟
أجاب الفيلم بأسلوب فني عن هذا السؤال، إذ استطاع «أبو ناجي» أن يعيش كل قصص الناس، لأن لا قصة له ليعيشها، لذا كان يتبنى أي قصة يتعرف إليها من خلال أصحابها، وبالتالي استطاع أن يحيا أكثر من حياة، فكان يومه لطيفاً وتغلب عليه الأحاديث المتنوعة.
في حياتنا العادية الكثير من الأصدقاء، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكننا في الواقع نفتقر الى صديق وفيّ، يكون مستعداً للإصغاء إلى قصصنا، وربما مشاكلنا البسيطة. اختار «أبو ناجي» أن يكون «لا أحد» ليستمع الى الحكايات ويروي قصصه للناس.
- لماذا اخترت أن تُصوّر الفيلم في سيارة؟
حين يومئ رجل بيده ليوقف سيارة ويستقلّها، من المنطقي أن يدور حديث بينه وبين سائقها. أما السبب الثاني، وكوننا سعوديين فإننا نمضي أغلب أوقاتنا في السيارة، وتجمعنا بوسيلة النقل هذه علاقة متينة، وقد باتت جزءاً من كياننا وهويتنا... حتى الأحاديث في داخلها تكون دائماً مشوّقة، ذلك لعفويتها، فبينما تسير بنا السيارة تكون أنظارنا مصوّبة إلى الأمام، وبالتالي لا مجال للتواصل بلغة العيون، فتبدو الأحاديث سطحية وشاملة، لكن نكهتها مختلفة.
- هل واجهت صعوبة في أن تكتب حواراً يستغرق 20 دقيقة بين شخصين من دون أن تُشعر المُشاهد بالملل؟
في هذه النقطة تكمن أهمية الحوار. فرغم أن السينما هي الصورة، لكن الحوار هو أحد أهم عناصرها، حتى أنني في هذا الفيلم شعرت بأنني كاتب أكثر من كوني مخرجاً.
لم يكن هناك مواقع تصوير، لذا ثبّت الكاميرا ورحت أراقب الحوار الذي يدور بين الممثلين. الكتابة أرهقتني كثيراً، فقد تطلبت مني كتابة النص ستة أشهر، ذلك أن العمل يعتمد على الكثير من التجارب الشخصية، ولم يكن ذلك سهلاً عليّ، خصوصاً أنه لم تكن قد مضت على فقدان أبي وشقيقي الأكبر فترة طويلة.
- ألهذا السبب غلب الموت على كل الشخصيات التي تحدّث عنها الممثلون؟
برز الفقدان في الفيلم بأكثر من صورة. في البداية من خلال فقدان الولد، في الصورة الثانية فقدان «أبو ناجي» لعينه، بالإضافة إلى فقدان الذاكرة عندما قال إن والده فقد ذاكرته، ثم فقدانه لزوجته، فطلاق «أبو محمد» وابتعاده عن زوجته.
تعددت أنواع الفراق، وآمل أن أكون قد أوصلت الشعور. بعد أن يرى المُشاهد الفيلم، أتمنى أن يلتفت الى أحبّائه ويعمّق علاقته بهم، لأن العمر قصير، ولا أحد يعلم متى تحلّ ساعة الفراق!
- لماذا أدار «أبو محمد» صورة ابنه في السيارة؟
لأن فقدان ابنه آلمه كثيراً، وقد انتابه نوع من اليأس لعدم رؤيته مجدداً. الحوار الذي دار بينه وبين «أبو ناجي» ربما سمح بإعادة الصورة إلى مكانها... لا أحد يدري.
- لماذا اخترت الحدود السعودية-البحرينية مكاناً لأحداث الفيلم؟
أردت أن يكون «أبو ناجي» شخصاً غريباً عن المدينة، ذلك أننا نهتم بالغريب أكثر من اهتمامنا بالمواطن ابن البلد، وهو استغل تماماً هذه النقطة.
- أداء الممثلَين كان مقنعاً، فكيف كان التعاون معهما؟
بالفعل، كان أداء مشعل المطيري وإبراهيم الحساوي التمثيلي ممتازاً، تقيّدا بالنص الذي كتبته، وحفظا تسع صفحات منه، واستغرق الحوار الذي دار بينهما في البداية حوالى 10 دقائق، وابتعدا تماماً عن الارتجال.
من هنا أهمية التعاون مع ممثلين محترفين، أحياناً نبحث عن وجوه جديدة، لكن لتؤدي أدواراً بسيطة. ورغم أنه استغرق عشر دقائق، كان الحوار يفيض بالمشاعر الوجدانية، خصوصاً أنه كان على الممثلَين أن يعبّرا من خلال وجهيهما.
- قدّمت فيلمين هما «قلم المرايا» و«كتاب الرمال»، كيف هي علاقتك مع الكتّاب؟
هذه سلسلة أفلام أنتجناها بالتعاون مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء». لديهم مجموعة مبادرات، من بينها مبادرة «إقرأ» لتعزيز القراءة ونشرها في المجتمع، وكان إنتاج هذه الأفلام من ضمن الخطة. والهدف من الفكرة ثقافي، ولكي تصل إلى الناس مباشرةً، حمّلناها على «يوتيوب».
- كيف كانت أصداء هذه الأفلام؟
هي أفلام دسمة، ولاقت قبولاً جيداً. ورغم أنها لم تكن مهيّأة للنشر على «يوتيوب» لأنها طويلة نوعاً ما، لكن بهدف نشر الثقافة، حمّلناها على «يوتيوب». وقد صوّرت «كتاب الرمال» في لبنان مع الممثل اللبناني أنطوان كرباج، والتجربة كانت جميلة، وعملت مع فريق محترف ذي خبرة طويلة في هذا المجال.
- هل اخترت بنفسك هذه الكتب؟
الفيلمان كانا من كتابة الدكتور خالد يحيى، فهو كان حينذاك مسؤول المركز.
- تغوص في الماضي البعيد من خلال الفيلمين المذكورين أعلاه وفيلمك «داكن»، ماذا عن علاقتك مع الماضي؟
لا أدري لماذا تشير أفلامي إلى الماضي.
- في «داكن»، يحاول بطل العمل العودة إلى الماضي ليبني عليه المستقبل، هل فعلاً الصراع مع الماضي يبني مستقبلاً؟
لا يمكن الانسان الهروب من الماضي، لأن الماضي جزء أساس من سلسلة القرارات التي نتخذها، وأي قرار اتخذناه في الماضي سنؤسّس عليه للمستقبل.
الماضي هو نحن حتى وإن حاولنا فتح صفحة جديدة مثل «داكن»، الذي لم يسمح له الماضي بفتح صفحة جديدة في منأى عنه. لذلك إذا آمن الإنسان بهذه الحقيقة، عليه أن يتنبّه الى الحاضر، لأن هذا الحاضر سيصبح لاحقاً ماضياً، وهذا ما كان يفعله «أبو ناجي»... يعيش حياته ويسعد بالحوارات وبحاضره.
- كونك مخرجاً، هل تفضّل أن تكتب عملك الإخراجي؟
بالفعل، لأننا نبتكر عالمنا كما نريد، تتضح ذاتنا في الفيلم. قد أكون أنانياً في إجابتي، لكنني شعرت بالارتياح عندما كتبت عملي. لكن في هذه الحالة نُحرم من خبرات كتّاب آخرين، من عقل كامل يفكر ويكتب معنا. لذا ذيّلتُ «فضيلة أن تكون لا أحد» بقائمة شكر لكل العقول التي ساهمت في أن يبصر هذا العمل النور.
- في ختام الفيلم، وجّهت تحية الى روح والدك...
بالفعل، وجّهت تحية قلت له فيها: «لعينيّ والدي اللتين كانتا ترغبان في رواية كل القصص ولم أفهم حاجتي إليهما إلا بعد الرحيل». حين كنا أطفالاً، كان والدي يروي لنا قصصاً كانت بمثابة مواقف لا نأخذها على محمل الجد. أما اليوم، وبعد رحيل والدي، ندمت كثيراً إذ أدركت أهميتها.
كانت تلك القصص البسيطة والعفوية أهم شيء بالنسبة إليّ... كانت نقطة الاتصال الوجداني الأهم بين البشر، ومن هنا أهمية أن نعيش اللحظة بكل تفاصيلها، فأن يجلس الولد مع والده هي لحظات وجدانية من المفترض أن نعيشها ونحن ندرك أهميتها، فهناك كثرٌ يتمنون أن تتكرر هذه اللحظات، لكنها لن تتكرر.
أفلام قصيرة أو طويلة
- كيف تحوّلت الأفلام القصيرة مصدرَ دخلٍ لك؟
نُنتج إعلانات تلفزيونية، أفلاماً وثائقية لجهات متخصصة، أفلاماً توثيقية لبعض الشركات... وهكذا تحولت هذه الشركة مصدرَ دخلٍ لنا، لا الأفلام القصيرة بحد ذاتها.
- ما أهمية الأفلام القصيرة مع أنها قلّ ما تُعرض في دور السينما، لكنها تُشارك في المهرجانات؟
الهدف من الفيلم القصير يعود إلى صانع الفيلم، إذ يجد فيه كيانه وربما حياته ككل. إذا اقتنع صنّاع الأفلام بهذه الأهداف، وهي أهداف نبيلة، أعتقد أنهم لن يهتموا حتى وإن شاهد أحد أفلامهم عشرة أشخاص فقط.
ونلحظ أخيراً إقامة الكثير من المهرجانات السينمائية في العالم العربي، كما لم يعد هناك هاجس أين ستُعرض أفلام المخرجين القصيرة ولاسيما في المملكة العربية السعودية، كما حاز «فضيلة أن تكون لا أحد» جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الأفلام السعودية.
- إلى أي مدى يهمّك كمخرج أن يشارك فيلمك في المهرجانات؟
بالتأكيد يهمّني ذلك، لأنني أسعى الى تطوير نفسي. أعتقد أن 80 في المئة من صقل مهاراتنا يعود الى المهرجانات، إذ نستمع إلى آراء النقاد، ونتعلم من أخطائنا، ففكرة الفيلم المثالي الخالي من الأخطاء لم تعد موجودة، وفي الوقت نفسه تبقى أسماؤنا كمخرجين على الساحة.
اختبرتُ الأمرين، جرّبتُ الأفلام الجماهيرية من خلال «يوتيوب» فوجدت أن بعض الأفلام سجّلت مليون مشاهدة في أسبوع، وأخرى 4 ملايين، ولكن هذه الأفلام شوهدت عبر الشاشة الصغيرة، والأمر مُحبِط لنا كصنّاع أفلام. لذلك يشكّل «يوتيوب» نوعاً من الإحباط، ومن هنا تبقى للمهرجانات قدسيتها واحترامها، وهي غاية منشودة في حد ذاتها.
- لماذا لم تتجه نحو الأفلام الطويلة؟
أكتب حالياً فيلماً طويلاً، يتناول قصة من نسج الخيال لم تتضح ملامحها بعد. أنهيت نصف السيناريو تقريباً، ولن أتهاون به لأن مجال التجربة والارتجال محدود، فإما أن يكون محترفاً أو لا أقدّم فيلماً طويلاً، لأن ذلك مُكلف ومتعب. ولهذا سأعرض النص على لجان تضم كتّاب السيناريو لإدخال بعض التعديلات عليه.
- هل سيكون الفيلم سعودياً؟
الفيلم سعودي وسيصوّر في السعودية.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024