تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

فشل بعد إنتصار؟!

واقع أليم يُضطرّ الإنسان أحياناً لعيشه، وحقيقة مرّة يُجبر على تجّرع كأسها! عند المعرفة بالإصابة بمرض عُضال أو خبيث، تكون الفاجعة للوهلة الأولى فوق كلّ تحمّل، فيتخبّط ما بين الرفض والألم والثورة واليأس ليصل إلى الرضوخ للأمر الواقع على مضض... لكن ماذا لو إستطاع المرء التغلّب على حالته الصحية وقهرها؟ عندها تكون الفرحة والأمل والنصر أبرز ما يتبادر إلى الأذهان. بيد أنّ لكلّ شيء وجهان: أحدهما إيجابيّ وآخر سلبيّ. تكون النائبة مزدوجة عندما يعود المرض «ليستيقظ » من سباته بعد الإنتصار البدائيّ، فيعيد كلّ الشعور بالتشاؤم والخيبة. كيف يواجه الشخص الإنتكاسة؟ وهل المرّة الثانية أصعب للمواجهة؟ وما السبب الحقيقيّ لعودة المرض؟

تشرح السيدة ناتالي ريشا، الإختصاصيّة في علم النفس العيادي مجابهة عودة مرض السرطان، وكيفية التعامل مع المريض للخروج من الفاجعة النفسية التي تسيطر عليه، كي يعمل على تحسين نوعية حياته ويتعلّم الإستفادة من الحياة. كما يفسّر الدكتور روجيه خاطر، الإختصاصيّ في الأورام، أسباب عودة المرض بعد «القضاء » عليه في المرّة الأولى، عارضاً لكلّ أوجه هذا المرض وأنواعه وسُبل العلاج.

 

شهادة مؤلمة...

سنتان مضتا وحُسام يتابع دراساته الجامعيّة في علم لإقتصاد، بعدما ألمّ به مرض سرطان الأمعاء وطرحه سير الفراش والمستشفى. سنتان إنصرمتا وكان قد وى الصفحة السوداء في سجلّه وإعتاد من جديد لخروج من قوقعته، والإختلاط بالناس، والتخطيط لمستقبل. ها هو قد نفض غبار المرض عنه وتعافى، اركاً خلفه سنوات من العلاج الطويل والمضني في روقة المستشفيات ومراكز العلاج، بعد خضوعه لعملية جراحية إستأصل خلالها الورم الخبيث...

 لكن غالباً ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن! ويبرم دولاب الدهر، فيوم لك ويوم عليك! بعد سنتين من بصيص الأمل، عاد الكابوس: أنتَ مصاب بالسرطان!!! ثلاث كلمات هزت عالمه وأوقعته في سرداب حالك الظلمة لم يعرف له بداية أو نهاية. هزة جعلته يستنكر من دون أن ينبس ببنت شفة، فوقف جامداً لا حياة فيه ولا دم يجري في عروقه.

يقول حُسام «بعدما قهرت المرض وإستأصلت الورم، عُدت رى الحياة جميلة والدنيا تكاد لا تتسع لي ولطموحاتي. وددتُ السفر وإكتشاف البلدان، وددتُ المغامرة وخوض التجارب، وددتُ الحصول على كلّ ما أشتهيه وتحقيق ما قبعتُ أحلم به عندما كنت في المستشفى. لكنني من جهة أخرى، تابعت مع طبيبي إجراء فحوص روتينية كلّ بضعة أشهر، للتأكد من سلامتي، وواظبتُ على إجراء صور وفحوص مخبرية لأضمن شفائي.

وهذا ما كان يظهر في النتائج على الدوام، وكأنني في حلم يقين لا أبغي الإستفاقة منه أبداً. إلاّ أنّ ما كان يتحضّر لي أفظع بكثير مما كنتُ أجرأ أن أتخيّله. فمع كلّ نتيجة إيجابية، كانت نظراتي شبه ضائعة، فلا أعرف إن أضحك أو أترقب الأسوأ...إلى أن تمكّنت مني يد القدر، وتلقيت إتصالاً غير مألوف من طبيبي يطلب فيه مقابلتي بأسرع ما يكون.

على الطريق إلى المستشفى، دارت في بالي مئات السيناريوهات، لكن ما إن وصلتُ حتى رأيت جواً قاتماً ونظرات جدية من حولي. جلسنا، وإذا بالطبيب ينظر مباشرة إلى عينيّ ويقول: للأسف، أنتَ مصاب بالسرطان! وقفتُ عن الكرسيّ وتسمرت في مكاني. شعرت أنّ دمي قد جفّ ولم يطاوعني لساني على النطق.

مضت اللحظات كأنها ساعات، ونحن ندور في فلك التساؤلات الصامتة. لم أتوقع قط أن يُنزل بي القدر هذا العقاب الشديد الوطأة، فلم أجد مخرجاً من الورطة. أحسست بأنّ ثقلاً كبيراً قد سقط على كتفيّ وبأنّ ما عشته خلال سنتين لم يكن سوى حفنة من الأوهام الواهية الزائفة! بعدها، إنفجرتُ بكاءً! ولم يستطع أحد أن يمنع إنهياري وثورتي وصراخي وسخطي، بل إكتفت والدتي بضميّ إلى صدرها والدموع تتساقط من عينيها كالجمر... عندها، باشر الطبيب إعطاء التوجيهات والتعلميات عن سُبل المواجهة، وكيفية مقاربة المرض محاولة التغلّب عليه من جديد وما شابه ذلك، لكنني لم أكن أستمع... بل كنت أشعر بأحشائي تتمزق وبنبضات قلبي تتسارع تارة وتتوقف أخرى، ورأيتُ هالة سوداء فوق عينيّ تُحيل حياتي إلى تخبط مع المرض يبوء بالفشل تلو الآخر.

تكون خيبة الأمل مضاعفة عندما يدرك المرء أنه لا حول له ولا قوّة وأنه كائن ضعيف لا يقدر على المجابهة ولا يذوق طعم النصر! .» هنا، يتوقف قليلاً، ينظر من حوله، ويتابع: «بدأت من جديد كلّ محاور أفكاري تصبّ في اليأس، إذ أدركتُ أنّ السرطان قد تمكّن مني نهائياً وسوف يقضي على حياتي. لم أشأ أولاً أن أصدق أنّ الأمور تعيد نفسها معي، فرفضتُ حتى الإستماع وخرجتُ غاضباً. وبعد أيام من البكاء المتواصل ورفض الكلام في الموضوع، أدركتُ انّ لا سبيل لي سوى العودة إلى العلاج!

أكاد أرى حياتي تمرّ أمام ناظريّ وأنا أروي بجمل قصيرة قصّة نضالي الشاق الطويل مع المرض. شعرت بأنّ كلّ نضالي السابق ذهب هباءً وضاع، فأنا لم أقهر السرطان، بل هو قهرني مرّتين! لكن للإختصار، تابعت العلاج، وأنا شبه قاطع للأمل في البداية، فلن أحقق شيئاً من طموحاتي وأحلامي، إلاّ أنه لا بدّ من تسكين الوجع. لكن أهلي أصروا على إستشارة إختصاصيّ في علم النفس لتسهيل عبوري في هذه المراحل المؤلمة، فلربما عدتُ أرى الحياة جميلة. وها أنا قد قطعتُ مرحلة أولية ولا أزال أتابع، متحمّساً أحياناً وعلى مضض طوراً، علّني أستطيع من جديد ربما. قهر المرض .»

 

مساعدة

المواجهة يجب ألا تكون منفردة، وتكمن الصعوبة في خوض معركة الشفاء دون داعم. لذلك، لا بدّ من توفير جوّ مساعد للمريض ليتخطى الحالة النفسية الصعبة التي يقع ضحيتها، إلى جانب خوض المعركة الصحية. تقول الإختصاصيّة ريشا «يجب مرافقة المريض أثناء مراحل الحداد » ليتقبّل وضعه. يجب الإستماع إلى تساؤلاته وفهمها والتعاطف معه لكن لا يجوز أبداً الإنخراط في المشكلة بحدّ ذاتها، كأن يُضحي المعالج جزءاً منها هو أيضاً.

يتمّ العمل على الناحية النفسية بمحاولة معالجة الأفكار السوداوية بأخرى بديلة، لتحويل التشاؤم إلى نظرة مختلفة وإيجابية قدر المستطاع، وتخفيف الشعور بالذنب. كما ينخرط طاقم طبي وإختصاصيون من شتى المجالات لتشكيل خليّة داعمة تعمل على العلاجات بكل أنواعها لتأمين نوعية حياة أفضل وتخفيف الألم الجسدي وتسكين الوجع النفسي. يُضحي القبول أسرع وأسهل عندما يُحيط المريض ممرضون ومرشدون روحيون وإختصاصيون في علم النفس إضافة إلى الطاقم الطبيّ والطبيب المعالج ».

تكون المساعدة النفسية ذات أهمية كبرى إذ تعمل على مرافقة المريض، في كل المراحل التي قد يمرّ بها، على تقبّل ما يصيبه، كي يركز على الجانب الطبي ويتعافى، عوض الوقوع في دوامة الإكتئاب والإنهيار النفسي، إضافة إلى التدهور في الحالة الصحية. في العلاج، يتمّ العمل على الخوف من الموت ومعالجة الإضطرابات على كلّ المستويات، عبر مرافقة طبية ونفسية وروحية لإعطاء معنى آخر للحالة التي يمرّ بها الشخص دون إعطاء أمل وهميّ أو إحلال اليأس والحزن.


علاج الإنتكاسة!

«إستيقظ سرطاني! » عبارة مخففة للحالة التي قد يشعر بها مريض «سابق » تغلّب مرّة على السرطان وقهره، ليعود بعد فترة. هنا، تزداد الحالة صعوبة!

وتقول الإختصاصيّة ريشا «إنّ عودة مرض السرطان تعني الإنتكاسة الكاملة من جديد. بمعنى أنّ الشخص يعود ليمرّ بالمراحل الخمس مجدداً من صدمة ونكران وغضب ومساومة وإكتئاب وقبول، متخبطاً بسخط وقلق وخوف وتشاؤم وقطع أمل. ويكون تقبّل الإنتكاسة أصعب بكثير، إذ يخيّم شعور بعدم الإستقرار وفقدان الأمل التام والإكتئاب القويّ وخيبة الأمل والشعور بالذنب والثورة في بعض الأحيان على الطاقم الطبي ». تخور قوى الشعور بالأمل إثر الإنتكاسة ليشعر المرء بأنّ كلّ التفاؤل قد إضمحلّ ولا سبيل له سوى الموت!

تضيف ريشا: «يجب مساعدة المريض على تقبّل وضعه بأفضل طريقة ممكنة، عبر العمل على تحسين نوعية الحياة وتسكين الألم. لكن، لا يجوز أبداً إعطاؤه آمالاً خاطئة أو الكذب عليه، إنما عليه أن يواظب على نمط حياة عادي بقدر ما تسمح له صحته عليه المحافظة على نشاطه السابق ومزاولة الهوايات والنشاطات التي كان يحبها ويفعلها سابقاً والتي كانت تؤمن له الفرح، بشكل تدريجيّ ». من الناحية النفسية، على المرء أن يُدرك أنّ جوّ الموت لم يخيّم عليه بعد، لذلك عليه متابعة حياته اليومية بأحسن طريقة ممكنة، كي لا يزيد الطين بلّة. تبدأ العلاجات والعناية لتخفيف وطأة الصدمة والعمل على رفع المعنويات وتخفيف الشعور بالذنب ومحو الأفكار الإنتحارية والشعور بالعبء.


رأي الطبّ

السرطان وباء قد يفتك بكلّ أعضاء الجسم، لكن تختلف حدّته ودرجة خبثه. يفسّر الدكتور خاطر «الإنتكاسة في مرض السرطان هي عودة المرض بعد الظنّ أنه قد شفي منه. وذلك بسبب بقاء خلايا خبيثة لم نرها في الأساس، فعادت تنمو وتكبر لتظهر من جديد. والجدير ذكره أنّ الموضوع متعلّق بقياس الخلية، إذ بغية تكوين مللمتر واحد، نحتاج إلى أربعة ملايين خلية، ولتكوين سنتمتر واحد نحتاج إلى أربعة مليارات خلية! فلا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة. يمكن الجرّاح إستئصال التورّم وما حوله، دون رؤية بعض الخلايا المتبقية، فتعاود التورم والمرض من جديد .»

من جهة أخرى، ليست كلّ أنواع السرطانات معرّضة للإنتكاسة، بل يختلف الأمر حسب العضو المصاب ونوع السرطان والحالة الأساسية إبّان العلاج الأولي، أي حسب المرحلة. يضيف الدكتور خاطر «إنّ أكثر أنواع السرطانات التي تكون عرضة للإنتكاسة هي سرطان الثدي، إضافة إلى بعض السرطانات في الجهاز الهضمي. أمّا سرطان الثدي، فيمكن أن تطول الفترة قبل الإنتكاسة، فيما سرطانات الجهاز الهضمي قد تعود بسرعة في غضون سنة. وعادة، عندما تحصل الإنتكاسة، لا يمكن إجراء جراحة مجدداً في كلّ الحالات بسبب تفشي المرض في أكثر من مكان. ففي حالات سرطان الثدي، يتمّ اللجوء إلى العلاج عوض الجراحة، بينما بعض خصائص سرطان الأمعاء تسمح بإجراء جراحة إذا ما ظهر المرض في الكبد أو الرئة .»


تفسيرات
نفسية

 كلّ إنسان يتمتع بشخصية فريدة ويتحمّل أعباء الحياة بطريقة مختلفة عن الآخرين . فلكلّ شخص ظروف خاصة وبيئة يتحدّر منها وتصرفات معيّنة وقدرة تحمّل مختلفة. لكن في النهاية، ما يجمع بين البشر هو «مراحل الحداد » إثر واقع أليم. تقول الإختصاصية ريشا «عندما يتلقى المرء نبأ الإصابة بمرض السرطان، يمرّ بخمس مراحل تسمى مراحل الحداد، عموماً، قبل أن يرضخ للأمر الواقع. بيد أنّ كلّ إنسان يجتازها وفق وتيرته الخاصة ووضعه. فيمكن ألاّ تكون دوماً بطريقة تدريجية ومحدّدة، بل تختلف من شخص إلى آخر.

بادئ ذي بدء، عندما يتلقى تشخيص المرض، يمرّ بمرحلة الصدمة النفسية والحزن العاطفي، فيمرّ بحالة خيبة أمل وتشاؤم وقلق. قد يمرّ الإنسان في المراحل الأولى بحالة من الرفض ونكران المرض، وفي مرحلة أخرى بحالة من السخط الشديد والثورة والغضب، فيبدو حزيناً وتعباً وقلقاً في الوقت نفسه. في مرحلة لاحقة تكون المساومة، إذ يحاول إيجاد حلّ ما للبقاء على قيد الحياة، كمساعدة الغير أو العيش ريثما يزوّج أولاده... تأتي المرحلة اللاحقة إكتئابية، فيكون هناك إنزواء وحزن وأفكار سوداوية، ليبلغ مرحلة تقبّل الواقع، فيسوّي أموره مع محيطه وينتظر موته دون قلق وخوف، منفتحاً على عالم آخر وعلى تطلّعات مختلفة وجديدة .»

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079