التوحد Autism صمم في الظاهر وعدم تواصل وموهبة
يبتسم كل طفل عندما يرى أمامه وجه أمه المبتسم ويعبّر عن فرحه برؤيتها. لكن ماذا إذا مر الوقت دون أن تعيش الأم هذا التواصل مع طفلها. تأخير النطق إلى ما بعد السنة ونصف السنة وغياب التواصل الاجتماعي وتصرّفات معينة متكررة تدعو الأم إلى الشك باحتمال إصابة طفلها بالتوحّد. اليوم، لم يعد مسموحاً ألا يعير الأهل اهتماماً لهذه الأعراض الأساسية ، كما يقول الطبيب اللبناني الاختصاصي في الأمراض النفسية لدى الأطفال جون فياض. التشخيص المبكر للتوحد هو الحل، وأي تأخير يعني تدهور الحالة دون سبيل للعودة إلى الوراء.
- ما هو التوحّد؟
التوحّد هو نوع من اضطرابات النمو عند الأطفال. علماً أن نمو الطفل يتم في مجالات عدة كالحركة والمشي والعاطفة والتواصل الاجتماعي... وتتطور هذه المجالات المختلفة بشكل متوازٍ من الولادة وفيما يكبر في السن. علماً أن حالة التوحّد لا تأتي وحدها، بل تترافق عادةً مع اضطراب في كهرباء الدماغ. أما التوحد فعبارة عن اضطراب أو خلل في ثلاث نواحٍ يعاني الطفل صعوبة بالغة فيها وهي التواصل الاجتماعي واللغة واللعب.
- ما المشكلات التي يعانيها في كل من هذه المجالات؟
التواصل الاجتماعي: في هذه الناحية يعجز الطفل عن تلقي عملية الضحك من أمه. كما يعجز عن التواصل معها أو مع الأهل والأصدقاء. في هذه الحالة لا يعرف الطفل ما يفعل ويجد صعوبة في قراءة تعابير الشخص الذي أمامه. الطفل الذي يعاني التوحد لا يعرف التواصل من خلال النظرات ولا يبقي عينه في عين الشخص الذي أمامه فترة طويلة. كما أنه لا يعبّر بالفرح، ولا يشارك الآخرين في أمور يريد القيام بها.
اللغة: يعاني معظم الأطفال الذين يعانون التوحّد صعاباً في استعمال اللغة وفي تطوّرها. كما انهم يتأخرون في الكلام أو يستعملون تعابير خاصة بهم يصعب فهمها كونها غير موجودة. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأطفال الذين يعانون التوحد يكون نمو الكلام لديهم طبيعياً لكن لا يملكون القدرة على البدء بحديث. كما يجد الطفل الذي يعاني التوحد صعوبة في التعبير عن أفكاره بالكلام، وبالتالي لا يمكن التحدث معه. في المقابل يمكن أن يكرر الكلام بعد الآخرين كالببغاء. وفي بعض الحالات قد لا يتكلّم أبداً.
اللعب واستعمال الأغراض حيث يلاحظ أن لعب الطفل الذي يعاني التوحد ليس كلعب الأطفال الآخرين، حيث يلعب بقطعة من اللعبة التي أمامه ويركز عليها وحدها. يهتم الطفل الذي يعاني التوحد بأجزاء الألعاب ويكرر الحركات نفسها والأصوات. الحركات التي يقوم بها ليست عادات وقد لا تعني شيئاً للآخرين لكنها تعني له شيئاً. على سبيل المثال يمكن أن يكرر حركة إضاءة النور وإطفائه لفترة طويلة.
- هل التوحد هو مشكلة نفسية أم صحية؟
يصنّف التوحّد ضمن الاضطرابات النفسية لكن أسبابه ليست معروفة حتى الآن. التوحد هو خلل في نمو مواضع معينة في الدماغ حيث تتكاثر الخلايا بشكل عشوائي . في هذه الحالة يعاني الطفل الذي يعاني التوحّد صعوبة في إيصال الرسائل إلى الآخرين بالشكل الصحيح. في معظم الحالات لا يوجد سبب معين يفسر. أحياناً تكون العوامل الوراثية والجينية. قد يكون هناك خلل في الصمغيات أو اضطراب في الجهاز العصبي.
- هل تظهر أعراضه حكماً في سن مبكرة؟
قبل سن الثلاث سنوات، تكون أعراض التوحد واضحة حكماً.
- هل من أطفال أكثر عرضة للمرض؟
لا توجد أي طريقة لمعرفة من يعتبر أكثر عرضة للتوحد. لكن أظهرت بعض الدراسات أن تقدم سن الوالد يزيد احتمال ولادة طفل يعاني التوحد.
- كيف يحدد العلاج المناسب لمريض التوحد؟
عندما يشك الأهل باضطراب لدى الطفل، يجب إجراء الفحوص المتخصصة له لتحديد العلاج المناسب. وتظهر الفحوص ما إذا كان يعاني فعلاً التوحد لأنه قد تكون المشكلة التي يعانيها الطفل مجرد خجل اجتماعي. علماً أن هناك درجات من التوحد.
- هل يجب أن تتوافر المؤشرات كلّها والأعراض التي تم ذكرها حتى يعتبر أن الطفل يعاني التوحّد؟
يعاني الطفل درجة معينة من التوحّد في حال توافر ثلاثة من الأعراض التي تم ذكرها. لكن بشكل عام يجب أن تظهر لديه ستة أعراض حتى تكون المشكلة موجودة فعلاً لديه. ولا بد من الإشارة إلى انه لا يجوز أن يصل الطفل إلى سن السنة ونصف السنة أو السنتين ولا ينطق بأي كلمة وينتظر الأهل دون أي تحرّك. فإذا كان تأخر النطق هو المشكلة وحده يختلف وضعه إلى حد كبير عما إذا كان ذلك مترافقاً مع مشكلات أخرى. من هنا أهمية التشخيص المبكر ليتم التدخل في مرحلة مبكرة لمزيد من الفاعلية في العلاج.
- كيف يتم تشخيص المرض؟
يتم تقويم التوّحد من خلال العامل النفسي. كما أنه إذا ترافق الإفراط في الحركة لديه مع تأخير في النطق فيجب التفكير في التوحد. علماً أن الإفراط في الحركة قد يبدو أحياناً وكأنه حالة من التوحد، لكن يتميّز الطفل الذي يعاني التوحّد بكونه يجد صعوبة في التواصل الاجتماعي. كما انه قد يجد صعوبة في التعبير اللغوي. التشخيص لا يحصل من الجلسة الأولى مع الطبيب، نظراً لأهميته. ولا يجوز الاستهانة بالتشخيص، لذلك تجرى فحوص عدة واختبارات للتحقق من درجة الأعراض التي يعانيها الطفل. قد تكون هناك حاجة للجوء إلى ثلاث جلسات أو أربع أو خمس، لأنه يتم تحديد العلاج على أساس التشخيص الذي يؤثر في مجرى حياة الطفل. من الضروري تشخيص التوحد في مرحلة مبكرة لأنه يحدث فرقاً مهماً لاحقاً في نموّه. كما يختلف العلاج في هذه الحالة لأن العلاج يعطى بحسب الحالة وبحسب درجة التوحّد.
- ما العلاج الذي يتبع مع الطفل الذي يعاني التوحّد؟
يشمل العلاج المتعدد الاختصاصات جوانب عدة هي العلاج السلوكي والعلاج النفسي والعلاج التربوي من خلال طريقة تعليم خاصة وعلاج النطق. كما يعاني الطفل أحياناً صعاباً في استعمال جسمه، مما يستدعي اللجوء إلى العلاج الحسي الحركي .
- هل يحتاج الطفل الذي يعاني التوحد إلى دواء؟
لا يحتاج كل الأطفال الذين يعانون التوحد إلى دواء، إلا إذا كان الطفل يعاني درجة عالية من المرض أو عجزاً في التركيز أو الانتباه أو ما إذا كان يلجأ إلى العنف إلى درجة يؤذي فيها نفسه. لكن في كل الحالات، لا يوجد حتى الآن علاج لمشكلة ضعف التواصل الاجتماعي التي يعانيها الطفل المتوحد.
- هل تتحسّن حالة الطفل الذي يعاني التوحّد بفضل العلاج؟
تتحسّن الحالة بحسب درجة الذكاء عند الطفل، علماً أن نسبة 60 أو 70 في المئة من الأطفال الذين يعانون التوحد لديهم نسبة ذكاء أقل. ونسبة 30 أو 40 في المئة لديها نسبة ذكاء عادية أو مرتفعة جداً. من هنا أهمية تنمية هذه الناحية.
- ما الذي قد يتعرّض له الطفل الذي يعاني التوحد ولم يخضع للعلاج؟
في حال عدم معالجة الطفل الذي يعاني التوحد لا يمكن أن يعيش حياةً مستقلة وأن يتعلّم وينمو بشكل طبيعي. ففي حال معالجته يمكن أن يتعلّم القراءة والكتابة وأن يهتم بأمور معينة وينجح إلى حد كبير، شرط ألا يكون هناك في المجال الذي يختاره تواصل اجتماعي، كون التواصل الاجتماعي هو صلب موضوع التوحد. وبقدر ما تكون الأعراض أقل يكون التحسّن أكبر بفضل العلاج، وقد تصبح حالة الطفل طبيعية كأي طفل آخر.
- هل يحتاج الطفل الذي يعاني التوحد بالضرورة، إلى تعليم متخصص؟
في المرحلة الأولى قد تكون هناك حاجة إلى التعليم المتخصص بحسب درجة الذكاء عند الطفل. إذا كانت درجة الذكاء طبيعية، فليس ضرورياً وضع الطفل في مدرسة متخصصة بل يمكن وضعه في صف عادي.
- ما دور الأهل في المعالجة؟
يعتبر الأهل جزءاً من فريق العمل الذي يعمل على معالجة الطفل، وهم يشكلون عنصراً ضرورياً فيه. وتجدر الإشارة إلى أن الأم كانت تلام في السابق بسبب حالة التوحد التي يعانيها الطفل وعدم تجاوبها معه. في الواقع سلبية الأم ناتجة عن الخلل في التواصل عند الطفل لا العكس.
تجربة من الواقع
كانت سعادة السيدة أروى حلاوة لا توصف بطفلها البكر عباس. كانت تمضي وقتها بمداعبته واللعب معه. ولشدة تعلّقها به، لم تشك بوجود مشكلة رغم أنها كانت تمضي ساعات في اللعب معه دون أن يتجاوب معها، وتحاول إضحاكه دون جدوى. حتى أنه لم يكن ينظر إليها ولا يرد عليها. حتى أن كل اللعب التي كانت تحضرها له كانت دون قيمة له. كانت السيدة أروى تعتقد أن طبع طفلها هو سبب طريقة تعامله معها. «لم أعر الأمر أهمية في ذاك الوقت،لكن فيما كنت في لندن أجريت له فحصاً للسمع وهو في سن الثمانية أشهر، وكانت النتيجة أنه لم يكن يلتفت لدى سماع أي صوت. طلب الطبيب مني أن أخضع عباس لCT Scan كونه يعاني تأخيراً في المشي ولا يلتفت عند التحدث إليه. ولم يمشِ قبل السنة وسبعة أشهر، حتى انه لم يتكلّم ولم تكن لديه ردة فعل. اعتقدت في البداية أن نموّه بطيء. كنت أشعر بوجود مشكلة لكني لم أشأ الاعتراف بذلك. عانيت حالة من الاكتئاب بسبب حالة عباس. وعندما أدخلته الحضانة، قيل لي إنه يحتاج إلى اختصاصي، لكني رفضت ذلك. وكانت المشكلة في عدم وجود مراكز متخصصة لحالته في ذاك الوقت في لبنان. لم يتكلّم إلا في سن الست سنوات. كنت أرافقه إلى المدرسة وأعيد له ما يتعلّمه الأطفال الباقون. لم يشخص أي طبيب أو اختصاصي الحالة التي يعانيها عباس، بل كان الكل يخطئ في التشخيص».
وتضيف السيدة أروى: «قصدت اختصاصية في علم النفس، عندما قرصت عباس لم يجرّك ساكناً. تذكرت عندها انه لا يبكي عندما يسقط أو يتعرض لسوء وكنت أعتقد أن شجاعته هي السبب. في الواقع كان عباس يعاني درجة معتدلة من التوحد، كما أخبرتني الاختصاصية في علم النفس. وطلبت مني الصبر ومتابعة كل جديد في الموضوع».
لم يتمكن عباس من مجاراة زملائه في الدراسة، وكان الكل يسخر منه. فما كان من السيدة أروى إلا أن أدخلته إلى مركز متخصص جديد، كان أول تلميذ فيه.
في العام 2000 اكتشفت السيدة اروى مع سيدات أخريات يعشن حالتها نفسها أنه ليس في لبنان مراكز متخصصة للتوحد مع برنامج محدد. لذلك طرحن مشروعهن على إحدى المدارس التي تبنته بهدف تعليم الأطفال الذين يعانون التوحد ضمن برنامج متخصص في مدارس عادية. خلال السنوات التالية ازداد عدد الأطفال الذين انضموا إلى البرنامج فبعد أن كانوا 3 أصبحوا 13 يتبع كل واحد برنامج دمج بحسب قدراته بمرافقة فريق عمل متكامل. وزادت حملات التوعية التي تقوم بها الجمعية والمؤتمرات والنشاطات التي تنظمها ليطّلع المجتمع بشكل أفضل على هذه الحالة. وانضم إلى الجمعية المزيد من الأهل، إلى أن تم تأسيس مركز للتشخيص المبكر لحالات التوحد بعدما لاحظ أعضاء الجمعية أن أطفالهم الذين تم تشخيص حالة التوحد لديهم في مرحلة متأخرة لم يتقدموا في التعليم كأولئك الذين اكتشفت حالتهم في مرحلة مبكرة.
في العام الماضي أقرّت الأم المتحدة اليوم العالمي للتوحد في 2 نيسان/أبريل من كل عام. وأنشئت «شبكة عربية للتوحد»، وعقدت اجتماعات عدة على المستوى العربي وأصبحت الجمعية اللبنانية للتوحد المكتب التنسيقي لها. حالياً يتم تأسيس مركز للبالغين الذين يعانون التوحد ولم يتمكنوا من تحقيق تقدم ملحوظ ولا يعيشون باستقلالية تامة.
وعن ابنها تقول السيدة أروى «عباس في سن التاسعة عشرة حالياً وهو في الصف التقني ضمن البرنامج المتخصص الذي وضعته الجمعية. هو يعبّر عن حاجاته وأصبح مستقلاً لكنه لم يتمكن من تحقيق أي تقدّم في القراءة والكتابة. يتميّز بمهارة خاصة في الطهو والتصوير. وفي تصوّري لمستقبله أحلم فقط بأن يكون سعيداً أياً كان اختياره، ونحن نوفر له ما يريد ونوجهه بأفضل صورة ممكنة».
حقائق عن التوحّد
- التوحد عبارة عن خلل في نمو الدماغ تنتج عنه مشكلات في التواصل في المجتمع.
- يصيب مواضع عدة في الدماغ لكن لا تزال الطريقة التي يحصل فيها ذلك مجهولة.
- تبدأ أعراض التوحّد بالظهور قبل سن الثالثة لدى الطفل.
- يصيب التوحّد الأولاد أربع مرات أكثر من الفتيات.
- ترتبط الإصابة به بالعوامل الجينية.
- يلاحظ الأهل الأعراض عادةً في السنتين الأوليين من حياة الطفل.
- رغم العلاج الذي يعمل على تصرّفات الطفل وقدرته على التواصل قد يساعد الطفل الذي يعاني التوحد على زيادة ثقته بنفسه، لكن لا يتوافر علاج فاعل حتى الآن.
- قلائل هم الأطفال الذين يعانون التوحّد ويتمتعون باستقلالية لاحقاً في حياتهم، لكن بعض هؤلاء الأطفال ينجح كثيراً في حياته.
- في حالات نادرة، تدخل الإصابة بالتوحّد في إطار التشوهات الخلقية.
أعراض التوحّد
- تبادل من طرف واحد
- عدم مشاركة إلا في حال التشجيع على ذلك
- عدم اهتمام بالآخرين
- تصرفات غريبة
- يبدو الطفل كأنه أصم
- لا يدرك الخطر
- لا يستعمل مخيّلته في اللعب
- لا يتواصل بالنظر
- يعبّر عن حاجاته من خلال استعمال يد شخص راشد
- لا يلعب مع الأطفال الآخرين
- إفراط في الحركة أو على العكس هدوء إلى درجة الخمول
- لا يعبّر عن الإحساس بالألم
- يتمتع بمواهب معينة كالعزف على آلة موسيقية
- يردد الكلمات كالببغاء
- يضحك أو يبكي بلا سبب
الجمعية اللبنانية للتوحد
الجمعية اللبنانية للتوحد هي مؤسسة غير حكومية أسستها عام 1999 مجموعة من أهالي الأطفال الذين يعانون التوحد مع بعض الاختصاصيين للاهتمام بالأطفال الذين يعانون التوحد ومساندة عائلاتهم. تضم الجمعية أكثر من 150 عائلة في لبنان والدول العربية وكندا والولايات المتحدة. الجمعية عضو في «شبكة الدمج» والاتحاد الوطني لجمعيات أهلية ومؤسسات التخلف العقلي والمنظمة العالمية للتوحد ومنظمة توحد أوروبا.
أهدافها:
- الدفاع عن حقوق الأشخاص الذين يعانون التوحد.
- تقديم تربية أفضل للأطفال الذين يعانون التوحد.
- مساندة العائلات ومساعدتها على تقبّل الصعاب المرافقة للتوحد وتخطيها.
- مساعدة الأهل في اختيار النظام. التربوي الأنسب للطفل وتوجيههم للاختيار من الخدمات المتخصصة المتوافرة.
- إقامة ورش عمل للأهل لإعدادهم للعمل مع أطفالهم في المنزل.
- توعية المجتمع حول التوحد وحقوق الشخص الذي يعاني التوحد وواجباته.
- التشديد على أهمية الكشف المبكر من أجل التدخل المبكر.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024