تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

هاجس الوسواس القهريّ

كثيرة هي الأمراض النفسية الدفينة التي ترخي بظلالها الثقيلة على حياة الإنسان، وتُكبّله فتجعله أسير  تصرّفاتها اللاإراديّة وعواقبها غير المحمودة. فمن الصعب أوّلاً الإقرار بالمعاناة من مرض نفسيّ، لما يشّكله الأمر من «آفة» إجتماعية، وما يولّده من نفور بين الناس. ذلك أنه في المجتمعات الشرقية، لايزال الشق النفسيّ غير متداول علناً وطيّ الكتمان  لأنه مرتبط إرتباطاً وثيقاً بحالات «الجنون» على سبيل المثال.  إذ نادراً ما يتقدّم شخص ليعترف على المفضوح، أو حتى ضمن نطاق العائلة، أنه يعاني من إضطرابات نفسية، مخافة ان يرفضه المقرّبون، أو حتى أن يُشفقوا عليه أو ربّما يتبرأوا منه. لكن بعض الحالات النفسية تكون عُصابية، ولا تمّت الى الجنون بصلة. إذ تكون نتيجة تربية صارمة، أو بسبب صدمة كبرى، أو إثر خلل وراثي. وخير دليل على ذلك الحالات القهرية التي قد تتحوّل من روتين أو عادة إلى  مبالغة فهاجس. فالحالة القهريّة لا يمكن السيطرة عليها. ومع الوقت قد تتعارض مع نمط العيش السليم لتشكّل عائقاً.

الوسواس القهري والهاجس الملّح للتنظيف والترتيب من أبرز ما يُحيل يوميات شخص عادي إلى مُعضلة، إذ يتخبّط جاهداً لتنفيذها، رغماً عن إرادته لإسكات الهاجس الذي يتنابه.  تشرح المرشدة النفسية جويل خوري أبعاد الحالة النفسية المعروفة بالوسواس القهريّ Obsessive Compulsive Disorder، بغية إطلاع الناس على هذا المرض الذي يهيمن على تفكير المرء. كما تتطرّق إلى أنواعه المتشعّبة مفصّلة أسبابها وسُبل علاجها. وتعطي المساعدة الإجتماعية غادة الحكيم نظرة خاطفة عن تعامل الأشخاص مع بعضهم إزاء المعاناة من هذه الحالة، وعن تصنيفهم للإنسان الذي لا حول له ولا قوّة تجاه هذه التصرفات اللا إرادية التي يقوم بها.

وسواس بإمتياز

صحيح أننا قد تربّينا منذ نعومة أظافرنا على واجبات معيّنة كالترتيب والنظافة والإستحمام... وهذه كلّها أمور تربويّة بديهيّة. لكن عندما تصبح العادة هاجساً ويفلت زمام الأمور من أيدي الإنسان الذي من شأنه أن يقوم بها، يتحوّل الروتين إلى حالة مبالغ بها، ليُضحي في مرحلة لاحقة وسواساً قهرياً لا يمكن ردع المرء عن القيام به مهما حاول من دون مساعدة مختصّة.
ولعلّ أبرز مقوّمات الإصابة بالوسواس القهري تتمثّل في عدم القدرة على لجم الذات عن القيام بأمور محدّدة.

تقول خوري: «يدخل إضطراب الوسواس القهريّ ضمن خانة مصنّفة على أنها حالة قلقيّة نفسية مرضيّة سلوكيّة، تتمثّل برغبة قويّة لدى المريض في السيطرة على المحيط الخارجيّ وفي الأفعال المتكررّة التي لا يرغب فيها لكنها تصدر رغماً عنه وإن حاول تلافيها. فيقوم المصاب بهذه الحالة الوسواسية بأفعال قهريّة وتراوده أفكار غير إعتياديّة، لا يستطيع الإمتناع عنها لأنها تخفّف قلقه. وهو يكون مدركاً أنّ هذه هي أفكاره وأفعاله وليست بهلوسات».

ومن الأمثلة الشائعة على الإصابة بهذه الحالة، تكرار غسل اليدين لعشرات المرّات يومياً خوفاً من إلتقاط الجراثيم، وتمضية فترة طويلة في القيام بهذه العمليّة، أو حتى المبالغة في الترتيب، فلا يسمح مثلاً بنقل قطعة من مكانها إلاّ على يد الشخص نفسه. ففي هذه الحالة، يتعرّض الإنسان لأفكار أو إندفاعات أو خيالات تأتيه رغماً عنه ولو كان يعرف أنها ليست مقبولة، وهذا النوع من الأعراض  يتجلّى في الوسواس. وأمّا الأعراض الأخرى، فعبارة عن الأفعال القهرية أو الأعمال المتكرّرة أو الأفعال العقليّة مثل العدّ وإعادة الكلمات سرّاً وما شابه، إذ يجد الشخص نفسه مرغماً على ذلك إستجابة لأفكار وسواسية أو وفق تعليمات صارمة غير مرنة وأفعال نمطيّة.

حالات وسواسيّة متعدّدة

يتجلّى الوسواس القهريّ على شكل حالة قلقيّة نفسية تفرض القيام بعمل ما للسيطرة على زمام الأمور. لكن لا يعاني الجميع من الحالات ذاتها، بل يمكن التحدث عن  ثلاث فئات كبرى. تقول خوري «قد يعاني البعض من الوسواس الفكريّ الذي هو عبارة عن فكرة معيّنة تراود المرء إلى ما لا نهاية وتقضّ مضجعه وتُكرّر الأسئلة في عقله، ومتى لاقى لها جواباً معقولاً، تتولّد منها أسئلة أخرى.
كما ترتبط إلى حدّ ما بالتشكيك في الأمور الرئيسية مثل الديانة وما شابه، وتدور حول مبدأ الصواب والخطأ. هذا، وقد تنشأ عند المرء الحاجة الملحّة إلى ترداد كلمات محدّدة في عقله عدّة مرّات لإبعاد شبح الوسواس الذي يعاني منه، أو حتى قد يعمد إلى عدّ الأرقام بطريقة متواصلة فكرياَ لمحاولة الحدّ ممّا يزعجه».

من جهة أخرى، تضيف خوري: «قد يكون الوسواس خوفياً، يتعلّق بالأشياء الصُغرى التي لا يُعيرها الإنسان العادي أهمّية كبيرة. ولعلّ أبرزها هاجس النظافة والإغتسال بإفراط: تكون هذه الأفعال خوفاً من إلتقاط الجراثيم والأمراض والميكروبات، أو لأنّ الشخص يشعر أنّه وسخ على الدوام فيشعر بحاجة إلى تكرار غسل اليدين مراراً وتكراراً، أو يُفرط في نتظيف البيت والتطهير والتعقيم».

وأيضاً، تكون الشريحة الأخيرة من هذه الحالة النفسية هي، حسب خوري «الإصابة بالوسواس التهجّميّ  الذي يتجلّى بالخوف من إفتعال عمل ما من جرّاء الأفكار الوسواسيّة. تتمثّل هذه الحالة في شعور المريض بالخوف والقلق، مخافة من أن يُقدم مثلاً على قتل إبنه أو على إضرام النار في المنزل أو على الإنتحار... لكنه لا يفعله بل يخاف من تكرار الفكرة في رأسه فقط».

أعراض واضحة

قد لا نستطيع دوماً في مجتمعاتنا الإحاطة بجميع الأفراد والإختلاط مع الناس ضمن خصوصياتهم. لكن من غير المعقول أن تمرّ حالة وسواسيّة متقدّمة من غير أن يلحظها المحيطون. ذلك أنّ الشخص الذي يعاني الوسواس القهريّ سوف يقوم بتصرّفاته اللاإرادية خفية وعلانية لا محالة، كونه لا يتمكّن من لجم ذاته والكفّ عن التصرفات المبالغ بها.

وخير مثال على ذلك المريض الذي يعاني هوس الترتيب وهاجس النظافة. تفسّر خوري «في حال الإصابة بهذه الحالة القلقيّة، تساور المريض أفكار لها علاقة بإلتقاط الأوبئة والميكروبات أو يشعر بأنه وسخ مع أنه يكون نظيفاً وقد إستحمّ للتوّ. فيعمد إلى التنظيف المتكرّر والمبالغ، كما يطهرّ ويعقّم كلّ شيء من حوله بإستمرار، ويستحمّ كثيراً، ولا يقترب من الآخرين كي لا يلتقط الجراثيم منهم، ولا يلمس الأغراض بيديه، ولا يجلس على الكرسيّ من دون وضع حماية، وقد يصل به الأمر إلى تعقيم أدوات الأكل وأخذها معه إلى المطعم مثلاً».

وقاية وعلاج

ببساطة، من خلال التربية السليمة، يمكن تجنيب الطفل الإصابة بالوسواس القهريّ من جرّاء الضغط المباشر من قبل الأهل. تؤكّد خوري: «لا يجوز التشدّد كثيراً وفرض التنظيم والترتيب إلى أقصى حدود، ولا يجب الهوس بتربية الطفل والمبالغة في الإهتمام، وإعارة أدقّ التفاصيل أهمّيّة كبرى. بل يجب ترك متنفّس حرّيّة له ليفرض طباعه وشخصيّته المستقلّة».

أمّا من حيث العلاج، فإنّ الإعتراف بالمشكلة هو الخطوة الأولى للخروج من المأزق. فعندما يقرّ الشخص بأنه قد تعب من حالته ويريد المساعدة، يتوجّه الى الإختصاصيّ الذي يطرح عليه الأسئلة، يفسّر له حالته ويشخّصها وفق إجاباته ويصف له العلاج المناسب.

 تفسّر خوري: «يشمل العلاج شقين متلازمين، هما العلاج الدوائيّ والعلاج السلوكيّ الإدراكيّ. فقد ثبت أنّ بعض الأدوية المضادة للإكتئاب تخفّف من نسبة الوسواس، فيما يُعمل من جهة أخرى على تغيير سلوك الشخص عبر تعريضه لما يخيفه ويمنعه من تلافي العواقب».

بمعنى آخر، في حالة الإفراط في غسل اليدين خوفاً من إلتقاط الجراثيم مثلاً، يتمّ تعريض المريض لحالات يخشاها، كأن يصافح عدداً من الناس ويُمنع من غسل يديه. وهكذا تدريجياً، يتزامن العلاج مع تناول الدواء. ومن جهة أخرى، يُعمل أيضاً على إدراك الفكرة التي أدّت إلى حالة الوسواس، فغالباً ما يكون مصدرها إزعاج آخر يترجمه المريض بالوسواس القهريّ. لذلك، ينبغي فهم الموضوع من كل جوانبه للتمكّن من معالجته.

توجيهات

صحيح أنّ الوسواس القهريّ حالة مرضيّة، لكنه قابل للعلاج متى أيقن الشخص مدى تأثير السلبيّ على نواحي حياته. فيجب التوجه إلى الإختصاصيّ للحصول على المساعدة الفوريّة. تختم خوري: «يجب التفريق ما بين الوسواس القهريّ والهذيان. إذ إنّ الحالة الأولى تنمّ عن أعمال لاإراديّة يقوم بها الشخص لكنه يكون مدركاً لحالته ويعرف أنّ تصرّفاته  ليست صحيحة. بينما المريض الذي يعاني الهذيان تسيطر عليه أفكار يظنها صواب بينما الآخرون في نظره مخطأون».

على الأهل والمحيطين، ألاّ يخضعوا لنزوات المريض ويساعدوه على تنفيذ الأفعال القهريّة . كما لا يجوز تشجيعه على متابعة الأفكار الوسواسيّة والدخول معه في لعبة الطمأنة. ومن جهة أخرى، إنّ الإستخفاف بهذه الحالة ومحاولة نكرانها لا يفيدان البتة لأنها سوف تظلّ موجودة ولن تختفي أو تنحسر مع الوقت. لذلك، يجب عدم الخوف من نظرة المجتمع كما لا يجوز الإنكار بل يمكن ببساطة طلب المساعدة.

نظرة إجتماعيّة

تقول المساعدة الإجتماعيّة الحكيم «عندما يبالغ المرء في تصرّفاته، يفلت زمام الأمور من يديه ويستغرق وقتاً طويلاً للقيام بالأفعال التي يقوم بها مكرّرة من دون حاجة. وهذا الأمر ينعكس سلباً على حياته العائلية والعمليّة والإجتماعيّة والشخصيّة، إذ يمضي كلّ وقته في القيام بالأعمال القهريّة والأفعال المتكرّرة.

وقد يتسبّب ذلك يترك جامعته أو عمله وفي ايجاد هوّة في علاقاته الحميمة والعائلية والإجتماعيّة، لأنّ كل ّ عالمه متمحور لتنفيذ «الطقوس» الوسواسيّة، فلا يجد وقتاً للقيام بشيء آخر وتستحوذ عليه الأفكار الوسواسيّة». وفي أقصى الحالات، من الممكن أن يؤدّي ذلك إلى إدمان الكحول أو المخدّرات لأنّها تحرّره بعض الشيء من حالة القلق الموجودة لديه وتريحه ولو قليلاً من أفكاره الوسواسيّة!

تضيف الحكيم «قد ينعكس الموضوع سلباً من حيث المحيطون والأصدقاء الذين لا يستطيعون معرفة أنّ الشخص مصاب بحالة نفسية مرضيّة وليس بإنسان ذي طبع مزعج مثلاً.

وهذا قد يؤدّي إلى إبتعادهم عنه، كي لا ينزعجوا من ترتيبه المستمرّ وتنظيفه من حولهم. فقد يسأمون من إنتظاره طويلاً ليغسل يديه على عدد الدقائق، أو يتضايقون منه لأنه يرتاب من الأكل خارجاً مخافة إلتقاط الجراثيم. وقد ينسحبون ببساطة من حياته، كي لا يُصنفوا على غراره، فيفضّلون الحصول على صداقات ترتبطهم مع أشخاص لا يعانون مشكلة». لذلك، تكون العواقب وخيمة من حيث العلاقات الإجتماعيّة أيضاً.

تربية صارمة

إنّ إنتشار هذا المرض القهريّ يطال الجميع، رجالاً ونساء على حدّ سواء. يبدأ هذا المرض في سنّ مبكرة، منذ المراهقة الأولى، لكنه يتفاقم مع التقدّم في السنّ، فيظهر جلياً. وهو غالباً ما يتأتى من مزيج من الأسباب البيولوجيّة والتربويّة المندرجة في هذا الإطار.

تؤكّد خوري «ركّز فرويد على أنّ السنوات السبع الأولى هي جوهريّة في حياة الطفل وتطبع شخصيّته اللاحقة. ذلك أنّ التربية التي يخضع لها والتنشئة التي يتلقّاها في خلال سنواته هذه من شأنها أن تقولب تصرّفاته المستقبلية وتكون هي نقطة الإرتكاز. فإذا كانت التربية صارمة وحازمة إلى درجة كبرى أو كان الأهل موسوسين، فسوف يكون الولد كذلك لا محالة.

كما أنّ بعض التجارب الصعبة التي قد يمرّ بها أيّ إنسان في ظروف قاهرة قد تنعكس حالة قلقيّة وإضطراباً سلوكياً أيضاً». لكن يكون الفرق ما بين الرجال والنساء في كيفية تطبيق هذه التصرفات من حيث الإختلاف في التنفيذ، بمعنى أنّ الرجل قد يلجأ إلى الإهتمام المبالغ بنظافته الشخصية من حيث الإستحمام المتكرّر وغسل اليدين لعشرات المرات في الساعة الواحدة، بينما يتّجه سلوك المرأة إلى المبالغة في التنظيف وإزالة الغبار والترتيب وما إلى ذلك.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079