تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

مرض الذُهان أو البارانويا

لا تصحّ على الدوام مقولة «يُقرأ المكتوب من عنوانه». ففي الكثير من الأحيان، تكون الحقيقة متوغّلة في الداخل ومختبئة في الظلام ولا يظهر منها للعيان سوى بعض الخطوط الضئيلة التي تغشّ الناظر للوهلة الأولى.
الإنسان كائن حيّ يملأه الغموض ويكتنفه طابع السرّيّة. وفي بعض الأحيان، تتفاقم حدّة المشاكل والضغوطات من حوله لتسبّب له حالة مرضيّة أو وعكة صحّيّة أو حتى أزمة نفسيّة.فعلى سبيل المثال، تتأتّى معظم الإضطرابات النفسية من عوامل خارجية ضاغطة، تترافق مع إستعدادات بيولوجيّة خلقيّة، فيعاني عندها المرء من مُعضلة نفسيّة. وفي أحيان أخرى، يولد المرض النفسيّ مع الشخص، ويكون الحلّ الوحيد هو العلاج المبكر والمتواصل. ومن هذه المشاكل «البارانويا» أو الذُهان، وهو حالة نفسية مرضيّة تتمثّل بجنون الإرتياب من الإضطهاد في بعض الأوقات، بحيث يعاني المريض من عقدة تجاه المجتمع، ظناً منه أنّ الجميع يبغون إيذاءه والتخلّص منه... لكن يكون هذا الشخص غاية في المنطقيّة والوعي، بحيث يخدع المحيطين به ويوهمهم بصواب تفكيره، بينما يكون عنيداً، لا يتقبّل الإنتقاد بتاتاً.


يشرح الدكتور أسامه دحدوح، الإختصاصيّ في الأمراض النفسيّة والعقليّة، المرض النفسيّ المعروف بالذُهان، موضحاً أبرز أنواعه وأسبابه وأعراضه. كما يتحدث عن العواقب والعلاجات. ومن جهتها، تتطرّق الإختصاصيّة في علم الإجتماع ساندرا جبّور إلى تعامل الناس بعضهم مع بعض في المجتمعات وإنخراطهم في الحياة العمليّة والعائلية والشخصيّة.

مرض الذُهان
كثيرة هي الأمراض العقليّة والحالات النفسيّة التي نصادفها في المجتمع، والتي يعاني منها قسم لا يُستهان به من الناس، علناً أو في الخباء. ولا شكّ في أن لكلّ مشكلة مسبّباتها وأعراضها وطرق علاجها.
يقول دحدوح: «يُقسّم الطبّ النفسيّ الأمراض النفسيّة التي قد يعاني منها الشخص قسمين: الأمراض النُفاسيّة والأمراض العُصابية.
أمّا الأمراض النُفاسية، فهي التي تصيب المرء ولا يدري بوجودها، فلا يعترف بمعاناته من مرض ما، ولا يطلب بالتالي المساعدة أو العلاج. فيما الأمراض العُصابيّة تصيب الشخص ويعرف بوجودها، فيلجأ إلى الإختصاصيّ لمساعدته في تجاوزها».فالإنسان المُصاب بالوسواس القهريّ مثلاً، يعرف بوجود هذه الحالة لديه، كما يُدرك أنها ليست طبيعيّة، فيبحث عن العلاج ليتخلّص منها. وأمّا المُصاب بفصام الشخصيّة، والذي يهلوس ويسمع أصواتاً غير موجودة، فلا يعرف أنه مريض، وبالتالي لا يعالَج ما لم يلاحظ الأهل المشكلة ويذهبوا معه إلى الطبيب.

يضيف دحدوح: «إنّ حالة البارانويا أو مرض الذُهان Psychosis مرض نُفاسيّ، يكون المريض خلاله غير عالِم بحالته ، فلا يعالَج. وهذا الشخص يعاني من أفكار هذيانيّة Delirium. فهذا المرض عبارة عن الإعتماد على الشرح الخاطئ للمعلومات Misinterpretation of Information، فيكون الأساس موجوداً لكنه يفسّره بطريقة خاطئة».فعلى سبيل المثال، في الحالات الطبيعيّة، عندما تُجرى مقابلة مع شخص معيّن، يستعين المحاور بآلة للتسجيل، كي يحفظ الكلام بكلّ دقّة وأمانة. لكن إذا كان الشخص الذي تُجرى معه المقابلة مُصاباً بالذُهان، فسوف يظنّ أنّ آلة التسجيل موجودة أمامه لتخدم المحاور في جعله يتلعثم ويُخطئ في الكلام، فيسجّل كلامه الخاطئ ويقيم، ربما، دعوى عليه في المحكمة بسبب إعطاء معلومات مغلوطة، مما قد يؤدّي إلى سجنه... لذلك من الأفضل له أن يعمد هو إلى إيذاء المحاور-دفاعاً عمّا قد يحصل له-قبل أن يتمكّن الثاني من إيذائه! وتكون هذه التحليلات منطقيّة بالنسبة إليه إنطلاقاً من واقع بسيط، ألا وهو وجود آلة التسجيل أمامه...

مسبّبات البارانويا
ليست كلّ الأمراض العقليّة والنفسيّة معلومة الأسباب والتفاصيل. يقول دحدوح: «إنّ الذُهان حالة نفسيّة مرضيّة تولد مع الإنسان داخل خلاياه بسبب وجود إفرازات معيّنة مغلوطة مثل مادّة الدوبامين وسواها، في مرحلة ما من العمر. لكن لا تلبث الأعراض أن تظهر في سنّ الشباب، فيبدأ المريض بشرح الأمور كيفما يريد، وتتفاقم الأمور معه في عمر الثلاثين أو قبل، لتظهر الحالة الهذيانيّة بكامل عناصرها. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المرض يطال النساء والرجال على حدّ سواء».لا يمكن الجزم بأنّ العوامل الخارجيّة هي سبب الإصابة بالذُهان، لكن التربية قد تغيّر موضوع البارانويا، ففي بعض المناطق والبلدان، يكون الذُهان مرتبطاً بأمور دينيّة أو سياسيّة أو إجتماعيّة أو عاطفيّة... لكن يبقى الرابط في ما بينها هو طريقة التفكير المرضيّة المعتمدة على المنهج الشرحيّ الخاطئ.

أعراض عديدة
تجدر الإشارة إلى أنّ لأنواع الذُهان متعدّدة ومختلفة، حسب التربية والتنشئة. ولعلّ أبرز الأنواع هي تلك المتعلّقة بذُهان الإضطهاد والإرتياب، إذ يظنّ الشخص دوماً أنّ الجميع متآمرون ضدّه لإيذائه والتخلّص منه، بالإضافة إلى الذُهان المتعلّق بالغيرة والعشق والشغف. ففي هذه الحالة، تتطوّر الغيرة من حالة إنسانيّة عابرة طبيعيّة وصفة في الشخصيّة إلى حالة مرضيّة Erotomania وتكون خطرة. فعلى سبيل المثال، قد يرى الشخص المريض مذيعة على التلفزيون «تنظر» إليه، عبر الشاشة، فيظنّ أنها تتواصل معه وحده وترسل له رسائل عبر عينيها، فيتعلّق بها ويظنها مغرمة به، وقد يصل به الأمر إلى ملاحقتها وتعقّبها، وقد يضطهدها ويؤذيها لأنه يكتشف أنها «تخونه» أو لا تلتفت إليه في الحقيقة، من غير أن تكون هي أصلاً على علم بالموضوع، فتكون عندها ضحّية الغيرة المرضيّة الذُهانيّة.

يقول دحدوح: «إنّ الشخص المريض لا يُظهر أعراضاً للعيان، بل هو إنسان منطقيّ للغاية Logical Thinker ويتمتّع بتسلسل أفكار وشروحات، فهو لا يسمع أصواتاً أو هلوسات. لكن تكون شروحاته منطلقة من أشياء صحيحة للتوصّل إلى سوء شرح للأمور».يضيف: «في بعض الأحيان، قد يصل الأمر بالمرء الذي يعاني من الذُهان إلى السيطرة عقلياً على مجموعة من الناس Group Psychosis، فيقتنعون بوجهة نظره وأفكاره ولا مجال لإقناعهم بالعكس. فتكون الأفكار منطلقة من أشياء صحيحة لكن ذات شروحات مغلوطة».
ويبقى أبرز ما في الأمر أنّ الشخص المُصاب بالبارانويا لا يتقبّل الإنتقاد مُطلقاً ويكون متمسكاً بآرائه ولا يغيّر رأيه وإن بُرهن له العكس، بل يعتبر أنّ مغالطته إهانة! وفي الحالات الأكثر تطوّراً، يمكن ان يكون الذُهان هو المعاناة من حالة يظنّ الشخص نفسه فيها أنه فوق مستوى البشر!

عواقب خطيرة
يؤدّي مرض الذُهان إلى إنعكاسات نفسيّة وإجتماعيّة وعائليّة وشخصيّة سلبيّة. وإذا لم يلجأ المريض إلى العلاج، تتفاقم حالته وقد يصل به الأمر إلى إيذاء الآخرين أو حتى إيذاء نفسه.يقول دحدوح: «يخسر المُصاب بالبارانويا القسم العمليّ من حياته، فيترك عمله وأصدقاءه، ويقيم دعاوى على المحيطين به، ظناً منه أنهم يتآمرون عليه، كما يُنفق أمواله على المحامين والمحاكم والتخطيط مثلاً. لكن يبقى أنّ الذُهان المتعلّق بالغيرة والغرام من أخطر الأنواع لأنه غالباً ما يؤدّي إلى إيذاء «الحبيب» المزعوم أو حتى قتله». من جهة أخرى، قد يصل الأمر بالمريض إلى أن يظنّ أنّه سوف يحقق الخلود على سبيل المثال إذا إنتحر، فيؤذي ذاته من غير أن يكون واعياً للعواقب.

مجتمع متزعزع
ترى جبّور أنّ «المجتمع مكوّن من أشخاص مختلفي الأطباع والتربية والتنشئة والبيئة. لكنهم يتأقلمون إلى حدّ ما بعضهم مع بعض، ويتعايشون بكلّ بساطة على الرغم من إختلافاتهم. فإنّ هذا التنوّع هو ما يُغني المجتمعات، ويُعطيها «النكهة» والحياة، إذ ليس كلّ إثنين متشابهان، بل لكلّ إنسان فرادته وهو حرّ في تصرّفاته وخياراته. إلاّ أنّ حرّيّة الفرد تقف عند بداية حرّيّة الآخر، فلا يجوز مطلقاً إيذاء الغير بغية حماية الذات». فالشخص المُصاب بالذُهان لا يتقبّل فكرة وجود الغير من دون أن يخططوا لإيذائه، بل يظنّ أنّ إجتماع شخصين معاً ينمّ حتماً عن التخطيط للتخلّص منه، لذلك يحاول إستباق الأمور والدفاع عن ذاته عبر التخلّص من الآخرين أوّلاً أو إلحاق الأذى بهم أو حتى محاكمتهم.تقول جبور: «لا يجوز أن يصبح المجتمع أداة للمحاربة، بمعنى أن تتفكّك الأواصر والروابط، ونعيش في قانون الغاب، بمعنى إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. بل على العكس، لا يضمر الكلّ الشرّ بعضهم لبعض، وإنّما يحاولون بناء علاقات صداقة أو حتى عمل لخدمة الخير العام».

تواصل دائم

في الكثير من الأحيان، يأتي «الإنقاذ» من مرجعيّة لم نحسب لها الحساب. إذ إنّ الأهل والمحيطين وزملاء العمل والعائلة هم الذي يتداركون وجود خطب ما، ويهبّون إلى المساعدة كيفما أوتوا من مقدرة.تفسّر جبّور: «نعيش مع بعضنا كعائلة كبرى متعاضدة. فالشخص منّا موجود إلى جانب الآخر، وهو يشعر به، بإختلاف العلاقة في ما بينهما، فيحسّ متى واجه عائقاً أو صادفته مشكلة. يلعب الناس دوراً كبيراً في مساندة بعضهم البعض وفي إكتشاف المشاكل حتى، إذ لا يكون الشخص المعنيّ على دراية بها. فعادة ما يُلاحظ الآخرون أنّنا نشكو من علّة ما، بفعل التواصل اليوميّ والإحتكاك الدائم. لذلك يكونون هم جبهة العلاج الأولى، بمعنى أنهم يُطلعون الشخص على ما يرونه خاطئاً ويحاولون طلب مساعدة الإختصاصيّ مهما كانت المُعضلة». وهذا الأمر غاية في الأهمّية، خصوصاً عند الأشخاص الذين يعانون من حالة نفسيّة نُفاسيّة، لأنهم لا يعرفون البتة أنهم مرضى، بل إنّ الغير هو مَن يلاحظ ويحلّل ويساعد ويوصل إلى الطبيب المختصّ كي لا تتفاقم الحالة أكثر

علاجات ومتابعة
لا وقاية من الإصابة بمرض البارانويا، إذ لا مجال لإكتشاف هذه الحالة النفسية من تلقاء أنفسنا بما أنها نُفاسيّة. بل إنّ المحيطين بالشخص المريض هم مَن يتداركون الموضوع وينتبهون إلى أنّ الشروحات «المنطقيّة» مبالغ بها والعناد زائد عن حدّه الطبيعيّ، فيلجأون إلى العلاج.يفسّر دحدوح: «يجب أن نعرف أنّ علاج حالات الذُهان النفاسيّة من أصعب الحالات، إذ يجب دوماً المتابعة والإلتزام. وبما أنّ الشخص لا يعترف بمعاناته من مرض نفسيّ، فهو أوّلاً لن يلجأ إلى العلاج، ولن يكون راضخاً للأمر، لذلك يتمّ العلاج، إمّا بالقوّة أو بالحيلة». ومن جهة أخرى، إذا رضخ المريض للأمر الواقع ولجأ إلى العلاج، فهو حتماً سوف يوقفه لا محالة ما إن يصبح بمفرده دون متابعة. لذلك يلعب الأهل والمحيطون بالشخص المريض الدور الأكبر في العلاج، من ناحية الإدراك والمواظبة على إعطاء المريض الدواء وعلى مرافقته إلى جلسات العلاج النفسيّ، كي لا ينتكس مجدداً.يختم دحدوح: «بعد إستشارة الطبيب المختصّ، يقوّم الحالة ويشخّصها إستناداً إلى أعراض وعوامل معيّنة ترتبط بالطريقة الشرحيّة الخاطئة.

كما تجرى فحوص نفسيّة خاصّة لتحديد نوع الحالة. ويُقسم العلاج شقّين، الأول دوائيّ والآخر جلسات علاج نفسيّ. لكن يجب المواظبة على الإثنين للحصول على النتيجة المطلوبة".العلاج موجود لكنّ المجهود المطلوب كبير، إذ يجب أن يقف الأهل والطبيب المعالج دوماً بجانب المريض في فترات المعالجة التي قد تستغرق وقتاً طويلاً كي لا يعاود الكرّة ويحاول الإنتقام من الطبيب ومن الآخرين بسبب إعتقاده أنهم يريدون إيذاءه!أخيراً، يجب الفصل ما بين الشخصيّة الغيورة والطبع العنيد، وما بين الحالة الذُهانيّة المرضيّة، فالأولى طبيعيّة وموجودة لدى بعض الناس، وأمّا الثانيّة فمرض نفسيّ نُفاسيّ خطير.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079