معرض للفنانة التشكيلية زينة الخليل ينشر ثقافة السلام
شهدت بيروت على تظاهرة ثقافية لافتة طوال 40 يوماً من خلال معرض «الكارثة المقدسة: شفاء لبنان» للفنانة التشكيلية زينة الخليل. مشروع لافت لمعرض تفاعلي هدفت من خلاله إلى نشر ثقافة السلام والمحبة والتسامح بدلاً من مفاهيم الحرب والعنف. في معرض واحد استطاعت الخليل أن تدمج بين الفن والموسيقى والشعر في عمل فني يحمل كل معاني الإبداع، وشكّل جزءاً لا يتجزأ من مشروع كبير هدفه العمل على «شفاء» مواقع عدة في لبنان وأشخاص من خلال «مراسم الشفاء» التي تراها وسيلةً للتخلص من الطاقة السلبية ومظاهر العنف السائدة في مجتمعنا.
- من خلال المعرض الذي أقمته في «بيت بيروت» بدا وكأنك أردت أن تنقلي الطاقة الإيجابية إلى المكان وإلى بيروت من خلال الفن، كيف أتت هذه الفكرة؟
بدأت الأمور تتبلور عندما طرحت على نفسي أسئلة كثيرة :«هل من الممكن ابتكار شيء أو مكان قادر على جذب الطاقة الشافية الإيجابية وإعادة السلام إلى أرض عانت العنف والمآسي؟ هل من الممكن تحويل أرض عاشت الحرب والعنف إلى مكان ملؤه الحب والنور؟ هل من الممكن أن تصبح بيروت عاصمة عالمية للسلام؟. من هذه الأسئلة التي رحت أطرحها على نفسي، انتقلت إلى العمل باستخدام فكرة أو أمر يدل على العنف وتحويله إلى شيء يدعو إلى السلام والحب الذي هو صلب كياننا ونسيج عالمنا وصلة الوصل بين الأشياء كافة.
- من أين تستوحين في تكوين لوحاتك؟
تتكون لوحاتي في مواقع شهدت تجارب عنيفة وصادمة كالكوارث البيئية والإبادات والتعذيب. عملت في بيوت مهجورة وفي سجن الخيام وفي منزلي العائلي في حاصبيا الذي احتلّه الجيش الاسرائيلي لأكثر من 20 عاماً واستخدمه مركزاً اعتقالياً عسكرياً.
- عملياً، كيف تعملين على تحقيق أهدافك؟
من المواقع المعنية التي تتكون فيها لوحاتي، أُقيم مراسم الشفاء وأوثّق كل شيء في صور فوتوغرافية وفيديوات عرضتها في «بيت بيروت» سعياً إلى إحلال السلام وتحقيق المصالحة بين الطبيعة والمجتمعات. تتضمن مراسم الشفاء هذه محطات تأمل وترنيم... أحوّل الرماد المتبقي في هذه المحطات حبراً أسود يحاور غياب الضوء وأرسم به. أرسم مستخدمةً الأوشحة التي ترمز إلى الموت، وخلال هذه العملية أحوّل بقايا الطاقة السلبية الموجودة في الأرض إلى حبّ ونور. على سبيل المثال، كوّنت قطعة فنّية منحوتة مؤلّفة من 17000 خط عمودي خشبي لإحياء الذاكرة المخصّصة لـ17000 شخص لا يزالون مفقودين نتيجة الحرب الأهلية اللبنانية. كما يشير العمل إلى الموقع الجغرافي لبيت بيروت.
- كيف وقع اختيارك على «بيت بيروت» لإقامة المعرض فيه؟
يتميز «بيت بيروت» بموقعه الجغرافي الذي كان يعرف سابقاً بالخط الأخضر أو «خط التماس» الذي يفصل ين المناطق في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كان هذا المكان غير مسكون بسبب تبادل إطلاق النار بين الميليشيات. لم أستطع إلا أن أكون في هذا المكان، ذلك أنني كوّنت كل لوحاتي الفنية في أماكن تشبه «بيت بيروت». هي أماكن مهجورة مزّقتها الحرب وشهدت على مجازر وقتل. أردت أن أعرض أعمالي في مكان يشبه تلك الأماكن التي رسمت فيها اللوحات. شكّل هذا المبنى الأصفر الجميل الذي مزّقته الحرب ملجأ للقناصين والميليشيات. وقد هدفت من خلال المعرض إلى تحويل بيروت إلى مدينة للنور مستخدمةً «بيت بيروت» أحد رموز الحرب لمشاركة الآخرين قناعتي بأن للفن والثقافة تأثيراً إيجابياً في المجتمع، وبأن هذا المعرض يهدف إلى تحويل ما كان يوماً رمزاً للعنف إلى منصّة للسلام والمصالحة. وهي المرة الأولى التي يفتح فيها «بيت بيروت» أبوابه من خلال معرض فني.
- ما الذي تخبره اللوحات عن «مراسم الشفاء»؟
تمثل اللوحات التي أرسمها في المكان الذي تُقام فيه مراسم الشفاء حواراً مع المكان والفراغ. لطالما جذبتني تلك الأماكن المهجورة التي شهدت يوماً على الحياة اليومية وعلى أعمال روتينية وعلى الموت والولادة... تهدف لوحاتي إلى جمع حكايات من التاريخ وحفظها. فواحدة من أهم المشاكل في المنطقة هي فقدان الذاكرة الجماعية. ننسى الماضي بأسرع وقت ممكن بهدف المضي قدماً فنخسر الكثير من تاريخنا وثقافتنا، وهنا يبرز خطر أن تعيد الأجيال القادمة ارتكاب الخطأ الفادح نفسه. اليوم، وبعد 20 عاماً من الحرب الأهلية نرى أن جراحنا لم تلتئم بعد. من خلال وجودنا الكامل داخل الأماكن المهجورة، ومن خلال تسليط الضوء على مكان محدد، يمكن إيجاد لغة بصرية تفهم ما يكون فطرياً في داخلنا: ميلنا إلى العنف وقدرتنا على الحب في الوقت نفسه. ولأن الحب هو الجوهر الحقيقي للإنسان، أعمل على نقل الأُثر والطاقة والتاريخ إلى اللوحات آملةً أن أريح الأرض من الألم والمآسي. وفي النهاية أرسم عبارات «مودّة» و«رحمة» و«غفران» و«سلام»... وأتركها في تلك الأماكن، فتشكل تقديمات إلى المكان ونقاطاً إضافية إلى شبكة السلام المتنامية. من خلال استخدام قوة الفكر وترداد عبارات إيجابية، يمكننا شفاء الأماكن التي شهدت الصدمات.
- ماذا عن القطعة الخشبية الخضراء التي تمثّل اللبنانيين الـ17000 الذين لا يزالون مفقودين نتيجة الحرب الأهلية، كيف أنجزتها؟
هؤلاء الأشخاص الذين غادروا منازلهم ولم يعودوا، لا أحد يعلم شيئاً عن أماكنهم. في الوقت نفسه أعيد إعمار بيروت بسرعة. خلقت قطعة فنية مؤلفة من 17000 خط عمودي أخضر، واحد لكل شخص مفقود. كما تشير إلى «بيت بيروت» لأن المبنى كان خطراً وتحوّل الشارع إلى منطقة فاصلة لمدينة بيروت. لكن بعد سنوات نبتت الأشجار على الطريق والأرصفة فأُطلق على المكان الذي كان يُعرف بخط التماس اسم «الخط الأخضر». ونلاحظ أنه بعد الحرب لم نعش المصالحة ولم تُقم نصب تذكارية تذكّر بالأرواح التي فُقدت ولا تزال المجتمعات مقسومة.
«بيت بيروت» هو نفسه نصب تذكاري للحرب الأهلية، لكنني لا أعتبر عملي نصباً تذكارياً، لأن مصير المفقودين لا يزال مجهولاً. أود أن أشدد على أهمية إنشاء أعمال تكرّم من توفي واستُشهد في الحروب والغزوات. مع الإشارة إلى أنني دعوت عائلات المفقودين أثناء التحضير للمعرض، للمشاركة في وضع الخطوط الخضراء داخل المبنى. كانت تجربة مؤثرة اعتُبرت الخطوة الأولى لعملية الشفاء.
- ما الذي تضمنه المعرض أيضاً؟
إضافة إلى اللوحات وإلى هذه القطعة، أنتجت مجموعة من منحوتات السيراميك والحجر. صنعت 108 قطع من السيراميك لكل واحدة من عباراتي: مودة، رحمة وغفران. وضعت 324 قطعة في «بيت بيروت» لتحاكي ما تبقى من المكان. إضافة إلى ذلك، ترافق المعرض قطعة فنية سمعية تعاونت فيها مع «راي حاج» لإنتاج هذا العمل المستوحى من شعر كتبته بعنوان «96 % حب و 4 % بيروت، صفر، صونيا». وقد سجّل العمل في سجن الخيام في جنوب لبنان وفي «بيت بيروت». أما الخلفيات السمعية فسُجلت بصوتي أثناء تردادي ترانيم وعبارات عن السلام. وضعنا أيضاً منصة للعمل على اللوحات الفنية للعبارات المردّدة، خلال المعرض حيث يتسنّى للزوّار تجربة التأمل أثناء رسمهم لعبارات السلام. إذ إن في إمكانهم اختيار عبارتين فيأخذون الأولى لوضعها حيث يريدون ويتركون الثانية لأجمعها وأضعها في أرشيف المعرض. أُقيمت «مراسم السلام» في المعرض طوال 40 يوماً، وكان من الممكن أن يشارك فيها الجميع حيث تحوّل المعرض إلى منصة للصلاة والحوار والتأمل بهدف بناء ثقافة السلام والرحمة والغفران والتعاطف.
- إلى أي مدى يمكن ترداد عبارات إيجابية خلال 40 يوماً أن يطرد الطاقة السلبية؟
يحتاج الإنسان إلى 40 يوماً لكسر عادة معينة. لدى ترداد فكرة محددة لمدة 40 يوماً تُضبط الخلايا العصبية وتردّدات الدماغ. بهذه الطريقة نخلق أنماطاً شخصية جديدة من خلال تمرين بسيط متكرر. أيضاً فإن ترداد كلمات مودة وغفران وسلام يعيد إدخال هذه الكلمات البعيدة من العنف إلى اللغة العربية المحكية. كما يكسر القوالب النمطية العالمية التي تغذيها فكرة «الحرب على الإرهاب» المفروضة على الثقافة واللغة العربيتين. هكذا تصبح اللغة العربية أداة عالمية للسلام. فالهدف من هذا المشروع هو خلق مكان للملاقاة والشفاء. وإضافة إلى الأعمال الفنية، أقدّم الأدوات في ورش العمل ومحاضرات تساعد الناس.
- بعد شفاء «بيت بيروت»، هل تخططين لشفاء موقع آخر في لبنان؟
عملت على شفاء مواقع عدة في لبنان، وأنوي متابعة هذا المشروع. بدأ مشروعي عندما بدأت بشفاء بيتي العائلي في حاصبيا في جنوب لبنان. عوضاً عن إخفاء ما حصل معنا مثلما كنا نفعل في الماضي، علينا أن نتحدّث عنه. من الضروري أن يعرف جيل اليوم تاريخنا كي لا يكرره. أحياناً يكون التعامل مع الألم أسهل مما نتوقع.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024
مقابلات
بسنت شوقي تتحدّث عن الفن وعلاقتها بزوجها محمد فراج وأسرار رشاقتها
مقابلات
بسنت أبو باشا: أنا محظوظة وأقتدي بالكثير من النجوم
مقابلات