الشاعر والناشر السعودي ابراهيم الجريفاني «ابن الترحال»: المرأة حاضرة في دواويني في كل أوجهها
يكتب الشاعر السعودي ابراهيم الجريفاني الشعر منذ نعومة أظافره. وقد أصدر الكثير من الكتب الشعرية، تناول فيها مسيرة حب وقلق وعيش، مسيرة حل وترحال. ولأنه الشاعر وابن الشعر، لم يكتفِ بإصدار كتبه الخاصة، بل أنشأ دار «الرمق» وجعلها منبراً لاحتضان الشعر والشعراء. وأصدرت داره حتى الآن أكثر من ستين كتاب شعر وأدب... يتحدث الشاعر الى «لها» ويكشف بشكل أكبر جوانية القصيدة التي ترعرعت ونمت في أيامه وحياته.
- من هو ابراهيم الجريفاني، الشاعر والناشر والمتجول في أرض الحياة؟
أنا كائن بشري عرف السمو من ثراء تجربة الحياة، فأنا ابن بيئة عرفت الترحال، والدي رحمه الله (1969)، عشق الترحال على الجمال (قافلة العقيلات) التي وصلت من نجد الى فلسطين، الشام، والعراق، في تجارة متبادلة، وخلال السفر تكوّنت شخصية الوالد. كذلك أنا ابن امرأة أرضعتني حُب البشر والعطاء، فكانت أجمل نسائي ولا تزال رغم وفاتها رحمها الله (1993)، ومن هنا ورثت حب الترحال من والدي وصقلت شخصيتي بمختلف الثقافات حتى أعدت تكويني من هذه الثقافات الفكرية، ومن والدتي عانقت واعتنقت الحُب.
أما الشعر، فالجينات الأساسية وجدت في العائلة لكوني أنتمي الى عائلة حضر الشعر فيها من أخوالي (محمد، عبدالعزيز، شاعر الجبلين، وسليمان وأحمد الجريفاني، الشاعر الغنائي الوجداني)، إضافة الى تذوق وعشق الوالد والوالدة للشعر، ولكون العائلة امتهنت الشعر النبطي، ولأن الترحال أتاح لي فرصة الاطلاع على ثقافات وفكر مختلفين، فقد اهتممت بقراءاتي للشعر العالمي، ما وسم عربياً الشعر الحر، وقد وجدت هدايتي فيه ومنه.
فيما النشر ما زال تجربة أعيش التحدي فيها مع متغيرات الزمن، وهي مرحلة أجدني فيها قد شرفت بتقديم 60 قلماً واعداً، وكثر منهم أكدوا وجودهم في المشهد الثقافي.
إنما حرصت على الجودة الفنية والتفاعل في أهم المعارض، وإتاحة الفرصة للأسماء الجديدة بالتواجد في منابر الثقافة.
- لماذا الشعر في حياتك؟
السؤال هو كيف تبدو الحياة من دون شعر؟ من يعيش الحياة وليس من تعيشه الحياة، يستطيع أن يلمس الجراح ويتذوق آلام البشرية ممن يلتقيهم، فبيننا ألف قلب منفطر وأجساد نازفة مبتسمة لتواري الألم، ومع كل ما تأتي به الأيام وما صرنا إليه في الشارع العربي، وحتى في معتقداتنا الدينية، ذلك كله من لا يشعر به لا يُعتبر من الأحياء، لهذا فإن الشعر الذي اعتنقته هو تعرية الحياة والكتابة بحبر الضجيج، لعل الصوت يكون مؤثراً في ضمائر عانقت الغياب ورسخته، ولهذا أيضاً اخترت ألا يبقى صوتي ساكناً مدجناً، وسأحمل قلمي منسأتي أتوكأ عليها حتى يأتي يوم كان موعوداً.
عرفت قبري وما زال مفتوحاً ينتظر أن أسجّى به، لكني اخترت أن أمرّ على هذه الحياة غيمة ممطرة تحيي بذور المحبة في أرض عانت الجفاف العاطفي. خلقت ضميراً متكلماً ولا أنوي القبول بالضمائر المستترة. فالشعر لغة الحياة ونبضه لمن آمن بالحياة.
- كيف بدأت مع الكتابة الشعرية؟
الحقيقة كيف بدأت مع القراءة. كانت المدراس منذ خمسين عاماً، ذات مناخ فكري، إذ كان هناك تنافس كبير على القراءة والمساجلات الشعرية بين المدارس، وهذا أوجد بيئة مرغّبة ومحفّزة للقراءة، ولم يكن وقتئذ من الترفيه كما هو اليوم، فكانت المجلات والكتب هي ملاذنا، وبالطبع الرياضات المختلفة، وكان للمعلمين دور أكبر، فكان المعلم يعي حقيقة رسالته ويصقل مواهب الطلاب كل وفق مشربه، فهناك الرسام والخطاط والإذاعي وهناك الكاتب والشاعر. إلا أنني عشقت التمرد منذ الصغر، فكنت أبحث عن الشعر الغربي، أميركا الشمالية والجنوبية، إسبانيا، ألمانيا وفرنسا، حتى الروايات المترجمة كنت أتوق إليها أكثر من الروايات العربية إلا ما ندر.
وهنا، كان القرار أن أمارس الكتابة سراً، فقد عرفت في سير الأدباء الكثير منهم من كتاب وناشرين. وبعد نضج التجربة الحياتية، اتجهت الى الصحافة وعملت فيها عقدين ونصف العقد، وكذلك في التلفزة، وهذا أشبع رغبتي في التقرب من الكتاب والتعرف الى الشخصيات الفاعلة سياسياً وأدبياً واجتماعياً.
وفي الأربعين من عمري، فكرت في جمع الكتابات والنشر، وكان الشعر هو الأكثر تعبيراً عما أريد.
- متى تكتب، لمن تكتب، ولماذا اخترت الكتابة مدخلاً لحياة تعبرها؟
أكتب متى تلبّستني الحالة وحان المخاض لولادة المعاناة الفكرية للحالة، وأتوجه بالكتابة الى المجتمع الذي تسبب بالمعاناة، وقليلاً ما أكتب حالة خاصة بل اعتمدت الكتابة بنزف الجُرح، وأزيد إيغاراً في ملامسة الجرح حتى يصرخ المجتمع ويفيق، نحن نعيش في مجتمعات تعاني من ازدواجية الفكر، فهي تدّعي المثالية وتتحدث جهاراً بغير ما تؤمن، ولهذا فإن الكتابة من رحم الواقع خير من أن نكتب لعالم غير ملموس أو محسوس، وقد قرأت لشاعر أندونيسي أن الشاعر ما لم يؤثر في مجتمع فهو ليس بشاعر. لهذا، آمنت برسالتي وعاهدت نفسي أن أبلغ الرسالة عبر الحرف، وبالفعل بدأ المشروع يتكامل بصدور ديواني العاشر.
ولأنني أحمل مشروعاً فكرياً، لم أستكن داخل المجتمع الضيق، بل حملت متاعي في الترحال وأقمت الكثير من التواقيع والحوارات المباشرة لتبليغ الرسالة والعمل بالتأثير، وتجاوزت ذلك بترجمة كتبي الى خمس لغات: الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية والتركية.
- تكتب عن الحب كثيراً، ماذا يعني لك الحب؟
من لم يعرف الحب، لم يتذوق الإيمان الحقيقي، كل الأديان السماوية نزلت رسالاتها داعية الى الحب، فالإيمان الحقيقي هو رهُب الحب، فالحب لا يختزل فقط بعشق امرأة بل بعشق الله والتقرب له بالحُب الحقيقي. نعم أكتب عن الحُب بكل محسوساته العقائدية، الوطنية وبشرية المشاعر، الحُب كما أعتقده، وعقيدة الحياة.
- المرأة في حياة الشاعر ضرورة (شعرية)، ما هي ضروراتك الشعرية؟
المرأة هي المكمِّلة للرجل، ففي بدء الخلق أراد الله عز وجل آية الخلق فخلق آدم وحواء، وأوجد لها نواميس الحياة، فالرجل لا يكتمل إلا بالمرأة والمرأة لا تكتمل إلا بالرجل، والشاعر يبحث في المرأة عن آيات التعبد في سر الكون، فالله جميل بما خلق، ولكن أن تتصور الحال في مجتمع من دون امرأة، سيكون قطعاً مجتمعاً مريضاً يعاني من أمراض فكرية وضعيف الإيمان وغير متّزن.
لكن السؤال يكمن في هل نحن فهمنا المرأة وكينونتها وحاجتنا إليها، للأسف المرأة اختزلت عند البعض كجسد فقط، ورسخت الأعراف والتقاليد كثيراً الهوة الفكرية بين الرجل والمرأة، لهذا فإن المرأة من ضروراتي الشعرية، فهي قضيتي ورسالتي الأولى، ومن يقرأ دواويني يجد المرأة حاضرة في كل أوجهها، وأجد صوت المرأة التي ورّثته الأعراف عورة، سمفونية كرامة، فالمرأة، وهذه حقيقة تعيش بين رجال مؤمنين بفكر الجاهلية من إقصاء للمرأة، وإن أخذت مناصب في دول، إلا أن الرجل في تلك المجتمعات كأنه منحها حقاً ليس لها، وهذا واقع المرأة العربية، فالمرأة العربية ليست كما في بعض الدول من تعيش في المدينة، المرأة خارج المدينة تعيش واقع العرف الاجتماعي، وفي المدينة تدعي المرأة الابتسامة وتستخدم مساحيق التجمل لتخفي حزنها. لن نستقيم فكرياً من دون أن نتكامل مع المرأة وبها.
- تحرص على إِصدار كتاب سنوياً وتطلقه من بيروت، ماذا عن هذا التوقيت وسبب إصداراتك الغزيرة؟
ربما أوحيت لك أن قراري بالنشر كان متى شعرت بنضج التجربة الحياتية، لهذا مع بدء مرحلة الأربعين العمرية، بدأت جمع كتاباتي ووجدت الشعر هويتي، ولتعويض ما فات وضعت بعد التفرغ منهجية كتاب كل عام، ولقناعتي بمعرض بيروت للكتاب ومكانته، أردت تدشين كتبي متزامنة مع المعرض، وفق فعالية خاصة صارت كما وصلني من الأصدقاء من فعاليات بيروت الثقافية كل عام منذ 2007.
والحقيقة، أن بيروت امرأة عشقتها وتمازجت الكيمياء بيننا، ففيها إرث الشعر وعبق الكلمة من شوارعها وجبالها وبحرها، لهذا أطلق دواويني منها لأن أهلي في بيروت عاهدوني على الحب ويقيمون حفلاً أشعر فيه بالحب الحقيقي، ولهذا كان الوفاء لبيروت كما هي بيروت وفت معي. ولا تنسَ أن لبيروت مكانة في الأدب العربي، وعهد الحب باق ما حييت.
- كم كتاباً أصدرت حتى اليوم؟
بلغ عدد كتبي حتى كانون الأول (ديسمبر) 2016، اثني عشر كتاباً، منها كتاب رياضي أعددته عن رياضة البولينغ عام 1985، وكتاب خواطر عام 1997، ومنذ 2007 بدأت مشروع نشر كتاب كل عام، فأصدرت عشرة دواوين تُرجمت الى خمس لغات وتناولها العديد من النقاد.
- من أي جيل شعري أنت، وهل يوجد جيل شعر حديث في بلادك، السعودية، وكيف تقوم تجارب الحداثة في الشعر السعودي؟
أنا من جيل التيه. ففي الخمسين عاماً السابقة، شهد العالم تحولات نعجز عن ملاحقتها، والتيه هنا بين جيل زمان حيث الأصالة والقيم، وبين جيل الآن المتسارع نحو متغيرات تنطلق من دون أساس، إدارة هذا الزمن من قيادات بلا تجربة حياتية ولكنها تتسلح بالمعرفة التقنية، ومثلي من تعلم في مراحل شهدت (الكتاتيب) والتلقين ونشأ عبر المفاهيم والمعتقدات السياسية العروبية والقضية الفلسطينية، حتى اليوم زمن تفاحة التغيير، تفاحة التكنولوجيا، حقيقة في العلم البشري، قد يسبب هذا التسارع لوثة فكرية، ولكن أحاول مجاراة العصر وتعلم من أولادي لغتهم اليوم، هذا التغيير الفكري شمل حتى الشعر، فالشعر اليوم هو قصيدة الومضة أو الشذرة أو ما وسم (الهايكو)، هذا الإيقاع السريع للحياة، زمن المعلقات والنصوص الطويلة، مضى زمن 140 حرفاً، عليك أن توجز الفكرة.
أما الحداثة، نعم هناك في مجتمعي من اعتُبروا من رواد الحداثة، منهم محمد حسن عواد ومحمد العلي، فالعواد نشر نصوصاً في 1924، ولعلنا نذكر أن مجلة «شعر» الصادرة في بيروت، هي من شجعت على النشر، فهي مخصصة بالشعر الحديث، وتخلى الكثير ممن كانوا يكتبون بأسماء مستعارة لعدم تقبّل المجتمع لهذا اللون، وصاروا يفاخرون بمجلتهم.
واليوم، أعتقد أن الجيل الجديد مناصفة يميل الى الحداثة، لأنها لغة العصر والزمن الذي نعيشه.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024