تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

لهذه الأسباب حركة الطفل الفوضوية مفيدة

كثيرًا ما يتلقى الطفل حين يبدأ المشي ويصبح قادرًا على إنجاز أمور سهلة أو اللعب وحده، عبارات تحذيرية من قبيل «لا تلعب بالكوب سوف تكسره»، «لا تقفز سوف تقع»، «أرأيت! كدت أن تكسر ركبتك، لن تركب الدرّاجة بعد الآن».
قد تكون حركة الطفل فوضوية حين يبدأ اللعب والتفاعل مع الأشياء التي تحيط به، وهو لا يدرك بعد ما الذي يمكنه القيام به، وما الذي لا يمكنه فعله، لذا يتعرض للأذى أكثر من غيره. وهذا يفسّر خوف الأهل وقلقهم من أي عمل يُقدم عليه.

هل يجوز للأهل أن يمنعوا الطفل من التحرك بحريّة تجنبًا للأذى الذي قد يلحق به؟
يؤكد اختصاصيو علم نفس الطفل والمراهق أن الحركة حاجة أساسية لنمو الطفل، فهي ليست ضرورية فقط لنمو جسمه، بل لنمو ذكائه أيضًا.
فهذه الأعمال تساهم في تطوير قدرته على التنسيق بين حركة الجسد ورد فعل الدماغ. لذا فمن الطبيعي أن تكون حركة الطفل في البداية فوضوية، كأن يتعثر أثناء المشي أو يسكب الماء حول الكوب أو يستغرق وقتًا طويلاً لانتعال حذائه.
وفي المقابل قد تشعر الأم بالتوتر وعدم الصبر وتحاول القيام عنه بهذه الأمور لكسب الوقت، ولكن هذا ليس حلاً. فالطفل في حاجة إلى تعلّم هذه المهارات وتنميتها إذ إن أي نجاح على المستوى الحركي والحسّي يعزّز لديه الثقة بالنفس، ويساهم في نموه الفكري وتقديره للأمور.
فمن المعروف أن من أهم الأمور التي تمنح الطفل الثقة بنفسه هو الإنجاز، وإذا منعناه من محاولة القيام بهذه الأمور التي تشكل بالنسبة إليه إنجازًا مهمًا، فمن المؤكد أنه سوف يخفق إذا حاول مرة أخرى القيام بأمر معين لأنه يخاف الوقوع في الخطأ.

العبارات التحذيرية تُضعف ثقة الطفل بنفسه
تظن الأم إذا حذّرت طفلها بعبارات مثل «لا لن تستطيع، سوف تقع»، «لا تحمل الصحن، سوف تكسره»، أنها تعبّر عن الحنان والحب اللذين تكنّهما له وبأنها تحميه، في حين أنها تُضعف ثقته بنفسه، وترسّخ عنده الشعور بأنه في حاجة مستمرة إلى الآخرين لمساعدته.
صحيح أن الطفل يحتاج إلى وقت أطول إذا أراد ارتداء ملابسه، في حين أن الأم تقوم بذلك في وقت أقصر، ولكن لا مانع في أن تدعه يقوم بهذه الأمور وحده.
فإذا وقع عن الدراجة لا يجوز منعه من ركوبها، بل علينا تشجيعه على ركوبها مرة أخرى حتى يتعلّم. وإذا وسّخ ثيابه أثناء تناوله الطعام، يجب أن نعلّمه كيف يأكل في المرة الثانية وألاّ نوبّخه.
فعندما يشعر الطفل بثقة أمه به، تتعزّز ثقته بنفسه ويحاول إثبات قدرته ومهارته في الأعمال التي يقوم بها. فهو يريد أن يكتشف العالم المحيط به ويختبر قدراته الجسدية.

طفل مقيّد الحركة يعني طفلاً اتكاليًا
من الملاحظ أن هناك بعض الأطفال لا يستطيعون أداء أهوَن الأمور التي يقوم بها أترابهم، نظرًا إلى اتكالهم على أمهاتهم في كل شيء.
وأحد أسباب هذه الاتكالية كما يشير الاختصاصيون هو تقييد حركة الطفل ومنعه من إنجاز بعض الأمور البسيطة، ما قد يجعله طفلاً اتكاليًا.
فبعض الأمهات لا يستطعن ترك أطفالهن يغيبون عن أنظارهن ولو للحظات. فيما تعبّر أخريات عن محبّتهن لأطفالهن بالتجاوب الكامل مع رغبات هؤلاء الصغار... وينشأ وضع مختل، يتحكم فيه الطفل في تصرفات أمه.


ويمكن تلخيص أسباب تقيّد حركة الطفل وتجعله اتكاليًا بالآتي:

خوف الأم:
قد يكون خوف الأم في الأشهر الأولى من عمر الطفل مبررًا لأنه لا يزال صغيرًا ولا يمكنه تمييز الخطأ من الصواب. لكن عندما يتعدّى عامه الأول فلا يعود لخوفها المفرط من مبرر.
فمن الطبيعي أن يشرع الطفل في اكتشاف العالم الذي يعيش فيه، فتكثر حركته ويزداد نشاطه.
وإذا مالت الأم إلى الإكثار من التدخل، وحدّت من حركة طفلها، أدّى ذلك إلى اضطراب في علاقة الطفل مع عالمه. وفي بعض الحالات تصل الأمور إلى حدّ خفض قدرة الطفل على التفاعل مع الأشياء المحيطة به، مع ما يتطلبه ذلك من نشاط ذهني وجسدي واعتماد كلّي على الأم.
وهذا يمهّد لأن يصير الطفل اتكاليًا. فمثلاً هناك بعض الأمهات لا يسمحن لأطفالهن باللعب وحدهم بحرّية، كالأم التي تضع طفلها في حضنها أثناء اللعب بدل أن تتركه بالقرب منها، وهذا قد ينعكس سلبًا على الطفل حين يكبر، فيشعر أن من واجبه البقاء بقرب أمه، والعمل على نيل رضاها، وتجنّب غضبها.
وقد يؤدي هذا الاهتمام المبالغ إلى شعور الطفل بالذنب، فيكبت رغباته وميوله ويحرم نفسه من الاستمتاع بطفولته في سبيل والدته. بمعنى آخر، يشعر وكأن والدته تقول له: «أنا لك وحدك، لذا من الواجب أن تكون لي وحدي أيضًا».

الأم القلقة:
غالبًا ما تكون الأم القلقة والمتوترة مطلّقة أو أرملة، وبالتالي فقد تُفرط في تدليل طفلها والاهتمام به لتعوّض النقص الذي تشعر به.
فهي لا تسمح لنفسها بأن ترتاح ولا لطفلها أيضًا، مما قد يؤدي إلى عدم اكتمال نضجه وإلى اختلال توازن شخصيته لأنه لا يعرف أين موقعه في هذا العالم، ولا يستطيع تحمّل المسؤولية لأنه لم يعتد ذلك.
فمثلاً، لا تسمح له بتناول الطعام وحده، بل تطعمه بيدها، أو لا تدعه يجلس بمفرده على الكنبة، بل تختار له كرسيًا مناسبًا تُجلسه عليه... وغير ذلك من الأمثلة. كل هذه الأمور تُنشئ طفلاً اتكاليًا لا يعرف الاستقلالية.
وفي المقابل، من المعروف أن الطفل يميل إلى البقاء بالقرب من والدته. وقد يستغل اهتمامها المبالغ فيه، فمثلاً كأن تضع الأم طفلها في حضنها أثناء مشاهدتها التلفاز، أو تحمله إذا أرادت أن تستقبل الزوّار... بمعنى آخر، لا تتركه يغيب عن ناظريها لحظة واحدة خوفًا من أن يقوم بحركة تؤذيه.
وفي المقابل، من الطبيعي أن يروق الأمر للطفل ويشعر بأن من واجب والدته أن تبقى الى جانبه وتلبي طلباته، لأنه لم يعد يعرف موقعه في هذا العالم، ويظن أن وجوده مستمدّ من وجود والدته.
بمعنى آخر، حين تفرط الأم في تقييد حركة طفلها خوفًا عليه، فإنها بذلك تنشئ طفلاً اتكاليًا.

ما الحل؟
على الأم أن تحاول التخفيف من وطأة قلقها وتوترها، وتترك لطفلها حرّية الحركة واكتشاف العالم من حوله، طالما هو بعيد عن الخطر، فإن وقع عن الدرّاجة، عليها تشجيعه على خوض التجربة مرة أخرى، وإن تعثّر وهو يركض، عليها تشجيعه على النهوض، لا أن تصرخ هلعًا.
صحيح أن الأمر صعب في البداية، لكن عليها أن تحاول من أجل خير طفلها، لذا يمكن الأم في البداية أن تسمح لطفلها بالقيام بالأمور البسيطة وحده، مثل تناول الطعام، أو تدعه يرتدي ملابسه وحده، أو ما شابه ذلك، كما عليها أن تسمح له ببعض الفوضى كي يتعلّم الحركة المنظّمة، فالطفل لن يتعلّم إنجاز الأمور وأن يكون مستقلاً إذا منعناه من الحركة بحجة الخوف من أن يؤذي نفسه.

هناك فئة من الأطفال رغم تشجيع الأهل لهم يبدون متردّدين ولا يحسنون القيام بأسهل الأمور. فماذا يمكن الأم أن تفعل حيال ذلك؟
هناك أساليب عدة يمكن الأم اتباعها في تحسين وتنظيم حركة طفلها من دون أن تُعلِمه بذلك. فيمكنها مثلاً أن تطلب منه أن يجلس إلى المائدة من دون مساعدتها أو أن يملأ الكوب أو يتناول طعامه... ومن المؤكد، يحتاج الطفل إلى المساعدة عند قيامه بهذه الأمور، ولكن المساعدة لا تكون بجعله يكرر القيام بها عشرات المرّات حتى يتقنها، بل بمراقبته قبل التدخّل.
فمثلاً، عندما تراه الأم مرتبكًا في انتعال حذائه، عليها أن تنتظر قليلاً ومن ثم تقترب منه وتساعده وتظهر له كيفية القيام بذلك من دون أن توجّه إليه ملاحظة لاذعة كأن تقول له مثلاً: «أرأيت كيف يمكنك انتعال حذائك! أنا متأكدة من أنك في المرة المقبلة سوف تقوم بذلك من دون مساعدتي، وإن لم تستطع فلن أُمانع في مساعدتك مرة ثانية».
فبهذه الطريقة تُشعر الأم طفلها بالطمأنينة وبأن ليس من المعيب أن يخطئ، وبالتالي تحفّزه على التفكير والتخطيط قبل أن يُقدم على فعل أي شيء.
فمن الضروري تشجيع الطفل على التجربة وفعل الأمور التي في استطاعته القيام بها حتى وإن فشل في إنجازها مرات عدة. فهذا ينمّي لديه القدرة على التحدّي ومواجهة الصعوبات وعدم الاستسلام للفشل حين يكبر.        

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078