الفنانة التشكيلية سمر دريعي:لا يمكن للغربة أن تقفل باب الحب
تتميز لوحة الفنانة التشكيلية السورية سمر دريعي، بصرامة ألوانها ورزانة تعابيرها. ترسم الوجوه بتعابيرها العميقة، ولا تسمح للشكل بأن يخرج الى مسافة في غير نطاق الدلالة المركزة والعميقة. القساوة والحنية يتلازمان في الإطار، إذا ما لزم أمر الفعل والمعنى. الجمال الصاخب الهادئ في مساحة اللون، صورة متحركة وفق رؤية خاصة ومميزة ولافتة. ألوان سميكة وشفافة، تتناغم في الشكل المفتوح، وثمة لغة هادئة في اللوحة، لغة تعطي الانطباع الكثيف بأن المضمون هو الشكل، والعكس بالعكس.
سمر دريعي الفنانة السورية، مقيمة في بوخاريست (رومانيا) منذ قرابة ربع قرن، درست الفن في رومانيا، واستقرت حيث تعلمت. ومنذ انطلاقتها الى الحياة وهي ترسم وتلون وتسعى الى بناء الشكل والإطار والمعنى الجامع، وتواصل رفع صوتها ورقّتها وحنانها من خلال لوحتها.
تنتمي دريعي الى عائلة فنية عريقة، والدها الفنان والأستاذ عبدالرحمن دريعي الذي تتلمذت على يديه أجيال من الفنانين المبدعين، كان لابنته أن تتأثر بوالدها وتغوص عميقاً في التجربة الفنية المضنية، حسب تعبيرها. وكان من حظّي أنني التقيت بدريعي، في حوار مشوّق عرّفنا أكثر وأكثر على فنانة تتعامل مع لوحتها وألوانها كما يتعامل قائد الأوركسترا مع الكورس الكبير، فماذا تقول؟:
- ما الذي يسكنك أو يأخذك الى الفن المرئي الذي يتشكّل بضربات ريشتك؟
صحيح كما تقول يا صديقي، الفن المرئي أو الشكل تكمله ضربة الريشة. ففي الفن كل خيال جائز. يأخذني الخيال الى اكتشاف معاني الأشياء وعمقها، أحياناً أرمي ريشتي لشدة وضوح حقائق تأتي على شكل صور متتالية (كألبوم)، صور عن حال بلدي والحرب التي دمرت كل شيء من الحجر والبشر والشجر . عن صلتي بلوحتي في كل ضربة ريشة. عن حياة الناس. عن الموسيقى التي تخرج من بين أصابعي وأنا أمدد اللون. عن فلسفة اللون وقراءتها ككتلة في الرسم. عن المرأة التي أتعبتها الحياة وظلمها كل البشر وتناسوا أنها المتحولة كجسد بعكس الرجل لا يتبدل. عن فهمي العلاقات الإنسانية...
- كأنك سيدة الخيال؟
نعم، إنني أحلّق في الخيال مع لوحتي وأغوص في أغوارها .ثم أعود الى الواقع وأقارن بين الخيال والواقع. وأحياناً، يكون الواقع صورة لواقع لا لون فيه سوى الحرب والطعن في الظهر، فأسعى الى تظهير المشهد كما يجب وكما تملي قناعة الوعي في داخلي وفي مجتمعي وناسي ووطني وأرضي.
- هل للتجريد دور فاعل في واقعك ــ داخل لوحتك؟
طبعاً، للتجريد كما للتشكيل دور الفاعل والمتمم للشكل، للمعنى والدلالة. الواقع هو المرآة، والخيال هو المرآة الأخرى الغامضة الضالعة في عتمة أيامنا، وأنا كفنانة، أقوم بدوري وواجبي، أقارن بينهما . فقد حاولت في لوحتي «شمال اللوحة» أن أقيم أحداثاً خيالية بالمفهوم التجريدي في القسم الشمالي من اللوحة وصرحت بها وصرخت من خلال انفعالاتي عن حال الحرب في سوريا. ففي التجريد، إمكانات للتعبير عن الانفعالات الباطنية العميقة. توحي الأشكال البالغة التجريد بأناس حقيقيين، حيوانات مخيفة، وبمخلوقات وأجسام خيالية أيضاً ومشاهد يخفيها التجريد الظاهر للأشكال والألوان.
- لوحتك سوريالية أغلب الظن؟
ربما. وعلى من يتابع لوحتي أن يقول عنها ويفسرها كيفما يشاء. في لوحتي خطوط ومساحات، عليها خطوط مفعمة بالحياة كأنها سوريالية. إنني أتفاعل مع تجارب العقل الباطني...
- كيف ذلك؟
ربما هي محاولة لاستعادة الطفولة. إنني أعمل وفق حركة الوجهين، الوجهان المتقابلان، ربما وضعتهما رغبة في العودة الى عالم نظيف وصاف لا يسكنه سوى الأبرياء. شخوص مباشرة تقرأ تخاطب العين والمشاهد بأسلوب واقعي تعبيري، والدقة في التفاصيل والوضوح في اللون مع التوظيف في الخطوط المتعرجة والخلفية ذات الألوان الباردة لتمثل جمال الأنثى التي تتصف بالغموض والجاذبية . سمات زوايا الجسد تعطي إحساساً بالهجر والغربة والانفصال.
- ماذا ومن تحاكي لوحتك؟
لوحتي لا تحكي قصصاً بل تثير انفعالات وأمزجة متباينة، وظاهرياً تتحدث عن الطبيعة لكنها في الحقيقة تقود الناظر الى طبيعة داخلية من المشاعر والانفعالات. وضربات الفرشاة القوية والطلاء السميك يضيفان غموضاً أكثر الى الجو الانفعالي للوحة، والمثير للجدل هو الجسم الدائري الأصفر الذي وضعته في وسط اللوحة، والذي يوشك على شروق الشمس في وسط الليل لأضيف إليها معاني وسمات.
- بمن تأثرت سمر حتى صارت فنانة؟
أبي علمني الفن وروحه رسمت دربي. لقد تأثرت بأبي وأعتبره قدوتي الفنان والنحات البروفسور عبدالرحمن دريعي . كان معروفاً في الوسط الكردي والعربي في سوريا. كان مشهوراً في رسم البورتريه، وشخوصه فيها دراسة فلسفية نفسية وحسية. توفي الوالد سنة 2002، أتمنى أن أمد جسر الوالد بفنه وعطائه.
- غير الوالد، ألم تكن الطبيعة أو المكان وأمكنة العيش والطفولة، من العوامل المؤثرة أيضاً؟
بالطبع، كل ما مر في حياتي وطفولتي وبيتي وأمكنة عيشي كان له التأثير البالغ الذي قادني الى هذا الوعي الذي أعيشه اليوم. ولا أنسى جغرافيا المكان والبلدة والمدينة التي وطأتها منذ وعيي الأول. وتجد في مزيج ألوان لوحتي وخطوطها كل ما هو قائم في تلك الأمكنة. تجد الوردة والشجرة والوجه والجسد والمياه والطرقات والشوارع والحارات والأمهات والأولاد... لا يمكن للفنان أن ينجح في مغامرته الفنية الإبداعية إذا ما مرّ على ماضيه وحاضره، وأخذ منه ما يساعد بصره ووعيه وثقافته. تمدنا الذاكرة بالحنين، والحنين هو كل التاريخ وكل مسافة الحياة التي عبرناها. لا بد من الذاكرة لتأصيل حركة الوعي في حياة الفنان.
- تعيشين في الغرب بعيدة عن وطنك، ماذا فعل بك الحنين الى وطنك، وهل أنت راضية على غربتك؟
من يرضى بأن يعيش خارج ذاته؟ العيش في الغربة منفى صعب لا يمكن التأقلم معه مهما كانت الحياة ناشطة وفاعلة. يمكنني العيش والسعادة في أرض لم أولد فيها، لكن تبقى سعادة ناقصة وضعيفة ومتشظية. الشيء الوحيد الذي يساعدني على الأمل في غربتي هو ذلك النظر أو تلك البصيرة والرؤيا الواسعة التي أرى من نوافذها سهول بلادي، جغرافيا الزمن والإنسان والحقول الممتدة على مساحة الشجر والحياة والأيام الخالدة في أرض السعادة، أرض الأصل التي عشتها وترعرعت فيها وصقلت وعيي الأول.
- الحب في حياة الفنانة سمر، حب جارف وعارم، حب مفتوح أو مقفل أقفلت عليه غربتك؟
لولا الحب لما استطعنا الصمود داخل هذا المشهد الحياتي القاسي الذي يلفنا. الحب سيدي ومولاي، وسيبقى رايتي وعنوان حياتي. الحب عارم وجارف صحيح، وهو أيضاً، ملطف وصانع البهجة والأمل في حياتي. كيف أرسم وأكتب إذا لم يكن الحب معي وحولي وفي سمائي. قيل الكثير في الحب، وكل ما قيل، وكل ما سيقال عن الحب، ستبقى التعابير أقل، ولا تفي بحق الحب. فماذا تريدني القول عن الحب في لحظة كهذه، تأخذني الى أعماق ذاتي، فأرى الحب يتناولني من الجهات الأربع، من كل المساحات والمسافات، من مساحة الجغرافيا الى مساحة الإنسان. الغربة لا تستطيع إقفال باب الحب أبداً.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024