«توماس دارييل» في بنتهاوس «لينهولانشين» في «شينزين» بالصين: عولمة جمالية فوق السطوح ...!
الكتابة عن هذه الشقة تتطلب اهتماماً خاصاً. ليس على مستوى التوصيف، إنما على مستوى التصنيف. ذلك أن المظهر المعاصر لداخلها، وكذلك خيارات المواد والأشكال والأحجام، تشي بكثير من الحداثة التي تتّسق مع معطيات العصر وتتّفق مع مصطلحاته.
غير أن السمات النافذة، والتي تنتمي في قيمها الجمالية الى «الآرتديكو»، تجعلنا ندقق أكثر فأكثر في كل التفاصيل البديعة التي تم «رسمها» و«توظيفها» بطريقة فريدة تفصح عن ملامح أسلوب جديد بتوقيع مهندس الديكور الفرنسي «توماس دارييل».
فأسلوب «دارييل» يكشف عن محاولة بالغة الجرأة في معالجة التاريخي كواقع معاصر، من خلال إثبات صلابة قيمه الجمالية وصلاحيتها، بل وطواعيتها، لتتآلف مع توالي الحقب والأزمنة.
الشقة تحتل آخر دورين، بمساحة 802 متر مربع، من مبنى حديث ينتمي الى أسلوب مدرسة «شيكاغو» في العمارة، ويقع في مدينة «شينزين» الصينية عند حدود «هونغ كونغ». غير أن «دارييل» عمد الى استثمار هذا المعطى، لكي يطرح أسلوبه الزخرفي الذي يبعث «الآرتديكو» من غفوته المستمرة منذ سنوات عشرينات القرن الماضي.
فنحن هنا أمام وجه شاب لهذا الأسلوب، لا تجاعيد فيه ولا غضون، بل هو يرتدي أحدث صيحات القرن الواحد والعشرين، وآخر خطوطه وأحدث ألوانه وأجرأ أشكاله.
بالتأكيد، العملية ليست بهذه البساطة، فهي تتطلب، إضافة الى المعرفة والمهارة، حساً فنياً خاصاً لتنضوي تحت رايته كل المعالجات والاقتراحات والمساهمات، ومن ثم لتوليد مشهد زخرفي متماسك، متآلف، متناغم، ومتوازن قادر على محاكاة العصر بمفردات أقرب الى الابتكار منها الى التكرار.
إن أكثر ما يثير الإعجاب في هذا المكان، التمازج البديع بين موجودات الشقة وخطوطها وموادها والتفاصيل التي يزخر بها المشهد الآسر، من خلال توحّدها وتزاوجها وإفصاحها عن داخل لا يشبه إلا نفسه.
والشيء الآخر الذي يثير الدهشة، مروحة المواد المختارة واتساعها الذي يتطلب مراناً في السيطرة على استخداماتها وحدودها. فهنا سنجد الرخام والخشب والمعادن والزجاج والمرايا والجلود وحشداً من المواد النبيلة التي أضفت على هذا المكان جواً من الفخامة والرفاهية، من دون أن تسقط في التكلف.
كذلك، ما يلفت النظر هنا، الاقتصاد الملحوظ في الألوان، فمع تعدّد المواد، لا نجد في المقابل بذخاً لونياً لافتاً، بل على العكس سنجد أن الألوان تتسلل الى المشهد فتحتل أماكنها من دون «ضجيج» لوني مثير، وهكذا سنجد أن التمكن من التوزيع العادل للتفاصيل، ولّد فضاءات متميزة يتجلى فيها الهدوء كدعوة الى الاسترخاء والتجدّد.
كل ما في هذه الشقة أخذ قسطه من الدراسة والاهتمام، ومنذ أن نطأ أرض المدخل ندرك جيداً أن ثمة أسراراً كامنة في كل ركن وزاوية.
ولعل ما يلفت النظر أكثر من أي شيء آخر، تلك الوحدة الموضوعية التي تربط كل أركان المكان وفضاءاته وتحيلها الى كل متماسك بقيمه الجمالية والوظيفية. هذه الوحدة تتجلى في تلك الخطوط الدقيقة الأنيقة، والتي تتمدد فوق الجدران وفوق رخام الأرضيات وفوق قطع الأثاث لتصل الى المساهمة في تحديد خطوط الأكسسوارات وعناصر الإضاءة.
فهي ذهبية اللون هنا، وبيضاء هناك، وسوداء في مواضع أخرى. وهي أيضاً التي تملي طبيعة الأشكال الهندسية الصارمة، والتي نجدها أيضاً في كل مكان وصولاً الى الستائر البديعة بأشكالها المبتكرة، والتي تتناغم بكمالية متفوقة مع محيطها وما يحيط بها.
ومن دون أي مبالغة، قد يكون من المستحيل الكتابة عن هذه الشقة كمساحات وفضاءات وأركان وزوايا منفصلة، تبعاً لوظائفها وأيضاً تبعاً لتوزيعها. فهذه الشقة بكل ما فيها وما هي عليه تؤكد متانة مرجعياتها الجمالية.
لذا، فالكتابة عن الصالون مثلاً، لا بد أن تكون تكراراً لما يكتب عن غرف النوم أو صالة الطعام أو المطبخ أو صالات الحمام، والكتابة عن داخل الشقة لا بد أن تتشابه مع ما يُكتب عن مساحاتها الخارجية، حيث بركة السباحة على التراس الكبير ومن خلال الواجهات الزجاجية العملاقة – لا تبدو كأنها خارج الشقة تماماً، بل سنجد أن الداخل قد حظي بنصيب وافر منها.
والألوان القليلة التي تم اعتمادها في الشقة تبدو بالغة الرصانة والاتزان، وبالتأكيد الأناقة المميزة، هي ألوان مركبة وثرية وذات أعماق بصرية آسرة.
يبدو حضورها كأنه تأكيد غير متكلف للتصورات التي تم تأثيث الشقة على أساسها، وهي تصورات متقنة ودقيقة ومدروسة بشكل لا يمكن الإحاطة به من دون معرفة عميقة وتاريخية للتيارات الزخرفية وقيمها الجمالية التي هيمنت على منجزات العمارة والديكور في النصف الأول من القرن الماضي.
فهذه الدقة في تنفيذ الخطوط والأشكال وهذه الخيارات المبهرة للمواد والألوان، تعكس بأمانة مطلقة روحية أجواء «الآرتديكو»، لكن من دون أن تفقد معاصرتها وحداثتها والاستفادة الذكية من المبتكرات والمستجدات على المستوى التقني والمستوى الصناعي، وأيضاً على مستوى تقديمات السوق من متعلقات الديكور والأكسسوارات والإضاءة.
ولا شك في أن هذه الشقة التي استدعت الجماليات الغربية الى الصين، لم تهمل المشتركات الأساسية التي تجمع القيم الجمالية الغربية والشرقية وتوحدها تحت راية الإبداع. ففي عصر العولمة، تبدو الرؤى الجمالية والوظيفية في عالم الديكور أنها تتّفق على منهج واحد لرعاية الإنسان وتأمين الرفاهية والراحة له.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024